بوابة الحركات الاسلامية : رجل الدين في الأدب المصري – 10.. ثروت الخرباوي (طباعة)
رجل الدين في الأدب المصري – 10.. ثروت الخرباوي
آخر تحديث: الخميس 20/08/2015 09:42 م
مصطفى بيومي مصطفى بيومي
عطية رمضان الكحلوت، في رواية "زمكان" لثروت الخرباوي، يجسد ظاهرة لم يعرفها المجتمع المصري إلا منذ نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات في القرن العشرين. مع تنامي ظاهرة التدين الشكلي، يظهر دعاة ينتسبون إلى رجال الدين بلا علم أو دراسة متخصصة، فهم بمثابة الاستجابة لمناخ يتطلب وجودهم، ولا يشترط علمًا أو دراية. عندئذ، يتحول الدين إلى جزء خطير من منظومة الصراع السياسي الاجتماعي، وتتفنن الأجهزة الأمنية في صناعة الدعاة الأدعياء والشيوخ المزيفين الذين يُسخرون لخدمة مصالح النظام، أو هذا ما يتوهمه صانعوهم.
عطية الكحلوت واحد من صنائع النظام، يبزغ نجمه قبل أن يستقيم عوده: "وفي الحقيقة أن عوده لم يستقم حتى الآن بالرغم من السنوات التي قضاها في الدعوة، ورغم أن أصحابه يشهدون له بطلاقة اللسان وقوة الحافظة فإنه لم ينل حظًا معتبرًا من العلم".
الأب خادم مسجد صغير ومساعد مأذون، والنشأة في بيئة فقيرة تنعكس سلبًا على عطية منذ طفولته المبكرة، فهو يدخل على بيوت القرية دون استئذان ويحبو على الموائد: "حين بلغ الخامسة من عمره أطلقوا عليه لقب "لحوس" الذي لم يفارقه أبدًا، ولحوس هو الذي يأكل على كل الموائد بعد أن يفرغ القوم من طعامهم فيلحس بلسانه أطباق الطعام، وبذلك وفر عطية لأبيه مؤنة طعامه".
يتسم عطية بملمحين يلازمانه عبر مراحل حياته المختلفة: سرعة الحفظ وبراعة التقليد، وفي سنواته الدراسية الأولى يخوض معارك عنيفة ضد زملائه المولعين بالسخرية منه والتشهير به. تنتهي رحلته مع التعليم بالحصول على دبلوم التجارة المتوسطة، ثم تبدأ حياته العملية من القاع، خادمًا لكبار الشيوخ السلفيين، مسلحًا في التقرب إليهم بالإسراف في النفاق، محتفظًا في الوقت نفسه بعلاقات نسائية مشبوهة، لا تتوافق مع مزاعم الإيمان والتقوى والورع!.
عطية الكحلوت نموذج متكامل الأركان للطفيلي العصري الذي يتحايل على الدنيا المتجهمة بكل المتاح من حيلة: "هل كان متدينًا حقيقيًا؟ لا يستطيع إنسان أن يدخل في ضمير أحد فيحكم على مشاعره الدينية، إلا أن عطية وفقًا للظاهر كانت له لحاويس من مشاعر دينية متبقية في قعر قلبه ولكنها مختلطة بمشاعره الدنيوية".
الدين عند عطية أقرب إلى العمل التجاري الاحترافي، و"نفسية العبد هي التي كانت تتحكم فيه وفي سلوكه الشخصي". الطموح الذي يسكنه هو الصعود إلى آفاق طبقية أرحب، فلا غرابة إذن في انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهو الذي يعتمد في معاشه ورزقه الضئيل على السلفيين، ولا غرابة أيضًا في العمل التجاري المربح وثيق الصلة بشيوع التدين الشكلي، أما السفر إلى السعودية سعيًا وراء وظيفة متواضعة في مستوصف طبي، فإنه لا يصل إليها إلا بسرقة أبيه العجوز والاعتداء عليه، دون وازع من ضمير ديني أو أخلاقي.
