داعش تفتح أبواب الرعب في العراق
كان الأب جبرائيل وهو قس كنيسة بقرية «باندوايا» الواقعة في أطراف ناحية القوش شمال الموصل، متمسكاً مع 50 عائلة مسيحية، هي مجموع سكان القرية، بمنازلهم التي فتحوا أبوابها لإيواء النازحين من قرى ومدن نينوي من الشيعة والسُنة والمسيحيين الذين هجرهم إرهاب تنظيم «داعش»، قائلاً: «إن بيوتهم ما زالت ترفل بالسلام الذي دعا ويدعو إليه المسيح عليه السلام»، مشيراً إلى أن قريته التي لم تصلها التهديدات من قبل عناصر التنظيم، أثبتت لكل السياسيين أن العراقيين لا يختلفون على وحدتهم أبداً، فهم بيت واحد عند اشتداد المحن.
لكن ذلك السلام المؤقت لم يدم طويلاً، إذ سيطر المتشددون على قرية قره قوش، وهي أكبر القرى المسيحية في العراق، واضطر الآلاف إلى الهرب عبر الجبال وطرق الموت البرية باتجاه إقليم كردستان العراق، وسط حر لاهف وعجز كامل، بلا غذاء ولا دواء.
وأكد وليم وردا المسئول في منظمة «حمورابي» لحقوق الإنسان الذي زار تلك القرية النائية لتقديم المساعدات للنازحين حينها، أن اكثر العائلات التي نزحت كانت من الشيعة، وقد استقبلهم أهل القرية وفتحوا بيوتهم وبيوت أقاربهم لإيواء أكثر من 150 عائلة.
وكان تنظيم «داعش» قد دعا المسيحيين في الموصل إلى اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو مغادرة المدينة وإلا فإنهم سيقتلون.
ويتعرض المسيحيون في العراق إلى أعمال عنف منذ سنة 2003 في بغداد والموصل وكركوك والبصرة، كان من بينها حادثة خطف وقتل المطران الكلداني الكاثوليكي بولس فرج رحو في مارس 2008، وحادثة اقتحام كنيسة سيدة النجاة من قبل مسلحين تابعين لتنظيم القاعدة في سنة 2010.
وكان المسيحيون يشكلون نسبة 3,1% من السكان في العراق وفق إحصاء أجري عام 1947، وبلغ عددهم في الثمانينيات بين 1,8 مليون ومليوني نسمة، لكن انخفضت هذه النسبة بسبب الهجرة خلال فترة التسعينات وما أعقبها من حروب وأوضاع اقتصادية وسياسية متردية، كما هاجرت أعداد كبيرة منهم إلى الخارج بعد غزو العراق في 2003.
رعب حرف «النون».
تابعت منظمة «حمورابي» لحقوق الإنسان عن قرب ما جرى للمسيحيين في العراق بشكل عام، وما جرى لهم في الموصل، خصوصاً بعد التهديدات الأخيرة.
وروى وليم وردا لـ«الاتحاد الإماراتية» حالة الهلع التي أصابت المسيحيين عندما كتب على أبوابهم حرف «النون»، أي بمعنى «الساكن هنا من النصارى»، وقال: «لقد بدأت صفحة أخرى خطيرة من الانتهاكات في المدينة، فقد أصدر المسلحون بياناً يستهدف تحديداً المسيحيين، إذ وضعوهم أمام خيارات ثلاثة لا بديل لها، وهي إما إشهار إسلامهم، أو الانتظام في دفع الجزية، أو أن تكون رقابهم تحت السيف بمعنى قتلهم، وقد أثار البيان هلعاً كبيراً في صفوف السكان الذين لا حول لهم ولا قوة، وليس لهم من حلول يحمون بها وجودهم إلا النزوح.
وهكذا شهدت الموصل يومي الخميس والجمعة 17 و18 يوليو والأيام التي تلتها حسب تقديرات موثقة، نزوح العديد من العائلات التي واجهت نسخة أكثر مرارة عند نقاط التفتيش حيث تم سلب ممتلكاتها، والأموال التي حملتها، وجرى ذلك بالتحديد خلال مرورها من نقطتي تفتيش أقامها المسلحون في نهاية حيي العربي والشلالات (السادة وبعويزة).
لقد تدفق هؤلاء النازحون المرعوبون من شدة الهول الذي تعرضوا له إلى منطقة سهل نينوي، وإلى محافظة دهوك المكتظتين أصلاً بأعداد غفيرة من نازحين سابقين».
