الجزء الثالث من تحقيق الكاتب "أمير طاهري": إيران والإخوان.. الجذور الأيديولوجية للشراكة (الحلقة 3): مير لوحي.. «الأصفهاني الخجول» الذي صار لاعبا رئيسا في السياسات الإيرانية المضطربة
* تنظيمات موازية
* في البداية، كان على نواب معالجة قضية مهمة تتعلق بما إذا كان سيكرر الازدواجية التي خلقتها جماعة الإخوان المسلمين في مصر أم لا. فقد أسس المسلحون المصريون جناحا عسكريا لاستخدامه في اغتيال الشخصيات العامة وممارسة الضغوط على الخصوم. وفي الوقت نفسه، كانت الكتلة الرئيسة للحركة، تركز على التعليم ونشر التقاليد والأخلاقيات الإسلامية في المجتمع. لكن مصلحة نواب المباشرة، كانت تقتضي تأسيس قوة عسكرية تحرك الأحداث و«تسرع مسار التاريخ»، تاركا مهمة الدعوة للقيم الإسلامية على غرار جماعة الإخوان المسلمين للآخرين، وهو ما بدأ بعد خمسة أعوام، حينما تأسست جماعة فرعية للفدائيين أطلق عليها «مجتمع الإخوة» اختارت سيد حسن إمامي رئيسا لها.
كان نواب يشعر بأن عليه أن يقوم بشيء مبهر لكي يجري التعامل معه بجدية، باعتباره لاعبا رئيسا في السياسات الإيرانية المضطربة والخطرة في ذلك الوقت. فقد أحيا فكرة قتل كسراوي، وتمكن من الحصول على فتوى جديدة من آية الله حسين القمي. وهذه المرة، وفر شاه آبادي نحو 8000 ريال، كانت تعادل في ذلك الوقت، 75 دولارا، لشراء أسلحة لقتل كسراوي. ووفقا لمعظم الروايات، فإن من قام بتوصيل تلك الأموال من شاه آبادي، هو روح الله الخميني، الذي سيؤسس، لاحقا، الجمهورية الإسلامية، وكان في ذلك الوقت، أحد طلاب آبادي. حينذاك، كانت طهران تعج بالأسلحة التي خلفها مئات العملاء الألمان الذين اختفوا قبل وصول القوات الروسية والبريطانية، وقد وفّر مبلغ الـ75 دولارا الذي جلبه الخميني، إمكانية شراء أربعة مسدسات ألمانية من طراز «وغر بارابيلوم». ومع ذلك، فإن محاولة اغتيال كسراوي أمام حزب «باهماد أزاديجان»، أخفقت. وسرعان ما هرب فريق الفدائيين الذي قام بالمحاولة. وبعد ذلك بشهور، تم اغتيال كسراوي بالأسلحة البيضاء داخل المحكمة بطهران.
المدهش، أن السلطات لم تبذل جهودا حثيثة لملاحقة قتلة كسراوي ومعاقبتهم، فقد كانت الاغتيالات السياسية ظاهرة جديدة في السياسة الإيرانية، ما جعل المسؤولين يشعرون بأن الخوف شلهم. فقد كان تنظيم «فدائيو الإسلام» الغامض، يستدعي إلى الأذهان إحدى الجماعات التي ظهرت في العصور الوسطي، وهي جماعة «الحشاشين»، التي كان يقودها حسن صباحي، وكانت تتمركز في أعماق جبال آلموت بشمال غربي طهران. وإدراكا للخوف الذي هيمن على السلطات، أنشأ نواب مركزا للتدريب العسكري في «فاشافويه»، ثم في ضاحية نائية في طهران. وإلى هذا المركز، قام رجال نواب باصطحاب صحافي شاب هو ماجد دوامي، وهو معصوب العينين لزيارتهم. وكان دوامي سيكتب تقريرا عن «المشهد السريالي الذي يتعلم فيه المراهقون والشباب الصغار غير القادرين على حمل السلاح، كيفية التصويب».
