أولا : قال معروف الكرخي (ت 200) : "التصوف هو الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق" (الرسالة القشيرية، عوارف المعارف) مشيرا في جزئه الأول إلى طبيعة الجانب المعرفي للتصوف، وهو معرفة حقائق الأشياء وجواهرها، وعدم الاكتفاء بما تعطيه ظواهرها.
أما الجزء الآخر من التعريف فيشير إلى مقام الزهد، وهو التخلي عما في أيدي الناس من أملاك رغبة في الله تعالى وبمثل ذلك يقول ذو النون المصري عن الصوفي : "الصوفي من إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق، وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق".( طبقات الصوفية).
ثانيا : سئل سمنون (ت 290) عن التصوف فقال : "أن لا تملك شيئا ولا يملكك شيء"( اللمع، الرسالة القشيرية) والعلاقة هنا بين المالك والمملوك علاقة تبادلية، فالمالك للشيء يكون مملوكا له، كالمال، فهو مملوك وفي الوقت نفسه مالك لقلب صاحبه ويده، فإن تملك شيئا ولا يملكك شيء، هذا يعني التحقق بمقام العبودية الخالصة حيث تحررت من رق الأكوان وأصبحت عبوديتك خالصة لله وحده.
حتى إن رزقك الله المال فلا تملكه وإنما تحوزه وتوزعه فيما أراد مالكه الحقيقي وعلى هذا كان دعاء أهل الله "اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا".
ثالثا : قال عمرو بن عثمان المكي (ت 291) : "التصوف أن يكون العبد في كل وقت مشغولا بما هو أولى في الوقت"( عوارف المعارف).
وقال أحمد الجريري (ت 304 أو 311) : "التصوف مراقبة الأحوال ولزوم الأدب"( الرسالة القشيرية) .
وقال أبو بكر الشبلي (ت 334) : "التصوف ضبط حواسك ومراعاة أنفاسك"( طبقات الصوفية) وهذه التعريفات كلها تنطلق من حال المراقبة، وبها يتمكن العبد من أداء أعماله على الوجه الأكمل، وكما أريد لها أن تكون.
وحال المراقبة مستفاد من الإحسان في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فأن لم تكن تراه فإنه يراك"( البخاري)..
رابعا : سئل الجنيد (ت 297) عن التصوف فقال : "هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به"( الرسالة القشيرية) وهو قول صادر من حال الفناء، وفيه يفنى العبد عن رؤية نفسه بنفسه ليراها برؤية الله له، فتكون رؤيته بالله ولله ولا حظ للنفس فيها.
ويدخل في المعنى نفسه قول أبي نصر الطوسي (ت 378) : "إسقاط رؤية الخلق ظاهرا وباطنا" (طبقات الصوفية) وهو رؤية الكون على حقيقة أنه قائم بالله لا بنفسه، وأن حقيقته العدم، ولولا قيام الوجود الحق به لما ظهر، أي لما وجد. وهذه الحقيقة لا تدرك إلا من حال الفناء.
خامسا : سئل رويم (ت 303) عن التصوف فقال : "استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد»"( اللمع، عوارف المعارف) ناظرا إلى التصوف من مقام الرضا، الذي يحمد فيه الله على السراء والضراء، إذ لا مجال للاعتراض أو السخط على إرادة الله ومشيئته. والمعنى نفسه نقرأه عند أبي سهل الصعلوكي (ت 387) : "التصوف، الإعراض عن الاعتراض"( الرسالة القشيرية).
سادسا : وهو لـ"رويم" أيضا: وفيه ينتقل بتعريف التصوف من مقام الرضا إلى مقامي الفقر والتوكل. يقول : "التصوف مبني على ثلاث خصال، التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التصرف والاختيار" (الرسالة القشيرية).
سابعا : قيل لعلي الحصري، من الصوفي عندك ؟ فقال : "الذي لا تقله الأرض ولا تظله السماء" (الرسالة القشيرية) وينبه القشيري (ت 465) إلى هذا التعريف قائلا : "إنما أشار إلى حال المحو"( الرسالة القشيرية). هذه جملة من التعريفات، وكل واحد منها يتكئ في معناه على أحد المقامات أو الأحوال بل إن كثيرا منها ينفتح على بعضه بعضا دون أن يكون بينها كبير اختلاف.
