من ناحية أخرى فإن محاربة الإرهاب لا تكون ببيانات الإدانة ولا بالمؤتمرات النخبوية التي يقوم بعملها الأزهر ووزارة الأوقاف، فقد كتبنا كثرًا حول أهمية المواجهة الشاملة للعمليات الإرهابية، وضرورة أن يحدث استنفار شعبي للمواجهة من ناحية وتنسيق بين الوزارات المعنية من ناحية أخرى.
وقد بات معروفًا لنا جميعًا أن الإرهاب هو نتاج لظروف البيئة الداخلية والخارجية، وهو أكبر الأمراض التي تعاني منها الحياة السياسية الدولية ويمكن تفادي ظهوره على مسرح الأحداث والتخلص منه ومعالجته معالجة حازمة بالقيام بمجموعة الآليات التالية:
1- العزوف عن استخدام العنف المضاد المتمثل في عنف الدولة لمواجهة أحداث العنف السياسي؛ لأن هذا الأسلوب أثبت فشله، وزاد من تغذية الكراهية بين الدولة والشعب وعمق الهوة بين القمة والقاعدة، وآخر مشاريع التنمية والتطوير لذلك ينصح باعتماد أسلوب الحوار والمجادلة والإدماج والتشريك الفعلي في اتخاذ القرار والشورى الشعبية عن طريق الاستفتاء النزيه.
2- الأخذ بأسلوب التعددية السياسية والفكرية كقاعدة للمشاركة في تسيير شئون المجتمع مع احترام قيم الجدارة والكفاءة في تحمل المسئوليات، وذلك بأن تحاول الأنظمة تقوية شرعيتها من خلال احترامها لقدرات مواطنيها على الفعل والتفكير ونبذ النزاعات الانفصالية والقطرية والطائفية والمذهبية التي تؤدي إلى التناحر.
3- ضرورة التخلي عن السلفية الفكرية والأصولية الأيديولوجية؛ لكونها عقيدة تغذي الصراع والتقاتل بالتقليل من أهمية المؤثرات الخارجية في الحياة السياسية الداخلية والتركيز على الدور المركزي الذي تلعبه المؤثرات الداخلية والتشجيع على صناعة القرار من خلال إرادة وطنية.
كما ينبغي التركيز على خلق بديل حضاري يستمد مشروعيته من قدرته على تجسيد مصالح الأغلبية، لا بالقول والادعاء بل بالفعل والعزيمة والعمل الصالح الذي يضعه الناس بأيديهم كرد فعل طبيعي على التحديات التي تواجهها وتمس وجودها القومي وكيانها الثقافي.
4- تشجيع نظم التربية التي تساعد الإنسان على تكييف مظاهر العدوانية؛ لأن التربية تلعب دورًا حاسمًا في حل هذه النزاعات، وذلك بتسهيل ظهور مواقف مبنية على التفهم العفوي تستبدل الصراع من أجل النفوذ وارادة الهيمنة بقواعد سلمية لفرض الذات مثل الرهان واللعب والمنافسة.. إنه يمكن وضع هذه العدوانية الجماعية في خدمة الحياة عوض وضعها في خدمة الموت، ويتم ذلك من خلال ضبط هذه القوى المتميزة تحويلًا وتصعيدًا، وذلك بتوجيه قسم منها ضد العالم الخارجي والقسم الآخر ضد نفسه.
5- لا بد من تغيير النظام الثقافي تغييرًا جذريًّا وتفكيك الثقافة التي تحاصرنا بإفساح المجال أمام طبقة ناشئة غير مستعدة فكريا لتعبر عن القيم التي تحملها، كما ينبغي أن تفسح الثقافة الرسمية المجال للثقافة الشعبية في نظامها الهيكلي، وينبغي أن يكون النقد الأساسي موجهًا ضد الثقافة السائدة، وأن يدور بالأساس حول المجتمع الاستهلاكي والثقافة الاستعراضية التي تعيد إنتاج الوضع السائد، وذلك بتحديد وتجديد الأهداف الإنسانية للفعل البشري.
6- إن اجتثاث الإرهاب يمر عبر التقليل من الضغوط الاجتماعية والسياسية والأطماع الاستعمارية التوسعية والاستيطانية، حتى لا تُثار حركات التمرد أو الاعتراض، فتاريخ البشر يحدثنا عن تحركات عديدة أشعلها تفاقم البؤس الجسدي والظلم الاجتماعي والتدخل الأجنبي، مثل الأوضاع التي تمس الإنسان في كرامته، وتعتدي على مقدساته وشرفه والتي هي أكثر انفجارية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالأحوال الشخصية.
