بوابة الحركات الاسلامية : البطريرك هزيم ... الله لم يخلق الإنسان بمفرده بل خلق معه الآخر لِيَقْبَله! (طباعة)
البطريرك هزيم ... الله لم يخلق الإنسان بمفرده بل خلق معه الآخر لِيَقْبَله!
آخر تحديث: الثلاثاء 05/12/2023 09:00 ص روبير الفارس
البطريرك هزيم ...
البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم (28 أغسطس 1921- 5 ديسمبر 2012)، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس خليفة بطرس وبولس لأنطاكية العظمى ( سوريا) منذ 2 يوليو 1979 ومقرها دمشق وكان يردد دائما بعد انتخابه بطريركاً كلمته المشهورة: أعلم بأنني سوف أحاسب إذا لم أحمل الكنيسة وكل واحد منكم في قلبي، كما أنه لا يمكنني أن أخاطبكم إذا كنت مختلفاً عنكم، لا فرق يفصل بيننا، أنا جزء لا يتجزأ منكم، أنا فيكم وأطلب منكم أن تكونوا فيّ، الرب يأتي وتحل روح الأخوة التي تجمع بين الأمم بالقربان المقدّس بقوة الروح القدس وأمور الحياة الزائلة.
وككونه بطريركاً سعى إلى إعطاء ديناميكية جديدة إلى المجمع المقدس وهو ينظر إلى رسم الأساقفة القريبين من الشعب والذين يسعون إلى تطوير الكنيسة والحياة الروحية بعيداً عن المناصب السياسية التي غلبت علي بطاركة الشرق في سوريا ولبنان في هذه الفترة. 

الميلاد والنشأة

الميلاد والنشأة
ولد عام 1921 في مدينة محرده التابعة لمحافظة حماة في سوريا من عائلة أرثوذكسية متدينة، ومنذ صغره كان حبه الكنيسة يجذبه إليها وكان يواظب على الخدمة فيها.
 درس الأدب في لبنان وأثناء دراسته للأدب انضمّ إلى الخدمة في الأسقفية الأرثوذكسية المحلية. وفي بداية الأمر كان يخدم كمساعد للكاهن في القدّاس الإلهي ثم أصبح شماساً.
في عام 1945 سافر إلى باريس في فرنسا حيث درس وتخرّج هناك من معهد القديس سيرجيوس اللاهوتي وبعد هذا الوقت الذي أمضاه في فرنسا عاد وليس فقط في داخله رغبة للثبات في الإيمان بل ليأخذ الأرثوذكسية خارجاً من الأقلية التاريخية عن طريق اكتشاف وتوضيح التقليد المقدس الحيّ الذي يجيب ويوضح أسئلة ومشاكل الحياة المعاصرة. 
وبعد عودته إلى لبنان عمل على تأسيس المعهد البلمند اللاهوتي حيث خدم هناك لسنوات عديدة كعميد للمعهد. وككونه عميد للمعهد بذل جهده ليجعل البطريرك هو المسئول الأكبر والمرشد الروحي والمشرف الفكري وهو الذي نشهد له باليقظة وعمق الإيمان، بجانب كون لغته الأم هي اللغة العربية فهو يتحدث اللغتين الانكليزية والفرنسية بطلاقة. ويلم باليونانية والروسية.
وكان أحد مؤسسي حركة الشبيبة الأرثوذكسية في سوريا ولبنان في عام 1942 التي عن طريقها تم المساعدة لتنظيم وتجديد الحياة الكنسية في بطريركية إنطاكية، الحركة عملت في قلب الكنيسة بمساعدة الأسقف لإعادة بناء الإنسان والعلاقات الاجتماعية والأهم علاقة المؤمن مع الكنيسة والأسرار الإلهية ولا سيما ممارسة مناولة "القربان المقدس" الذي كان قليلاً ما يمارسه الناس وهو سر أساسي في الكنيسة تقوم عليه صلوات القداس . وانطلاقاً من ذلك وفي عام 1953 ساعد في تأسيس رابطة الشبيبة الأرثوذكسية العالمية والمدرسة اللاهوتية.