كما أن المسئول الواحد عن تعريف التصوف أو الصوفي قد يجيب بغير معنى، انطلاقا من المقام أو الحال الذي يكون غالبا عليه في أثناء الإجابة، أو مراعاة لحال السائل .
ولذلك اختلفت العبارة، والمعنى المشار إليه واحد، وهو كما قال القائل إيقاظ النائمين :" باراتنا شتى وحسنك واحد ** وكل إلى ذاك الجمال يشير".
ولئن كان مفهوم التصوف، في أحد جوانبه المهمة، يستند إلى ثنائية المقامات والأحوال، فإنه من جانب آخر، يغترف من معين الأخلاق الإسلامية. وقد أثرنا ذكر هذا الجانب بمعزل عن التعريفات السابقة ؛ لأنه دعامة قائمة بعينها في استكمال مفهوم التصوف، فلا تصوف بلا أخلاق. ولعل مستند الصوفية الأخلاقي ينبع من عين الآية القرآنية التي يمدح الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيها : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم : 4].
ثم ما ورد في السنة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". "رواه مالك في الموطأ".
ولذلك تجد الصوفية يعتدون بهذا الأصل أيما اعتداد، والتصوف عندهم مقرون بالأدب دون منازع. قال أبو حفص النيسابوري (ت 270): "التصوف كله أدب. لكل وقت أدب، ولكل مقام أدب. فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيع الآداب فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يرجو القبول"( طبقات الصوفية) وقال محمد بن علي القصاب (ت 275) أستاذ الجنيد : "التصوف أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام" (اللمع، الرسالة القشيرية).
وقال أبو محمد الجريري (ت 311) إن التصوف هو : "الدخول في كل خلق سنى، والخروج من كل خلق دني"( اللمع) ونسب الهجويري قولا للإمام محمد الباقر عليه السلام (ت 113 أو 117) قوله : "التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف"( كشف المحجوب) بل إن أبا الحسين النوري (ت 295) يتجاوز البعد المعرفي للتصوف ليقيم أصوله على الأخلاق وحسب. قال : "ليس التصوف رسوما ولا علوما، ولكنها أخلاق"( طبقات الصوفية).
ولعل النوري عدل إلى هذا الرأي لشيوع أدعياء التصوف في عصره الذين يتمسكون بالمعرفة الصوفية النظرية دون العمل بها. ومن المعروف أن المعول عليه في المعرفة عند الصوفية هو تلك المعرفة الذوقية الصادرة عن حقيقة المجاهدة بالشريعة.
وهناك أقوال أخرى غير قليلة تعتمد البعد الأخلاقي في الترجمة عن مفهوم التصوف، مما يدل على أن الأخلاق السنية قاعدة لا غنى عنها في إحكام مبنى التصوف ومعناه. ولقد ظلت هذه القاعدة ثابتة وممتدة حتى عصر ذروة التصوف مع ابن عربي (ت 638) الذي تبنى مقولة أسلافه من أن "التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف"( الفتوحات المكية).
والسؤال الذي يبقى قائما هو : هل تمكن الصوفية من وضع تعريف جامع مانع للتصوف، بحيث يشتمل على الجانب المعرفي والجانب الأخلاقي، فضلا عن ركني المقامات والأحوال؟
لعل الجنيد، وهو المنعوت برئيس الطائفة، يلقي الضوء على هذا التساؤل فمن أقواله الجامعة في تعريف التصوف : "تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدعاوى النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الشريعة"( التعرف لمذهب أهل التصوف ، وورد في طبقات الصوفية).
وهذا التعريف على طوله يختصر في شقين، الأول يتمثل في مجاهدة النفس على وفق الشريعة المحمدية، والآخر في إدراك الحقيقة، زبدة الشريعة، وبهذين الشقين يكتمل معنى التصوف. ولكن بما أن المصطلح يجنح إلى الإيجاز، وإفادة المعنى بأقل قدر ممكن من الألفاظ، فقد نجد مبتغانا عند أبي بكر الكتاني الذي يعرف التصوف بأنه : "صفاء ومشاهدة", فالصفاء، هو المعبر عنه بمجاهدة النفس (= الوسيلة) والمشاهدة، هي المعبر عنها بالحقيقة (= الغاية) والحقيقة عند الصوفية، شهادة أن لا إله إلا الله كما شهدها الله عز وجل في حق نفسه، والملائكة، وألوا العلم(قضية التصوف)، وذلك في قوله تعالى : ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران : 18] وبذلك يكون هذا التعريف مؤهلا للتعبير عن معنى التصوف، من ناحية فنية وموضوعية؛ لكونه مختصرا، ومشتملا على وسيلة الصوفي في الوصول إلى حقيقة التوحيد.