وبينما كان نواب يتعلم إطلاق النار، كان عليه أيضا معالجة المشكلة الكبرى المتعلقة بتأسيس إطار سياسي. وقد تمكن من معالجتها عبر الاستعانة بعدد من منشورات جماعة الإخوان المسلمين التي جلبها معه في رحلاته. وبعد أسابيع من كتابة فصول تبدو مفككة، وتتناول قضايا متباينة، أنتج نواب كتيبا تم طباعة نحو 10 آلاف نسخة منه، وتوزيعه مجانا في طهران وغيرها من كبرى المدن الإيرانية. وجاء كتيب نواب تحت عنوان «دليل الحقيقة»، وكان يتكون من ثلاثة أقسام. الأول، يعالج كيف يجب على المسلمين أن يعيشوا في مجتمع متأثر، إلى حد كبير، بالغرب وبعيد عن الإسلام. وعلى نحو مدهش، كشف زعيم الفدائيين، عن موقف معتدل في مواجهة الغرب. فهو لا يرفض الحضارة الغربية على نحو قاطع. كما أنه يستشهد باليابان باعتبارها نموذجا للحضارات غير الغربية القادرة على أن تأخذ من الغرب ما يفيدها وتترك ما لا يفيدها. ومن ثم، فإنه يقبل إرث إيران من الثورة الدستورية، بشرط ألا يمرر البرلمان المنتخب أي قوانين من دون الحصول على موافقة صريحة من رجال الدين الشيعة. في هذا السياق، يشير إلى الشيخ فضل الله النوري، الملا الذي كان يخطب مدافعا عن «الشرعية الدينية» في مواجهة الدستورية العلمانية، في بداية العقد الأول من القرن العشرين. (لاحقا أدين نوري بتهمة إثارة الفتنة وحكم عليه بالإعدام شنقا). ومن الأشياء الأخرى المثيرة للدهشة، أن نواب احتفى بالملكية باعتبارها أفضل نظام لحكم المسلمين حتى يعود «المهدي المنتظر». وقد وصف ملك المسلمين باعتباره «ملك الأمة»، لكنه حذر محمد رضا شاه من «لاعقي الأحذية الخونة» الذين يستغلون سلطاته. ولاحقا، زعم نواب في مذكراته التي نشرتها صحيفة «خواندنيها» الأسبوعية، بأنه في وقت ما من عام 1944، كان يفكر في اغتيال الشاه الصغير ولكنه غير رأيه. هل أقام نواب صلات مع حاشية الشاه؟ ظل هذا السؤال محل جدل عميق في إيران لستة عقود.
وفي كتابه، كان نواب واضحا في التأكيد على أن النساء لا يمكن أن يصبحن مساويات للرجال، وأنهن يجب أن يوفرن طاقتهن وطموحهن للعمل على أن يصبحن أمهات صالحات.
* ضد رجال الدين
* يعالج القسم الثاني من الكتاب، قضية البترول التي كانت من القضايا الساخنة في قلب الجدل الوطني الإيراني. والمثير للاهتمام، هو أن نواب لا يتحدث عن التأميم باعتباره الخيار الأفضل، وهي الفكرة التي تبناها، لاحقا، عدد من السياسيين بمن في ذلك محمد مصدق ومظفر البقاعي.
ويشتمل القسم الثالث من الكتاب، على هجوم عنيف على كبار رجال الدين الشيعة، مستهدفا آية الله العظمى محمد حسين بروجردي الذي كان يعد، في ذلك الوقت، أكبر مرجع تقليد في قم. وعلى الرغم من أن نواب لا يذكر اسم بروجردي، فإن الهجوم الذي شنه عليه لا يترك أي لبس في التعرف على هويته.
وكان لكتيب نواب، تأثيرا عميقا على تلك الأقلية من رجال الدين والمفكرين، ممن كانوا ينظرون إلى الإسلام ليس فقط باعتباره دينا، ولكن باعتباره آيديولوجية سياسية. كما ساهم كتاب نواب، في إلهام الخميني أثناء تأليفه كتاب «الحكومة الإسلامية» الذي سيصبح الأساس النظري للجمهورية الإسلامية لاحقا. وقد احتفى نواب بفرضية لامبتون، التي تفيد بأن الإيرانيين يجب أن يعيشوا في كنف نظام ديني، ولكنه لم يطالب بأن يشارك رجال الدين مباشرة في الحكم. كما اقترب الخميني من موقف لامبتون من خلال الدعوة «لولاية الفقيه» وممارسة رجال الدين للسلطة.