في المملكة السعودية، يبدأ الفصل الأهم في رحلة عطية رمضان مع الدعوة. ينال قشورًا من العلم الديني الذي يخلو من العمق، ويتقرب من الأسماء الكبيرة ذائعة الصيت، ويسخَّر إمكاناته في الحفظ والتقليد وبراعة التمثيل ليقترب من لقب الشيخ الذي لا يعرف القيود والضوابط. زيجته من ابنة الشيخ اليمني الثري امتداد لسلوكه الانتهازي النفعي، ومبادرته بالطلاق بعد وفاة أبيها والحصول على مبتغاه من مالها ليس بالفعل المفاجئ غير المتوقع. استعانة جهاز أمن الدولة به بعد اغتيال السادات، فاتحة عهد جديد في حياته الغرائبية الحافلة بالتحولات المثيرة: "جلس في فندق الحرم مع الضابط المصري المعتمر، كان متخصصًا في الجماعات المتطرفة، أبدى لعطية إعجابه بطريقته في الخطابة وأخبره أن هذه الطريقة يستطيع أن يصل بها للأغمار من الناس الذين لا يحملون قدرًا من علم أو ثقافة.
هؤلاء هم الذين نقصدهم يا شيخ عطية، فالجماعات الجهادية المتطرفة تتصيد هؤلاء وتوقعهم في شباكها ثم تنفث فيهم شرورًا وتكفيرًا وعنفًا. هذا الفكر الانقلابي ليس إسلاميًا يا شيخ، ونريد أن نواجهه بكل ما نملك من قوة من أجل الله والوطن. سنفتح لك أكبر المساجد ونيسر لك الخطابة، وسنقربك من كبار علماء الدعوة السلفية وستنطلق في آفاق لم يبلغها خيالك. كبار دعاة السلفيين يقومون بالواجب، ولكنهم يخاطبون فئة واحدة هي فئة المتدينين الدارسين، ومن العسير على البسطاء أن يصلوا إليهم".
عطية رمضان من صنائع جهاز أمن الدولة، مثله في ذلك مثل الكثير من "الشيوخ" الذين يقومون بأدوار محسوبة، أو يُفترض أنها كذلك، ثم تتغير المسارات عندما تجد ظروف وتحولات تتبخر معها الصفقات القديمة. المسألة في جوهرها سياسية لا علاقة لها بالدين، ولا تحتاج إلى علم حقيقي أو إيمان برسالة سامية مقدسة. الصفقة واضحة، والمصالح متبادلة، وفي تاريخ عطية ما يمكن إظهاره في الوقت المناسب: "لا تخش شيئًا يا عطية، نحن سترك وغطاؤك، سرك في بئر، كل الصور وتسجيلات الفيديو التي صورتها لك زغلولة في يد أمينة، اعتبرها في قبر لن تخرج منه أبدًا".
القوادة السكندرية زغلولة، والتردد إبان سنوات الشباب على بيت الدعارة مسجل بالصورة والصوت، والعلاقة واضحة لا تحتمل اللبس أو التأويل: ولاء وطاعة، أم فضح وتشهير؟. يعود عطية إلى مصر باسم آخر وسيرة أخرى: "فهو الشيخ أبو إسماعيل الرديني حافظ حديث رسول الله، وتلميذ الشيخ الألباني والشيخ أبي بكر الجزائري، وقام بتدريس علوم الحديث الشريف في مدرسة الحديث للشيخ "نعمان بن عبدالكريم الوتر" باليمن السعيد، والذي ساح في الأرض من أجل العلم فجلس يتلقاه على يد أكبر علماء العصر، ومن نبوغه وجلاء بصيرته حصل على إجازة برواية الحديث من الشيخ الألباني".
