بوابة الحركات الاسلامية : رجل الدين في الأدب المصري -7.. إبراهيم عيسى (طباعة)
رجل الدين في الأدب المصري -7.. إبراهيم عيسى
آخر تحديث: الخميس 30/07/2015 06:02 م
مصطفى بيومي مصطفى بيومي
الشيخ حاتم الشناوي، في رواية "مولانا" لإبراهيم عيسى، بمثابة الطبعة الأحدث في عالم رجال الدين المحترفين، الذين يجسدون طبيعة المجتمع المصري المعاصر، حيث طوفان البرامج الفضائية الدينية، وكعكة الإعلانات، ومعطيات التكنولوجيا التي لا تتوافق مع الصورة النمطية التقليدية الشائعة لرجل الدين، عبر عشرات العقود السابقة.
على الرغم من ازدحام الرواية بشخصيات شتى متنوعة، تتوزع بين المليونيرات من رجال الأعمال وكبار ضباط أمن الدولة والسياسيين والفنانين والسلفيين المتنطعين والصوفيين المتسامحين، فضلاً عن العاديين من الناس، فإن الشيخ حاتم هو المحور الأساس الذي يمثل الوتد الأهم في خيمة البناء الروائي. في منتصف الأربعينيات من عمره، مرح خفيف الدم حاضر النكتة مثل الأغلب الأعم من المصريين، وفي أفكاره ورؤاه مزيج من السخرية والمرارة. ثقافته الدينية رفيعة متميزة، لكنه ينصرف عن القراءة بعد الوصول إلى محطة النجومية ووفرة المشاغل. يعي بالخبرة والذكاء ما ينبغي أن يُقال، ولا يبالغ في تمجيد ذاته. يستنكر في حواره مع أبيه أن يكون شيخًا، وعندئذ يردد الأب ويعدد مزاياه، التي تضعه في مقدمة العلماء من الشيوخ، فيرد في صدق موجع: "أنا تاجر علم!".
ليس مثل تعبير "تاجر علم" لتجسيد الدور الذي يقوم به حاتم الشناوي، وكثيرون ممن يشبهونه، في واقع الحياة المصرية منذ مطلع الألفية الثالثة، حيث الهيمنة الطاغية للتدين الشكلي، وسيادة الازدواجية والنفاق الجاهل، أو الجهل المنافق. لا تغيب عن الشيخ النجم حقيقة وحدود عمله: "القاعدة الركينة في هذه الشغلانة هي أنها رزق، لم يصادف صدفة من حاول أن يوهمه أو يتوهم معه أنها رسالة، أول ما يظن أحدهم أنها أبعد من الرزق وأوسع من مجرد وسيلة للارتزاق فإنه يفقدها بسرعة، كأن فيها سحر وبها مس، فإن أحست أنك تسعى إليها وتعمل فيها لهدف آخر (لا ليس وحيدًا بل مجرد هدف آخر) غير الرزق فهي تلفظك، تتحول أنت من سجانها إلى سجينها..".
الشيوخ من نجوم الفضائيات لا يختلفون موضوعيًا عن لاعبي كرة القدم ونجوم السينما، وفي هذا السياق يمثل التنافس بينهم قاعدة راسخة لا يمكن إنكارها أو إهمالها، بعيدًا عن قنابل الدخان الممثلة في الشعارات الدينية وأوهام الرسالات والمبادئ والانتصار للشريعة والقيم الأخلاقية. في جلسة طعام ودعاية سياسية يرعاها المليونير ذو النفوذ السياسي الطاغي "خالد أبو حديد"، يشتبك حاتم مع الشيخ فتحي، صاحب فتوى إرضاع الكبير، الذي يقول هاجيًا بلا رحمة: "وأنت مالك يا حاتم يا مفتي المراهقين بكلام شيوخك وأساتذتك الذين يكبرونك في المقام والمقال ويُعلمونك من حسن الأدب ما لا تعلم".