وعلى الرغم من أن كتاب نواب لا يتجاوز، من الناحية النظرية، كونه نشرة سطحية مخصصة لجذب المشاعر أكثر من مخاطبة العقول، فإنه يعد وثيقة مهمة نظرا لتأكيده على ضرورة قيام الأفراد بأفعال مباشرة. وبقبول مفهوم أن «الغاية تبرر الوسيلة»، أصبح الكثير من أجيال الإسلاميين الإيرانيين، المتأثرين بإخوان مصر، يؤمنون بأنهم يستطيعون أن يكذبوا ويغشوا، بل ويقتلوا لخدمة هدف نبيل: وهو تأسيس حكم إسلامي حقيقي. ولم يكن الخميني الشخص الوحيد الذي وقع أسيرا لكاريزما نواب. فلاحقا، ردد علي شريعتي، الكثير من أفكار نواب. ويزعم علي خامنئي، الذي أصبح لاحقا «المرشد الأعلى»، أنه حضر عددا من اللقاءات التي تحدث فيها نواب في طهران في بداية الخمسينات. فقد كتب خامنئي: «انبهرت به، فكان سحر شخصيته قادرا على جذب الجميع».
وعلى المدى القصير، لم يكن تأثير نواب كمنظر للسياسات الإسلامية ذا بال، ولكن دعوته للقيام بفعل مباشر، وجدت رواجا مدهشا. فقد استهل تنظيمه (الفدائيون)، والتنظيمات التابعة له، عصرا من الاغتيالات السياسية لم يكن مسبوقا في إيران، منذ الوقت الذي ظهرت فيه جماعة الحشاشين قبل ذلك بألف عام. وعلى الرغم من فشلها، فإن محاولة اغتيال الشاه استخدمت كحجة لحظر حزب توده، على الرغم من أن الشخص الذي كلّف بعملية الاغتيال، وهو ناصر فخر أرايي، كان صحافيا في صحيفة «شعار الإسلام» ولم يكن شيوعيا. كما تعرّض الكثير من الصحافيين العلمانيين أيضا للاستهداف. فقد قتل كل من محمد مسعود، رئيس تحرير «مرد أمروز» أو «رجل اليوم»، وأحمد دهقان، ناشر صحيفة «مصور طهران» الأسبوعية الذي اشتهر بانتقاداته للإسلاميين.
كما شن الفدائيون أيضا، الكثير من الهجمات الشرسة، فقد اغتالوا وزير الثقافة أحمد زنقانة، ورئيس الوزراء السابق، عبد الحسين هزير. ولاحقا، أخفقت محاولات اغتيال كل من رئيس الوزراء الأسبق حسين علاء، وحسين فاطمي ناشر صحيفة «بختار إمروز» أو «الغرب اليوم».
وجاءت أقوى الهجمات التي شنها الفدائيون في 7 مارس (آذار) 1951، عندما قاموا باغتيال رئيس الوزراء الجنرال علي رازمارا، خلال الصلاة في أحد المساجد الكبرى في طهران. في ذلك الوقت، وفي رسالة إلى نواب نشرت في صحيفة «شعار الإسلام»، هنأ «المرشد الأعلى» للإخوان المسلمين في مصر، حسن إسماعيل الهضيبي، «الإخوة الإيرانيين» بمناسبة «القضاء على عميل الكفر». وفي السنوات اللاحقة، تم التشكيك في نسبة تلك الرسالة إلى الهضيبي، أثناء محاولة المصريين وضع استراتيجية جديدة تستهدف إبعاد جماعة الإخوان عن العنف.ونظرا لرعبها من الفدائيين، لم تحاول السلطات الإيرانية معاقبة القائمين على عمليات الاغتيال، أو حتى إلقاء القبض عليهم. وكان القتلة، بمصاحبة نواب، يقومون بزيارة كبار رجال الدين في طهران، وكان من أبرزهم آية الله أبو القاسم كاشاني، لإبراز حصانتهم في سلسلة من الصور التذكارية. كما جال نواب عددا من المدن لترويج آيديولوجيته بشأن الفعل المباشر واستقطاب فدائيين جدد.