تم انتخابه في سنة 1970 ميتروبوليت- مطران- على محافظة اللاذقية في سوريا. وككونه ميتروبوليتاً ( مطرانا ) في اللاذقية قام بنهضة في الكنيسة وأعادها إلى نقاوة الكنيسة الأولى محافظاً على التقليد. 
في الثاني من يوليو عام 1979 وتحت اسم اغناطيوس الرابع تم انتخابه خليفة للرسولين بطرس وبولس على كرسي مدينة الله أنطاكية العظمى .
توفّي إغناطيوس الرابع هزيم في مستشفى القديس جاورجيوس في 5 كانون الأول 2012 في بيروت، بعدما نقل إليها إثر تعرّضه لجلطة دماغية.

تحليل لشخصيته وأعماله

تحليل لشخصيته وأعماله
بعد رحيل البطريرك اغناطيوس قدم الكاتب اللبناني غسان ريفي تحليل مهم لشخصيته واعماله جاء فيه عندما سئل بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس إغناطيوس الرابع هزيم ذات مرة، من هو إغناطيوس الرابع؟ أجاب: «هو إنسان يريد أن يكون غاية في البساطة والوضوح، ويريد قبل كل شيء أن يكون في خدمة كنيسته وفي خدمة الإنسانية من دون أي تحفظ".
جسّد رأس الكنيسة الارثوذكسية الآتي من بلدة محردة السورية تلك المفاهيم على مدار 33 عاما أمضاها في سدة البطريركية، فكانت بساطته تغلب منصبه، ووضوحه يخيف من حوله، لا سيما في زمن الأزمات.
كانت نظرته للأمور فريدة في كثير من الأحيان انطلاقا من فلسفته الخاصة في الحياة التي تدعو لأن يكون «الإنسان أولا»، فما كان يراه البطريرك هزيم في السياسة لا يراه غيره، وما يجرؤ على قوله يتجنبه كثيرون، لذلك كانت إطلالاته الإعلامية في مناسبات محددة، والتصريح الذي كان ينتزع منه انتزاعا يعتبر «سبقا صحافيا»، لا يتضمن مباشرا، إنما رسائل مبطنة ولاذعة لطالما أحب هزيم توجيهها لمن يعنيـهم أمر المنطقة، وخصوصا القضية المركزية الحاضرة لدية أبدا فلسـطين، إضافة إلى مسقط رأسه سوريا، ولبنان بلد الطوائف الذي كان ينشد فيه أمنا واستقرارا وإنصافا للأرثوذكسيين الذين دفعوا ويدفعون برأيه ثمن عدم طائفيتهم.
كان لهزيم من اسمه الحقيقي الذي لا يعرفه إلا القليلون نصيب. هو «حبيب» الذي فاض حبا على من حوله أينما حل، وفي كل المناصب الدينية التي تولاها، وصولا إلى سدة البطريركية، وكان «المحبوب» الذي أسس بالكلمة الطيبة الكثير من المؤسسات الارثوذكسية التي كان صاحب فكرتها ومحركها وملهم إدارتها ومطوّر أدائها.
لم يكن «صاحب الغبطة» يرضى بأنصاف الحلول بما يخص الإنسان الذي «خلقه الله على صورته ومثاله»، وكان دائم النصح لرعيته الكبيرة: «كونوا على صورة الله، فهو لم يخلقكم بمفردكم بل خلق معكم الآخر، وعليكم أن تقبلوا هذا الأخر، وأن تتعاونوا وتتكاملوا وتتحاوروا معه لتكتمل بذلك الحياة".
ترك هزيم بصمة لن تُمحى من تاريخ الأرثوذكس في الشرق، وهي أنه البطريرك الأول والوحيد في سلسلة البطاركة الـ165 الذين تعاقبوا على عرش انطاكية، الذي أنشأ جامعة.
ففي صيف العام 1962 انتقل المطران هزيم إلى دير سيدة البلمند، وكان ديرا صغيرا مهملا، فعمل بنشاط لتغيير حالته، وأعاد سريعا إحياء مدرسة البلمند التي كانت قد تأسست بفرمان عثماني وحوّلها إلى ثانوية بدأ يحث أبناء الكورة على تسجيل أولادهم بها وعمل على تأمين الكادر الإداري والتعليمي الذي يليق بسيدة البلمند التي كان يحملها أيقونة على صدره.