من هنا لا بد من تمكين الشعوب من حرية تقرير مصيرها وإعطائها الاستقلال واحترام سيادتها الكاملة على أراضيها، والكف عن التدخل السافر في شئونها الداخلية والاعتراف بحق وخصوصية ثقافتها.
7- ينبغي إعادة تعريف السياسة لتصبح ناتجة عن حصيلة العلاقات القائمة بين من يمارسون السلطة ومن يطيعونها، ولتكن السلطة قائمة على الاقناع وليس على الإكراه، هذا لا يعني أن الإقناع وحده يكفي إلا أنه جوهري، فالضغط للأسف ضروري ولكنه قد يؤدي إلى الاستبداد؛ لهذا يمكن أن ننظر إلى المقاومة السلمية الثقافية التي يبديها شعب بأسره على أنها في الغالب سلاح حاسم لإيقاف عجلة العنف الأعمى.
لذلك لا بد من إعادة بناء ثقافة سياسية جديدة تقوم على الديمقراطية، وتعمل على تحديد السلطات، ولا تفرض سيطرة سياسية على المجتمع المدني؛ لأن "السلطة السياسية لا تمارس حيال أشياء لا حياة فيها بل حيال بشر يجب أولا وقبل كل شيء إقناعهم".
8- المطلوب اليوم بالمعنى الدقيق للكلمة التفكير بحرية؛ حتى تنشأ ثقافة فلسفية جديدة تعيد تأصيل العلاقة العتيقة بين النظرية والممارسة؛ وذلك بقصد تحرير النظرية من الممارسات المخجلة والمشوهة وتحرير الممارسة من النظريات المسقطة ومعوقات المذهبية؛ حتى لا يقع تضليل الممارسة والهيمنة عليها من طرف النظرية وحتى لا يقع تمييع النظرية وجعلها تنقلب على نفسها.
9- مراجعة المناهج التعليمية عمومًا والأزهرية على وجه الخصوص وتنقيحها، وحذف ما فيها من مواد تحض على التطرف والإرهاب وعدم قبول الآخر.
10- تطبيق مواد الدستور المتعلقة بعدم إنشاء أحزاب على أسس دينية، وأيضًا عدم عمل تلك الجماعات التي تسمي نفسها إسلامية بالسياسة.
11- تجديد الخطاب الديني على أن لا يكون مقصورا على هؤلاء الذين يتبعون المناهج القديمة في الأزهر وخلافه، بل يكون حوار مجتمعي حول الأطروحات التي يقدمها الباحثون في مجال الدراسات الإسلامية.
12- عدم إغفال الحل الأمني؛ شريطة أن يكون في إطار القانون واحترام حقوق الإنسان.
13- الاهتمام بالمناطق الفقيرة والأشد فقرًا، ومحاولة تطويرها ونشر التعليم بها، وتبني مفهوم التنمية الشاملة؛ حيث إنه لا توجد تنمية دون تعليم وقبول الآخر.
14- مراجعة المواد الإعلامية والفضائيات التي تتبنى خطابًا طائفيًّا بدرجة من الدرجات، ووضع ميثاق شرف إعلامي احترافي بعيدًا عن المزايدات في العداء للآخر، أيًّا كان هذا الآخر.
15- يوجد الكثير من المراكز البحثية التي تعمل على ملف الإرهاب والحركات الإسلامية في مصر سواء كان على المستوى الأمني أو المستوى الفكري، فيجب التنسيق بين هذه المراكز من ناحية ومن ناحية أخرى التنسيق بينها وبين الدولة لتبادل وجهات النظر في حال المواجهة.
خاتمة
هذه الرؤية الشاملة لمواجهة الإرهاب، يجب أن يتم تفعيلها في كل نطاقات المجتمع والدولة، على أن تتبناها كل وزارة في إطار اختصاصها من شباب وتعليم وثقافة وتعليم عال وبحث علمي، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، فالكل شريك في البناء، ويقع عليه أضرار الهدم الذي يقوم به الإرهاب، ولا بد من الاعتراف بأن ما تم تقديمه في هذه الورقة قابل للنقاش والحذف والإضافة، فليس هناك أحد يستطيع الادعاء بامتلاك الحقيقة، وأنه ليس معنى ما تقدم إهمال الحل الأمني، حيث إن هناك ضرورة ملحة في وقت ما لاستخدام الحل الأمني، خصوصًا بعد تبني تلك الأطروحات أو الحلول، فهل سيؤتي الحل الأمني ثماره في القضاء على الإرهاب بعد تجفيف منابعه.