وانتشرت الإشاعات بشأن تمتعه بحماية أشخاص نافذين، بما في ذلك المحكمة الملكية والأوساط الموالية للبريطانيين في طهران. ويزعم المؤرخ محمد أميني، أنه قبل أسبوعين من اغتيال رازمارا، استقبل الشاه نواب في لقاء قصير. وعندما قام الشاه بعزل رئيس الوزراء في عام 1953، أرسل نواب برقية تهنئة إليه. ووفقا لتقارير لم تثبت صحتها، تمت مكافأته بالسماح له بالتحدث إلى جمهور داخل القصر. على أي حال، تم منح نواب، بعد أسبوع من تلك البرقية، جواز سفر و«مساهمة» مالية لكي يتمكن من القيام بجولة في الكثير من الدول العربية، بما في ذلك العراق والأردن ولبنان وفي النهاية مصر.
* لقاء ناصر في القاهرة
* وفي القاهرة، التقى نواب بقيادة الإخوان، كما التقى بالرئيس جمال عبد الناصر، في لقاء تم الترويج له على نحو واسع في إيران. وزعمت زوجة نواب، لاحقا، بأن زوجها نجح في تحويل نصف أعضاء حكومة ناصر إلى المذهب الشيعي. وفي لقاء مع قيادة الإخوان في القاهرة، تم التركيز على اتخاذ إجراءات مشتركة ضد «البدع في الإسلام». وفي القدس، التي كانت جزءا من المملكة الأردنية في تلك الفترة، ألقى نواب بخطة في مؤتمر إسلامي إلى جانب ممثلين عن أفرع جماعة الإخوان الأخرى. والمكان الوحيد الذي لم يلق فيه نواب الترحيب كان قم، قلب المذهب الشيعي الإيراني؛ حيث كان آية الله العظمى بروجردي ينظر إلى الفدائيين باعتبارهم مغامرين، تسيء سلوكياتهم لسمعة الإسلام كدين للتسامح والمنطق. ومن ثم فإنه عندما جاء نواب، بمصاحبة اثنين من كبار معاونيه، وهما محمد واحدي ومحمد ذو القدر إلى قم، لحضور اجتماع للفدائيين، أمر بروجردي طلابه، بقيادة حارسه الشخصي، محمد لور، وهو رجل قوي، بطردهم من المدينة. فقاموا بإلقاء نواب ورفيقه في البحيرة التي تقع على مقربة من ضريح المعصومة، فيما كان حشد من المتفرجين يقهقه بالضحك.
وقد مثلت تلك الحادثة بداية سوء حظ ذلك الفرع الإيراني للإخوان المسلمين. وبعدما أدركوا أنهم أصبحوا معرضين لخطر الاعتقال، اختبأ نواب ورفاقه في سبتمبر (أيلول) 1955. فقد كانوا قد حققوا الغرض الموكل إليهم من قبل تلك القوى الغامضة التي كانت تحميهم لعقد كامل، وأصبحت نهايتهم محتومة. وفي نوفمبر (تشرين الثاني)، تم إلقاء القبض على نواب ومائة من معاونيه ومحاكمتهم في عدد من التهم، بما في ذلك القتل، وحكم على نواب وثلاثة من مساعديه هم تاهمبسي، الرجل الذي قتل رازمارا، وذو القدر، الرئيس التنظيمي للجماعة، وواحدي، منظر الجماعة، بالإعدام وتم تنفيذ الحكم في 18 يناير (كانون الثاني) 1956. وخلال المحاكمة، أثبت نواب أنه كان أضعفهم، حيث بكى وتوسل للحصول على عفو ملكي من دون جدوى. ولم يكن يعلم أنه بعد ربع قرن من تلك الواقعة، سوف يصبح أتباعه في السلطة في طهران، وأن أحد معجبيه، وهو الخميني، أعلن نفسه «كزعيم لكافة المسلمين في جميع أنحاء العالم.
(الشرق الأوسط)