بوابة الحركات الاسلامية : صيحات التجديد الديني (9) (طباعة)
صيحات التجديد الديني (9)
آخر تحديث: السبت 10/01/2015 10:12 م
د.رفعت السعيد د.رفعت السعيد
ولعل أبرز المتناقضات الفكرية عند الأفغانى قد أتت بمناسبة إصداره كتابه الشهير "الرد على الدهريين" وقد أصدره كرد على خطاب أتاه من مولوى محمد واصل مدرس الفنون الرياضية فى مدرسة الأعزة بمدينة حيدر أباد من بلاد الهند قال فيه: "يقرع آذاننا هذه الأيام صوت نيتشر [يقصد النشأة الطبيعية للكون] ويصل إلينا من جميع الأقطار الهندية، ولقد سألت كثيراً ما هى حقيقة النيتشرية وهل هى طريقة تنافى أصول الدين؟ ولكن لم يفدنى أحد ولهذا ألتمس من جنابكم أن تشرحوا حقيقة النيتشرية والنتشريين بتفصيل ينفع العله ويشفى العله والسلام" [عبد القادر المغربى – جمال الدين الأفغانى – سلسلة اقرأ – صـ72] ولم يكن الأفغانى على معرفة باللغات الأجنبية، ولم يكن من ذلك الصنف الذى يقول لا أعلم، ومع ذلك ألف كتاباً شن فيه هجوماً عاصفاً عن من أسماهم الدهريين، وقال "النيتشر اسم للطبيعة، وطريقة النيتشر هى الطريقة الدهرية، ومقصد أرباب هذه الطريقة هو محو الأديان، ووضع أساس الإباحة والاشتراك فى الأموال والأبضاع بين الناس عامة. وأينما ذهب ذاهب فى غور مقاصد الآخذين بهذه الطريقة تجلى له أنه لا نتيجة لمقدماتهم سوى فساد المدنية، وانتقاض بناء الهيئة الاجتماعية الإنسانية" [جمال الدين الافغانى – الرد على الدهريين – ترجمة محمد عبده وعارف أبو تراب – الطبعة الرابعة (1914)] ويمضى الأفغانى "واسم الطبيعة فى اللغة الفرنساوية ناتور وفى الإنجليزية نيتشر وتسمى هذه الطائفة عند العرب بالطبيعيين، وعند الفرنسيين نتوراليسم أو ماتيرياليسم الأولى من حيث هى طبيعية والثانية من حيث هى مادية. وقد يُظهر الماديون أنفسهم فى أوقات بدعوى السعى فى تطهير الأذهان من الخرافات وتنوير العقول بحقائق المعلومات، وتارة أخرى يتمثلون فى صورة محبى الفقراء وحماة الضعفاء وطلاب خير للمساكين ولكن وكيفما ظهروا كانوا صدمة على أبناء قومهم يميتون القلوب الحية بأقوالهم وينفثون السم فى الأرواح بآرائهم" وبعدها يتوجه الأفغانى إلى نظرية داروين قائلاً "ورأس القائلين بهذا داروين وقد ألف كتاباً فى بيان أن الإنسان كان قرداً ثم عرض له التنقيح والتهذيب فى صورته تدريجياً على تتالى العصور المتطاولة وبتأثير الفواعل الطبيعية الخارجية، وعلى رأى داروين هذا يمكن للبرغوت أن يصير فيلا بمرور القرون وأن ينقلب الفيل برغوثاً" ثم ينحنى ليهاجم السوسياليست [الاشتراكيين] فيقول: وهى طائفة تسعى لتقرير الاشتراك فى المشتهيات ومحو حدود الامتياز حتى لا يعلو أحد على أحد ثم هو يهاجم الثورة الفرنسية والأضاليل التى بثها الدهريان ووليتر [فولتير] وروسو والتى أضرمت نار الثورة الفرنسية وفرقت أهواء الأمة وأفسدت أخلاق الكثيرين"، ثم يكون الموقف النقيض فى كتاب "خاطرات جمال الدين" ويبدأه قائلاً "وإذا سلمت فى كتابة خاطراتى هذه من خطر الطاغية وطواغيته فستصادف من أهل الجمود عنتاً وقلباً للحقائق" ويقول "سئلت عن قول المعرى والذى حارت البرية فيه "حيوان مستحدث من جماد" وهل كان يقصد ما عناه داروين بنظرية النشوء والارتقاء؟ ولا أغالى ولا أبالغ إذا قلت ليس على سطح الأرض شيء جديد بالجوهر ومقصد أبو العلاء هو نظرية النشوء والارتقاء وقد اهتدى داروين بما قاله علماء العرب قبله إذ قال أبو بكر بن بشرون فى رسالته لأبى السمع: إن التراب يستحيل نباتاً والنبات يستحيل حيواناً، وإن أرفع المواليد هو الإنسان آخر الاستحالات.. فالسابق فى هذا القول علماء العرب وليس داروين مع الاعتراف بفضل الرجل وثباته على تبعاته وخدمته للتاريخ الطبيعى، وإن خالفته وخالفت أنصاره فى مسألة نسمه الحياة" [الخاطرات] وقد امتدح الأفغانى شبلى شميل بسبب كتابه "شرح رسائل بوخنر على نظرية النشوء والارتقاء"، وامتدح "جرأته على بث ما يعتقده من الحكمة وعدم تهيبه من سخط الجموع [جمال الدين الأفغانى – خاطرات جمال الدين الحسينى – أملاه على محمد باشا المخزومى – بيروت (1931)] كما أنه امتدح الثورة الفرنسية متحدثاً عن أمجادها وأثنى على الاشتراكية مؤكداً أن أول من نادى بها هم الخلفاء الراشدين، وأنها تعطى حقاً مطلوباً للشعب العامل.