وفي السياق نفسه، يكن السلفيون المتشددون من مقدمي البرامج الفضائية كراهية أصيلة للشيخ حاتم: "يبررون هذه الحفاوة الإعلانية الراعية لحاتم بأنه يقول الدين الذي يحبه العامة، دين الرقائق دين الحواديت، وتسبيل الأعين وذرف الدموع والفتاوى الموسعة الميسرة، دين النساء وربات البيوت اللاتي تغزو مكالماتهن كل برامجه، لكنهم يتمنون إعلاناته ويحاربون من أجل ألا تتحول إعلانات برامجهم إلى إعلانات البيع المنزلي، وعرض البضائع بأسعار مخفضة مع خدمة التوصيل"!.
لا شيء مما يُقال، ذو علاقة بالدين والرسالة السامية، فالأمر لا يتجاوز دائرة التنافس المهني الذي لا يتورع عن استخدام كل المتاح من وسائل للهجوم والتشويه والانتقاص من الشأن. الشيخ حاتم يعرف قواعد اللعبة جيدًا، ويندمج مع الدور الذي يلعبه كأنه الممثل البارع المحترف. لا يتحدث في برامجه بالعلم الذي يعرفه، وقد يكون صادمًا، ولا يبوح إلا بما يرضي القطيع الذي ينتظر مقولات بعينها: "لا أتكلم بعلمي في اللقاءات والبرامج، أنا أتكلم بما لا يصدم الناس إلا بمقدار، رفقة بهم وترفقًا بنفسي". 
في لحظات الصدق، بعيدًا عن لعنة الحسابات وعيون وآذان الرقباء، يقول حاتم الشناوي ما لا يستطيع أن يعلنه على الملأ، ومن ذلك ما يعترف به للشاب المأزوم حسن، ابن الملياردير أحمد كامل منصور، وشقيق زوجة نجل رئيس الجمهورية: "أول حاجة تعملها وأنت تتحدث عن الدين أن تفصل بين الدين ورجال الدين!".
حسن يضيق بالإسلام والمسلمين، ويقتحم تجربة التنصر احتجاجًا وتمردًا. مع شاب كهذا لا يجدي النمط الشائع من الكلام المكرور المحنط الآسن، ومعه أيضًا يتحدث الشيخ المثقف، المسكون بالازدواجية المزمنة، عن العلاقة بين الأديان، مبرهنًا على حقيقة يتعمد الجميع إهمالها والتغاضي عنها: المسلمون والمسيحيون على حد سواء لا يعرفون أصول الدين الذي يتعصبون له ويدافعون عنه باستماتة الجهلاء!.
الاستعانة بحاتم الشناوي ليعود حسن إلى حظيرة الإسلام، مهمة سياسية في المقام الأول، وورطة مهلكة لا مهرب منها ولا قدرة على الإفلات والخلاص الآمن، وهي تتويج للأهمية والمكانة بقدر ما هي بداية النهاية!.
على الرغم من الملايين التي يملكها، يحتفظ الشيخ حاتم بوظيفته المتواضعة في وزارة الأوقاف: "أنا موظف في الأوقاف حتى يومنا هذا، مرتبي سبعمائة جنيه أتركها للصراف والفراشين هناك".
الثقافة التي يتسلح بها الشيخ وليدة الزمن القديم، عندما كان مولعًا بالقراءة والبحث والإخلاص للمعرفة، لكنه في وضعيته الجديدة كنجم مرموق لا يجد متسعًا من الوقت إلا للهاث وراء المزيد من الرزق الوفير، الذي لا يتطلب علمًا أو ثقافة بقدر ما يحتاج براعة في إدراك ومسايرة قواعد اللعبة: "لا يتذكر متى كان آخر كتاب قعد على مؤخرته وتمعن في قراءته، كان يشعر أنه يعرف ما يجب أن يعرفه، بل يحفظ ويحتفظ بكل ضرورات ومتطلبات الشغل".