لا يقتصر نفوذ الأجهزة الأمنية على صناعة الحاضر والمستقبل، بل إنه يمتد إلى الماضي فيعيد تشكيله، ومن الذي يملك القدرة على النبش والبحث في الجذور؟!. الجمهور المستهدف لا حصيلة له من العلم تتيح الكشف عن حقيقة الجهلاء الأدعياء الذين يتحولون إلى شيوخ ودعاة. لا شيء عند هؤلاء إلا البراعة في التمثيل ومخاطبة المشاعر الدينية عبر أداء عاطفي مؤثر، يفجر الدموع في المآقي، ويركز على كل ما هو شكلي سطحي منقطع الصلة بالحياة الحقيقية: "في بداياته لم يكن يخطب إلا في ثلاثة موضوعات هي: "أهوال النار" و"نعيم الجنة" و"أحوال الموتى وعذاب القبر"، وبهذه الخطب كان ينتقل في مساجد الجيزة ومراكزها الحوامدية، والبدرشين، وأوسيم، وأطفيح، والعياط، وفي كل مكان كان الصييته يرافقونه ويقومون بدورهم خير قيام، أما هو فقد استطاع تطوير أدائه وتطويع كلماته، وتفخيم عباراته، كان كالممثل الذي يقف على المسرح كل يوم ليؤدي دوره المحفوظ في المسرحية، ومع التكرار تكون الإضافات، والتنويعات، والصياح الباكي حتى يستدر الدموع".
إنه داعية شعبي خفيف الظل بسيط اللغة يوزع القفشات والنكات، والزمن كفيل بتحويل الجاهل بالدين الصحيح إلى واحد من أشهر دعاة السلفيين، تنتشر شرائط الكاسيت التي تحمل خطبه ودروسه. تنهمر الأموال بلا حساب، وتتعدد الزيجات لتعويض سنوات الحرمان والجفاف، أما الولاء الراسخ والدائم فمن نصيب الأجهزة الأمنية التي تصنع الظاهرة وتتوهم القدرة على التحكم فيها: "عندما بدأت مظاهرات الخامس والعشرين من يناير – قبل أن تتحول إلى ثورة- ظهر الشيخ أبو إسماعيل بناء على اتفاق مع أمن الدولة كي يحرم هذه المظاهرات ويقول إنها بدعة وضلالة وإنه لا يجوز الخروج على الحاكم، وبعد أن ظهرت بشائر الثورة بقوة، واخذت تباشيرها تغمر الآفاق، خرج الشيخ على التليفزيون المصري وقنواته الفضائية، وهو يبكي خوفًا على المصريين ويطالب الشباب بالعودة إلى بيوتهم مخافة أن تُراق دماؤهم.
وبعد أن نجحت الثورة بفترة وأخذ المجلس العسكري زمام الأمور بالاتفاق مع الإخوان، خطب الشيخ من مسجده قائلاً: والله الذي نفسي بيده، لقد رأيت قبل الثورة أربعة من الرجال يحملون صورة كبيرة للرئيس المخلوع وينقلونها إلى مجلس الوزراء لتعلق هناك خلف رئيس الوزراء، فقلت أما آن لنا أن نترك تأليه البشر، هذا الرئيس الذي ظللنا ثلاثين عامًا تحت طغيانه واستبداده تحول إلى إله فرعوني مستبد، وقتها دعوت الله أن يخلعه كما خلع فرعون، وأقولها لأي حاكم سيأتي من بعده: هي صورة واحدة التي ينبغي أن نعلقها في كل مكان، لا يكون فيها إلا لفظ الجلالة الله.. الله.. الله".
في زمن مختلط مضطرب، يتسيد فيه الجهلة والأدعياء، يُجلد الإمام الحقيقي أحمد بن حنبل ويُعذب ويُهان، وتكون الكلمة المسموعة لأمثال عطية، أولئك الذين يحترفون تجارة الجهل، ويحولون الدين إلى سلعة، وينتصرون لدنياهم وشهواتهم على حساب البسطاء من الناس.