شيخ الكتاب كفتة، في رواية "السقامات" ليوسف السباعي، يمثل امتدادًا للشيخين اللذين يقدمهما طه حسين في "الأيام"، قرب نهاية القرن التاسع عشر، وعبدالرحمن الشرقاوي في "الأرض"، نهاية العشرينيات ومطلع الثلاثينيات من القرن العشرين. طه والشرقاوي يعبران عن القرية المصرية في الصعيد والدلتا، أما السباعي فيجسد المشهد نفسه في حي قاهري شعبي.
يقع الكتاب في أحد الدروب المتفرعة من درب السماكين: "أو على الأصح في أحد الفجوات المسدودة التي شبهناها بحرف U القائمة على جانبي الدرب. والكتاب ذو اسمين: اسم رسمي معقد ملتوي مكتوب على اللافتة الزرقاء الكبيرة المعلقة على بابه، واسم دارج سهل جرت به الألسن وتعودت نطقه الشفاه".
المبنى عتيق منفر قذر، والاسم الشائع وثيق الصلة بالشيخ الذي يدير المكان ويعلم الصبية بطريقة مضادة لجلال الدين وقداسة القرآن: "الكتاب هو فعلاً كتاب "الشيخ كفتة"، فهو ناظره ومدرسه، وهو كل شيء فيه".
في الظهور الأول للشيخ، يطل واقفًا على باب حجرته: "يمسح بكفه على شاربه وشفتيه بعد بصقة كبيرة ختمت سعالاً طويلا. وكان "الشيخ كفتة" يرتدي جبته وقفطانه ويضع عمامته على رأسه الكبير ووجهه المنتفخ الأجفان المتآكل الأنف من آثار الجدري".
لا يعمل الشيخ كفتة في الكتاب منفردًا، بل إنه يقود فريقًا يضم ثلاثة من الموصوفين بالمشايخ، والأربعة يمثلون منظومة متكاملة متجانسة، يرفعون شعار الإرهاب نظريًا ويطبقونه عمليًا، والضحايا هم الأطفال الأبرياء الذين يصطدمون بواقع القهر والقمع: "وقف الأربعة الكبار.. كفتة وعبدالرسول وثابت وجرادة وقد أمسك كل منهم بإحدى أدوات الإرهاب: كفتة بالفرقلة يطرقع بها على جانب فخذه، وثابت وعبدالرسول كل منهما بخيزرانة، وجرادة بالفلكة يعيد ربط أحبالها جيدًا".
"جرادة" يقوم بدور الفراش ومتعهد الكانتين والجلاد الذي يعاقب التلاميذ، لكنه يقوم أيضًا بدور الشيخين عبدالرسول وثابت إذا تغيبا، فأي علم يخول له القيام بهذا الدور التعليمي؟!. قسوة الشيخ كفتة لا تقتصر على الأطفال الذين يتلقون "العلم" في كتابه، فالمنهج نفسه متبع مع الشيوخ من هيئة التدريس، ويتجلى ذلك بوضوح في توبيخه لهما: "دي مسخرة.. دا لعب عيال.. أنا لازم أشوف شغلي معاكم.. انتم عاملين زي تنابلة السلطان.. أكل ونوم.. والواحد منكم آخر الشهر يقبض الماهية وهو نايم".
لغة سوقية متبذلة لا تليق بشيخ يخاطب شيخين، لكنها تبدو مهذبة متحضرة عند المقارنة بما يقوله للتلاميذ في الطابور:
"- الواد اللي بيتكلم ده يسكت أحسن له لحسن آجي أكسر الفرقلة على دماغه.
وكان هذا هو إنذاره الطبيعي قبل أن يبدأ حديثه ثم بدأ الحديث قائلاً:
- اسمع يا واد يا بن الكلب منك له.. بقي أنا بقالي تلاتين سنة في المدارس ما وردش عليَّ اللي حصل النهارده. تلاتين سنة ما شفتش هيجان وزيطة زي اللي حصلت دلوقتي، وعلى ايه.. على الفاضي.. حريقة.. حريقة.. أنا بدي أعرف مين اللي عمل الفصل ده عشان أفصصه قدامكوا هنا. أشرحه.. أنا كنت ناوي أجلدكم كلكم.. لكن حاسبكم المرة دي.. عشان أنا عارف مين اللي يستاهل الجلد حقيقي (ثم نظر بطرف عينيه إلى ثابت وعبدالرسول)، ودلوقتي عايزكم تخشوا الفصول من سكات.. ياللا".
مفردات مثل "ابن الكلب" و"أفصصه" و"أشرحه" و"أجلدكم" لا تليق بشيخ أزهري يتولى تربية النشء وتحفيظ القرآن، والإسقاط الفج بنظرة العين الحارقة على زميليه الشيخين، تكشف عن الغياب الكامل للمؤثر الديني والقرآني على سلوك الشيخ كفتة، فما الذي يمكن توقعه من رد فعل عند التلاميذ؟!. لابد أنهم يضيقون ذرعًا بمجمل المؤسسة وصاحبها، ويتطلعون إلى الفرار والهروب من جحيمه، ولا يتورعون عن الشتم والسب والسخرية اللاذعة.