يبدأ حاتم الشناوي رحلة الصعود والنجومية بكتابة باب تفسير الأحلام في جريدة مسائية، يُنشر باسم شيخ آخر، ثم تقوده الصدفة إلى الظهور غير المتوقع في برنامج فضائي، اعتذر الشيخ المستضاف فيه، وسرعان ما يبدأ التألق والتوهج والقفز الصاروخي إلى الشهرة والأضواء والاحتكاك المحسوب بالمليونيرات والساسة وكبار ضباط أمن الدولة، وصولاً إلى نجل الرئيس الذي يستعين به لإعادة شقيق زوجه إلى الإسلام، حرصًا على المستقبل السياسي في المقام الأول!.
إدانة الشيخ حاتم ليست منطقية، والدفاع عنه وتبرير سلوكه ليس ممكنًا. إنه حالة تعكس روح العصر وتعبر عنه، وهو إفراز لطبيعة المجتمع الذي يعاني من تمزقات وتشوهات لا ينجو منها الأفراد ولا يستطيعون النجاة!.
حاتم الشناوي إنسان ذو أصول شعبية فقيرة، مولع بالعزف على العود، ومع الأرملة شقيقة أستاذه كانت تجربته الجنسية الأولى. زواجه من أميمة لا يخلو من الحب ولا يبتعد كثيرًا عن الإطار التقليدي، وحياته الزوجية مقفرة لتأخر الإنجاب في مطلعها، ثم جراء الأزمة الصحية العنيفة التي تصيب ابنه الوحيد "عمر"، وخلالها تخونه الزوجة مع الطبيب، ويسكنه خوف وهلع يذهب بثقتها فيه ويحول دون استمرار الحياة السوية بينهما. الابن عمر هو الجرح الدامي الذي لا يندمل: "من ذا الذي يعرف أن ابن الشيخ حاتم الشناوي قد فقد الذاكرة..".
حاتم الشناوي إنسان في نهاية الأمر، له ما له وعليه ما عليه، ومع تورطه الواعي في ألاعيب السياسة وبهلوانية الإعلام الذي يمثل جزءًا أصيلاً من إيقاع الحياة المصرية، فإنه يحتفظ في أعماقه بذلك الحس الإنساني المتوهج الذي يتجسد عبر سلسلة لا تنتهي من السخريات الموجعة، يقف من خلالها في المنطقة الوسطى بين الجد والهزل، فإذا به يربك من يستمعون ويتركهم في حيرة لا نهائية!.
النهاية المأسوية رهينة بالخروج عن قواعد اللعبة، وفي توهم القدرة على الاستقلال بعيدًا عن القبضة السلطوية الأمنية التي لا تعترف بصداقة ولا تعرف مودة. يقولها له الممثل نادر نور: "أنت أشهر شيخ في البلد يا مولانا والأكثر جماهيرية والأعلى أجرًا والأقوى تأثيرًا والأوسع انتشارًا. وهم الذين سمحوا بكل هذا، فيمكن للمساجد أن تغلق أبوابها عن دروسك، وللمحطات أن تمنعك من الظهور، وللمنتجين أن يتوقفوا عن طبع سيديهاتك إن شاءوا ذلك. إذا أردت أن تكون شيخًا يا مولانا فلابد أن تكون شيخهم!".
لا مجال لترف الاختيار: إما أن يكون شيخهم أو لا يكون. التمرد جريمة لا تغتفر، والعقاب سريع رادع موجع. القانون الضمني الذي يحكم ليس غائبًا عن حاتم الشناوي، فهو يعرف ملامح الخريطة التي يتحرك في إطارها: "شيخ الجامع يرضي الله، بينما شيخ التليفزيون يرضي الزبون، سواء كان المنتج أو الشركة الراعية أو الجمهور، وإذا عرف يرضي ربنا وسط ده كله يبقى خيرًا وبركة".
إما أن يكون شيخهم.. أو لا يكون!.