بوابة الحركات الاسلامية : رجل الدين في الأدب المصري 2..يوسف إدريس (طباعة)
رجل الدين في الأدب المصري 2..يوسف إدريس
آخر تحديث: الخميس 25/06/2015 08:09 ص
مصطفى بيومي مصطفى بيومي
الشيخ عبدالعال، إمام مسجد الشبوكشي في قصة "أكان لابد يا "لي لي" أن تضيئي النور"، مجموعة "بيت من لحم". المسجد في حي "الباطنية"، الذي كان لفترة طويلة معقلاً ووكرًا لتجارة المخدرات، بكل ما يترتب عليها ويقترن بها من سلوكيات تنأى عن الالتزام بالمستقر الراسخ من مبادئ الدين القويم.
الأتقياء من سكان الحي قليلون، والأغلبية الساحقة من العصاة الذين يضيقون بالوعظ والتوجيه، وتضجرهم النصائح التقليدية التي تحض على مكارم الأخلاق: "يرغبون الله حقًا وفي أعماقهم مؤمنون.. ولكن الحياة، حياتهم، لا تحتمل الله الكامل.. إما أن يقبلهم هكذا.. وهكذا يعبدونه.. وإما فلا.. لهم دينهم حقًا.. الصلاة فيه ركعتا جمعة كل أسبوع، والنهار صيام في رمضان هذا صحيح.. لكن المهم أن من الإفطار إلى السحور حشيش.. وأيمان بالله ما هو حرام.. اديني آية نزلت تحرمه.. الزكاة معظم أغنيائهم يخرجونها فعلا، بل إن أحدهم كان عينيًا كما أمر الدين، ومن "بضاعته" كان يزكي.. والحج تاج على رؤوس كبار المعلمين وعلى الأقل يتيح القسم ساعة الصفقات بشباك الرسول".
عصاة وليسوا كفارًا، والقانون العفوي الفطري الذي يحكمهم يمزج بين الدنيا كما يعيشونها والدين كما يفهمونه، حيث لا ينبغي له أن يتعارض مع مصالحهم وأنشطتهم وأمزجتهم. ليسوا كفارًا بالمعنى التقليدي الشائع للكلمة، فهم لا يعادون الدين ولا يتخذون منه موقفًا سلبيًا واعيًا، لكن الأمر عندهم بسيط يخلو من التعقيد، ولا انشغال بالدين الصحيح النقي كما يفهمه المتخصصون المحترفون.
النجاح النسبي الذي يحققه الشيخ المثالي عبدالعال، وثيق الصلة بحلاوة صوته وبراعة أدائه الفني، دون نظر إلى جوهر ومضمون العقيدة الدينية الصحيحة: "قرأت لهم مرة فأعجبهم صوتي واستعادوني.. وأحسست فجأة أني دخلت قلوبهم.. وأن المغلوقين يفتحون الأبواب.. ولم يعودوا يريدون مني إلا الصوت والتلاوة.. رفضوا الواعظ والمبشر والإمام ولم يعد أمامي إلا صوتي يجذبهم لما أريد.. الله المجرد صعب.. ولتكن البداية على هدى آية من آياته".
الصوت الجميل العذب بمثابة الإبداع الفني المتوهج الذي يروق لأصحاب الأمزجة والقدرة على التذوق، لكن هؤلاء أنفسهم لا يبدون اهتمامًا بمضمون الخطاب وتعاليم الدين وثوابت العقيدة، وكل ما يتضمنه النص القرآني. لا يمكن إدراك طبيعة وخطورة المعركة التي يخوضها الشيخ عبدالعال بمعزل عن الوعي بخصوصية وتفرد شخصيته، التي تنأى به عن مشابهة العاديين والتقليديين من الوعاظ والأئمة، الأقرب إلى الموظفين الملتزمين بأداء المتاح لهم من الواجب، دون إفراط في الحماس: "من صغري أحببت الله.. وبإرادتي ربطت وجودي بدينه.. أكاد أبسم إشفاقًا ممن يتصورون أني دخلته لأصبح فقيهًا ومقرئًا ما دام قد وهبني الله هذا الصوت.. أعرف أنه جميل وأني كي أداريه لا أكشف للناس كل جماله.. ولكن ما لهذا اخترت الأزهر.. وما لهذا حفظت القرآن صغيرًا.. ومن ابتدائي مدارس حولت إلى ابتدائي أزهري.. السبب أعمق.. السبب إلهي.. السبب موقفي من كون ليس فيه ما يستحق الحياة سواه".
الدعوة إلى الدين ليست عملاً يمتهنه الشيخ عبدالعال، بل إنها رسالة روحية سامية، والإيمان العميق المخلص بالله هو مفتاح شخصية الشاب المتخرج حديثًا من الأزهر. لا يبغي من وظيفته أجرًا ماديًا يكفل له الرزق وتلبية الاحتياجات المادية الضرورية، ذلك أن الطموح الأساس والأسمى هو الدعوة ونشر النور الإلهي الذي يغمر قلبه ويوجه خطاه.
هل يستطيع الشاب ذو النزعة المثالية أن يظفر بالنجاح المشبع الذي يضفي على حياته معنى يبحث عنه ويراهن عليه؟!. يأبى القدر إلا أن يقذف به في التجربة الصعبة المحاطة بوفرة من العقبات والعراقيل، ويتصدى الشيخ الشاب بإرادته الحديدية لمواجهة التحديات. يغادر عزلته، ويندمج مع الناس ليفهم ويستوعب أفكارهم ورؤاهم واحتياجاتهم: "إلى القهاوي أجلس، إلى الداعين أزور، لا أدير الوجه لما يحملون أو يدخنون أو يفعلون، بقلبي معهم أرى وأسمع.. وأقترب".