الطفل سيد، السقا الصغير، يقدم شهادة بالغة الأهمية عن رد الفعل المنطقي المبرر على كتاب الشيخ كفته ومنهجه العقيم وقسوته المفرطة، فكم يبدو سعيدًا للعمل مع أبيه وقطع العلاقة مع المكان الذي لا يطيقه: "الكتاب.. لعنة الله عليه وعلى أهله أجمعين.. إنه لن يطيق الذهاب إليه والرسف في أغلاله بعد أن تذوق حلاوة الحرية والانطلاق".
مشقة العمل أحب إلى الطفل من الشيخ كفتة والمكان القبيح المنفر الذي يخلو من المتعة: "حقيقة أنه يستيقظ مبكرًا كل يوم، ولكن الكتاب أيضًا كان يضطره إلى مثل هذا التبكير، فارق بين تبكير وتبكير، فيما مضى كان تبكير إلى السجن، أما الآن فتبكير إلى الحرية".
مفردة "السجن"، التي تأتي في سياق عفوي بريء، بالغة الدلالة في تجسيد مشاعر النفور والاستياء، فلا غرابة إذن أن تكون العودة إلى كتاب الشيخ كفتة تهديدًا مزعجًا يتخوف منه الطفل الشقي الذي يتوقع عقاب أبيه، وهل من عقاب يفوق العودة إلى السجن الكريه؟!. تحطيم لوح زجاج في السراى جريمة شنعاء، يدرك سيد أنها لن تمر في بساطة، فلابد من عقوبة صارمة: "اندفع يعدو تجاه الباب هاربًا بأقصى سرعة، وصاح به أبوه في دهشة:
- على فين؟
وأجابه سيد وهو يعدو:
- على الكتاب.
بيدي لا بيد عمر".
العودة إلى الكتاب- السجن أقصى عقوبة تنتظره، وإذ يسأله جاره وزميله علي الخشت عن وجهته، يجيب في لهجة مريرة: "رايح للفقر الأزلي.. رايح للشيخ كفتة بتاعكم.. الواحد افتكر إن ربنا تاب عليه.. لكن معلهش.. أهم يومين وينقضوا".
يحظى سيد بترحيب حار من الزملاء الذين انقطع عنهم باقتحامه حياة العمل مع أبيه، ولا يخلو استقبالهم من هجوم على الشيخ الذي يتفق الجميع على كراهيته والضيق به: "دا الكتاب من غيرك ما يسواش بصلة، ما ضحكناش ضحكة واحدة من يوم ما غبت والشيخ كفتة مورينا الويل".
بمزيج من الفتور والعنف، يستقبل الشيخ كفتة تلميذه الذي غاب طويلا، وعلى الرغم من تأكيده على أنه لن يسمح بعودته إلا بحضور أبيه، فإنه يتراجع سريعًا ويوجه له سبابًا يعبر عن شخصيته العدوانية: "جاك خابط في رأسك.. خش انجر"!.
يستطيع الشيخ كفتة بسلطته المطلقة أن يشتم ويسب بشكل علني، أما ضحاياه الصغار فيردون بطريقتهم. يتوعده سيد في سره: "وسمع الشيخ الدمدمة، ولم يشك في أنها سباب، فصاح بالصبي:
- بتقول ايه يا ولد؟
- بدعيلك يا سيدنا الشيخ
ثم همس لأصحابه:
- ادعوله.. ادعوله.
وأجابه أصحابه في مثل همسه:
- الله يخرب بيت أبوه.
- دا رجل طيب.
- الله يخرب بيت أبوه.
ثم انطلق الأربعة يقهقهون ويتواثبون أمام الشيخ كفتة.. ولم يجد الرجل بدا من الانزواء في حجرته".
علاقة عدائية متوترة بين الشيخ كفتة وتلاميذه، وغياب كامل للاحترام والمودة. الأمر عند الصغار أقرب إلى التعايش الاضطراري، حيث يلجأون إلى التحايل لتحقيق المتاح من توافق ورضا. ومن ناحية أخرى، فإن أسلوب التعليم العقيم قوامه التلقين والحفظ، دون إعمال العقل والفهم، ربما لأن الشيخ القائم بالتعليم لا يفهم شيئًا مما يلقنه.
شحاته أفندي، الشخصية المرحة العاشقة للحياة والبساطة، يوجه نقدًا لاذعًا لشكل التعليم في الكتاب، فإذا يجلس سيد متربعًا على الأرض، ويهتز للأمام والخلف، يعترض الرجل قائلاً:
"- وهو يعني عبس دي.. ما تتقالش إلا إذا انهزيت قوي كده؟.
- آه.. زي ما علمونا".
ويمتد نقد شحاتة أفندي إلى مضمون التعليم ومنهجه، فالطفل سيد يحفظ ما لا يفهم، ويصل به الأمر إلى الدرجة التي يتخيل فيها أن "عبس" اسم لشخص وليس فعلاً!:
"- بحفض لخوفي من الفلكة والمقرعة.
- يا خسارة القرآن بين الجهلة.. القرآن ده يا سيد كلام حلو.. بس لازم يتفهم".
الشيخ كفتة من الجهلاء الذين يعتمدون في التعليم على الفلكة والمقرعة، ويخاصمون العقل والفهم، ويزرعون الخوف والإرهاب في أرواح صغار يرددون ويحفظون مالا يفهمون!.