كما أسس هزيم وهو لا يزال مطرانا، معهد اللاهوت الذي يعود إليه الفضل في تخريج معظم مطارنة الكنيسة الإنطاكية الأرثوذكسية، وقبل تأسيسه اجتمع بعمداء كليات اللاهوت في أوروبا ووضعوا برنامجاً أكاديمياً يمنح إجازةً في اللاهوت، وتم ذلك بدعم من متروبوليت أمريكا الشمالية المطران أنطونيوس بشير الذي اشترط أن تكون إدارة المعهد بيد المطران هزيم الذي رعى طلابه وعمل على تأمين كل مستلزمات المعهد في أصعب الظروف.
بعد انتخابه بطريركا في العام 1979 اتخذ هزيم، إغناطيوس الرابع، اسما له، وبقيت عيناه تشخصان إلى تلك التلة البلمندية فوضع حجر الأساس لجامعة البلمند في العام 1988 وجاب العالم لتأمين الأموال اللازمة للتوسيع والتجهيز والتطوير، فكانت القرية البلمندية القائمة على خمسين ألف م2، والتي تضم تسع كليات تضم أكثر من أربعة آلاف طالب من مختلف الطوائف والمذاهب، و35 مبنى من الطراز المعماري الجميل، فضلا عن سعيه لتعميم فائدتها، وبإخراج الجامعة من التلة البلمندية إلى توسيعها في بيروت، وإيجاد فروع جديدة في عكار بدعم من الرئيس عصام فارس الذي دفعه شغفه بالبطريرك إلى وضع إمكانيات كبيرة في القرية البلمندية، إضافة إلى سوق الغرب على أرض قدمها النائب وليد جنبلاط.
لم يكتف البطريرك المشرقي بذلك، بل عمل على هامش تحقيق حلمه الأساسي بتطوير الجامعة إلى بناء العديد من المؤسسات الارثوذكسية التربوية والاجتماعية والرعائية.
رحل هزيم وهو غير خائف على مسيحيي الشرق، «لأن المسيحيين هم أصحاب الأرض وليسوا رعايا، وبالتالي لا يستطيع أي كان أن يهجرهم أو أن يبعدهم عن أرضهم وكنائسهم التي عمرها من عمر المسيحية في هذا الشرق".
رحل هزيم، وهو يدعو بالخير لسوريا وبأن يلهم الله أهلها الصواب لما فيه مصلحتهم الحقيقية، وليس ما يُرسم لهم من الخارج.
رحل قبل أن يطمئن على الأرثوذكس في لبنان الذين شكل لهم لجنة استشارية خاصة لمتابعة حقوق الطائفة في الوظائف وتفعيل حضورها في سلك الدولة، وهو كان قد أوضح لكل المنتقدين «أن الهيئة ليست إطارا ضمن الطائفة، إنما هي من أجل تحصيل الحقوق".
مساء يوم الجمعة الماضي، وفي دردشته الأخيرة مع جريدة «السفير» اللبنانية التي كان يجاهر دائما بحبه لها، إثر استقباله نائب رئيس مجلس الوزراء سمير المقبل في منزله البلمندي، بدا البطريرك هزيم كمن يكتب وصيته، خاطب الأرثوذكسيين بالقول: «لا أحد منكم يحتاج إلى إذن ليخدم طائفته، الطائفة تحتاج إلى جهود الجميع، وهي ترحب بكل من يعمل من أجلها، ولا نريد أن يعمل أحد من ضمن الإطار السياسي بل من أجل تحصيل حقوق الطائفة".
في اللقاء نفسه، أوصى هزيم السياسيين الأرثوذكس: «اعملوا السياسات التي تريدون، انما كونوا واحدا بالحق الذي أعطي لنا في الدستور كسائر الطوائف، ولا يكون إهمال منكم بل كل اهتمام في هذا الشأن، فكل الهيئات السياسية في الطائفة ندعو لها بالتوفيق".
وتمنى هزيم على الشعب السوري أن يأخذ بالجهود التي تبذل لمصلحته وليس لمصالح دول اخرى، داعيا لبنان إلى أن لا يتفرق، وأن يكون واحدا وموحدا.