ثانيا : مصادر التصوف :
لقد كثر الخلاف في مصادر التصوف على أن البحث هنا لن يدخل في معترك الخلاف بقدر ما سيحاول استخراج أركان إسلامية عامة تستحق أن تكون أصولا للتصوف. ولقد كان الصوفية الأوائل، ولا سيما المعنيون بتأريخ التجربة الصوفية، قد تصدوا لبيان هذه المسألة، فاستخرجوا من مصدري التشريع الإسلامي، الكتاب والسنة، ما يؤكد شرعية التصوف، وانتماءه الأصيل للإسلام.
وها هو ذا الطوسي يذهب إلى تقييد التصوف بأربعة أصول إسلامية هي(اللمع): -
1- متابعة كتاب الله عز وجل.
2- الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
3- التخلق بأخلاق الصحابة والتابعين.
4- التأدب بآداب عباد الله الصالحين.
وبما أن التصوف عند أول تكونه أخلاقا دينية، فمن الطبيعي أن يكون مصدره الأول إسلاميا، فقد استمد من القرآن والسنة وأحوال الصحابة وأقوالهم، على أن أقوال الصحابة رضي الله عنهم لم تكن تخرج عن الكتاب والسنة، وعلى هذا يكون المصدران الأساسيان للتصوف في الحقيقة هما القرآن والسنة، ومن القرآن والسنة استمد الصوفية أول ما استمدوا آراءهم في الأخلاق والسلوك، ورياضاتهم العملية التي اصطنعوها من أجل تحقيق هدفهم من الحياة الصوفية. (مدخل إلى التصوف الإسلامي).
فما من شيء يتحدث عنه فقهاء السَّيْر إلى الله ممن اجتمعت لهم شريعة وتَحَقُّق إلا وله أصله الأصيل في الكتاب والسنة(مذكرات في منازل الصديقين والربانيين)، ويتفق الجميع على ضرورة ووجوب الرجوع إلى مصدري الإسلام: الكتاب والسنة، وعدم الخروج عليهما عقيدة ولا شريعة ولا سلوكا، ورد ما خرج عنهما من اعتقادات أو تشريعات أو سلوكيات، فأصول التصوف عند الصوفية الحقيقيين هي الكتاب والسُّنَّة وما يرجع إليهما من مصادر التشريع الأخرى التي ذهب إليها علماء الأمة.
فهذا الإمام الجنيد سيد الطائفة يقول: "مذهبنا -ويقصد التصوف- مُقَيَّد بأصول الكتاب والسنة". وقال أيضا: "الطُّرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم واتّبع سنته ولزم طريقته فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه"( الرسالة القشيرية).
وقال الإمام القشيري: "إن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل، وعرفوا ما هو حق القدم، وتحققوا بما هو نعت الموجود عن العدم".( الرسالة القشيرية).
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: "من دعا إلى الله بغير ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مُدَّعٍ". وقال أيضا: "ليس هذا الطريق بالرهبانية ولا بأكل الشعير والنخالة، وإنما هو بالصبر على الأوامر واليقين في الهداية. قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾" [السجدة: 24].
وقال أيضا: "إذا عارض كشفُك الصحيحُ الكتابَ والسنةَ فاعمل بالكتاب والسنة ودع الكشف وقل لنفسك: إن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها لي في جانب الكشف والإلهام". (إيقاظ الهمم).
وقال الإمام الشاطبي عن الصوفية: "إن كثيرًا من الجُهَّال يعتقدون فيهم –أي الصوفية- أنَّهم متساهلون في الاتِّباع، وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشَّرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به، فأول شيء بنوا عليه طريقتهم اتِّباع السنة واجتناب ما خالفها" ( الاعتصام) .
وقال أيضا: "إن الصوفية هم المشهورون باتِّباع السنة، المقتدون بأفعال السلف الصالح، المثابرون في أقوالهم وأفعالهم على الاقتداء التَّام والفرار عما يخالف ذلك، ولذلك جعلوا طريقتهم مَبْنِيَّة على أكل الحلال واتِّباع السُّنَّة والإخلاص وهذا هو الحق".( الاعتصام).