المزيد من الاقتراب يعني تحديات جديدة، فالشكاوى التي يسمعها الشيخ عبدالعال أقرب إلى الاعترافات المشينة، والأسئلة التي تُطرح عليه لا تنتظر إجابة بقدر ما هي تجسيد لطبيعة الخطايا والآثام المهيمنة على الأغلب الأعم من سكان الحي. للنساء حكايات محملة بالفتنة والإثارة والشهوة، ووفق تعبير الشيخ نفسه: 
"هؤلاء أناس انفرد بهم الشيطان طويلاً وكثيرًا.
ولم يعودوا يعرفون طريقًا آخر إلا طريق الضلال.
الشيطان".
ينفرد الشيطان بأبناء الحي ويحقق انتصارات مدوية في ساحة لا ينافسه فيها واعظ يبشر بالخير ومكارم الأخلاق، فهل يملك الشيخ الشاب أن يواجه الشيطان ويتغلب عليه؟!. لا شك أن الهزيمة التي طالته رهينة بتوهم القدرة على مواجهة تفوق طاقة العاديين من البشر. الغرور، حسن النية نبيل الدوافع، يفضي به إلى هزيمة متوقعة مستحقة، والفاتنة خارقة الجمال "لي لي" هي الشيطان البشري الذي يعصف بعبدالعال. 
الفتاة الشيطانية الجميلة نصف مصرية نصف إنجليزية، وسحرها الأخاذ صاعق تصعب مقاومته. فتنتها الطاغية تطيح بإرادة عبدالعال، فهو إنسان غير معصوم، لا ينتمي بالضرورة إلى عالم الملائكة، وإذا به يتحول من هجوم الواثق القوي إلى دفاع المضطر الضعيف: "أنا الذي جاء يطرد من هنا الشيطان وتضاءلت طموحاته حتى أصبحت مجرد أن يبعد فقط عن نفسه الشيطان، وعن أوكاره وتنكراته؟ أجد نفسي هذ الفجر في الشرك.. تمامًا في الشرك.. أنا الذي أردت هزيمته في الناس أجري خوفًا من أن يهزمني في نفسي".
لا مفاجأة في انتصار الشيطان على الإنسان، ولا غرابة في انهيار مقاومة الشيخ عبدالعال، ذلك أن المعركة العنيفة لا تكافؤ فيها أو ندية. الشيطان قوة قاهرة جبارة، أسلحته ثقيلة مدمرة، حافلة بالإغراءات عصية المواجهة. الإنسان السوي العادي يقنع بالدفاع وتجنب الهزيمة الساحقة، أما الطموح إلى الحرب والانتصار فينم عن مبالغة في توهم قوة لا وجود لها.
ليلة هزيمته، يحقق الشيخ المثالي الشاب نجاحًا غير مسبوق، فهو يغزو بأدعيته الصادقة الحارة عديدًا من أبناء الحي، الذين تعرضت قلوبهم لهجومه العذب الدافئ المشحون بالجمال والجلال والرقة: "كلمة.. ولكنها أيقظت الحي كله.. حتى من لم تفلح في إيقاظه أيقظه من استيقظ، في أسرتهم وفي أماكن نومهم راحوا يستمعون، ثم وكأنما أصبح للكلمة قوة جذب. استخرجتهم من رقداتهم وغادروا بيوتهم بشعور غريب، يشيع في صدورهم لأول مرة، شعور طازج محير لم يألفوه أبدًا، شعور وكأنهم أصبحوا قرباء جدًا من الله وأن الله غير غاضب وأنه رحيم أليف.. شعور يملؤهم على الفور بالسعادة إذ في أعقابه يحسون أنهم وكأنهم اكتشفوها للتو يحبون الله وأن الله يحبهم وأنه جد قريب، لم يبق بينهم وبينه سوى خطوة".
الدعاء الصادق الحار، وليد الصراع العنيف الذي يكابده الشيخ، يقتحم النائمين فيتجهون إلى المسجد، ولم يكن الشيخ عبدالعال نفسه يعرف أنه سيضعف وينهار بعد نجاحه في التأثير عليهم واستقطابهم. يتوافدون على المسجد، ويفر منهم إلى المرأة التي تسكنه وتسيطر عليه، إلى "لي لي" ذات الجمال الشيطاني والإغراء الذي لا يُقاوم. يتركهم ساجدين ويعلن هزيمته: "استقبلت القبلة ونويت.. فتحت عيني.. كانت "لي لي" منتصف القبلة نائمة، عارية، مبعثرة، مفتحة، يتموج شعرها على جسدها وينحسر. عفوك يا إلهي.. فلقد أخفيت الحقيقة.. الشيطان انتصر؟!".
هزيمة الشيخ عبدالعال لا تستوجب إدانته والإسراف في التحامل عليه، فالشيطان بأسلحته التدميرية وقوته الخارقة خصم عنيد تستحيل مقاومته، ولا يتسنى الصمود أمامه إلا لقلة استثنائية نادرة من البشر. الشيخ نفسه يسهم في الهزيمة بغروره غير المقصود، ومثاليته المفرطة، وطموحه المستحيل في تجاوز قوانين البشر والقواعد التي تحكمهم.
قصة إدريس لا تبايع الشيطان، ولا تدعو إلى اليأس، لكنها تجسد من خلال شخصيته الشيخ عبدالعال حقيقة لا ينبغي إغفالها أو إهمالها: للإنسان حدوده التي لا يستطيع أن يتخطاها، ورجل الدين ليس إلا إنسانًا محكومًا بالقواعد التي تحكم غيره.