وقال وردا أيضاً: «إن حالة السلب والتهجير والقتل والإذلال والابتزاز التي تعرض لها المكون المسيحي والأقليات الأخرى في محافظة نينوي- تستدعي من المجتمع الدولي تحركاً سريعاً لتحقيق أي نوع من الحماية لهذه الأقليات».
مناشداً الحكومة العراقية أن تعطي هذا الجانب حيزاً من عملها اليومي في أي نوع من الحماية لصيانة شرف النازحين وحقوقهم، وأيضاً أن تلبي حاجاتهم الاقتصادية من خلال صرف رواتب الموظفين أو تقديم إعانات مالية لهم.
وحول آخر الإحصاءات عن هجرة المسيحيين التي رصدتها منظمته، قال وردا: «إن هناك أكثر من 1500 عائلة مسيحية نازحة من الموصل توجد الآن في منطقة سهل نينوي ومحافظة دهوك».
وكانت المنظمة سجلت زيادة بالنزوح وصلت إلى 400 عائلة خلال أيام 17 و18 و19 و20 يوليو 2014 توزع أغلبها في مناطق سهل نينوي، حيث غصت المدن والنواحي والقرى في المنطقة بأعدادهم، وما زال هناك العديد منهم بلا مأوى حقيقي، وبلا أبسط أنواع الخدمات التي لا تستطيع إمكانيات أقضية وبلدات سهل نينوي تلبيتها بشكل لائق».
وقال لويس مرقوس أيوب مسئول الفريق الميداني في منظمة «حمورابي»: «إن الظروف التي تمر بها منطقة سهل نينوي قاسية جداً، وإن سكان الأرياف والقرى المسيحية أبلوا بلاء حسناً في فتح بيوتهم للنازحين»، وأضاف: «إن المسلحين لم يكتفوا بالتهديدات التي وجهوها إلى النازحين بل وسلبوا مقتنياتهم من السيارات والأوراق الثبوتية، ومنها جوازات سفر».
تدمير التراث الإنساني
الحياة القاسية والخوف والتهجير ليست وحدها ما يواجهه المكون المسيحي في العراق، بل إن التراث الذي تحويه الكنائس في الموصل الذي يعود تاريخه إلى مئات السنين هو الآخر مهدد بالضياع أمام عمليات الحرق والتدمير التي تتعرض لها الكنائس.
وقد حذر بطريرك الكلدان في العراق والعالم لويس رؤفائيل الأول ساكو، من تدمير التراث المسيحي في العراق ونهبه كونه يشكل إرثاً إنسانياً لا يقدر بثمن.
وفي حين عدّ ما تعرض له المسيحيون «جريمة ضد البشرية»، شدد على رفض كل مظاهر العنف والتمييز بين المكونات العراقية بوصفها ضماناً للتوازن والعيش المشترك.
وقال البطريرك ساكو: «إن العائلات المسيحية النازحة باتت على خط الخطر، وقد ناشدنا حكومة إقليم كردستان حماية مناطق سهل نينوى خشية زحف المتشددين إليها»، مؤكداً ضرورة توفير الحماية اللازمة للمسيحيين والأقليات الأخرى وحفظ حقوقهم كاملة وتقديم الدعم المالي للأسر النازحة منهم التي خسرت كل شيء.
ودعا ساكو الحكومة الاتحادية إلى صرف رواتب الموظفين من النازحين بصورة عاجلة وضمان استمرارية ذلك وتوثيق الأضرار التي لحقت بهم وتعويضهم عنها، مناشداً أصحاب الضمير الحي في العراق والعالم بضرورة «الضغط على المتشددين للكف عن تدمير الكنائس والأديرة وإحراق المخطوطات والآثار المسيحية، كونها تراثاً إنسانياً لا يقدر بثمن.
وأشاد بدور وموقف حكومة إقليم كردستان لاستقبالها العائلات النازحة ورعايتها».
وكشف عن عقد أساقفة الموصل ومجلس رؤساء كنائس العراق اجتماعاً في أربيل، خلال اليومين الماضيين، لمناقشة الأحداث على الساحة العراقية وأوضاع مسيحيي الموصل، بحضور ممثلين عن الأمم المتحدة وأعضاء السلك الدبلوماسي في إقليم كردستان.
وأوضح أن المشاركين أجمعوا على أن ما تعرض له المسيحيون جريمة ضد البشرية، وأن على الجميع رفض كل مظاهر العنف والتمييز بين المكونات العراقية بوصفها ضمان التوازن والعيش المشترك بين العراقيين.
جريمة ضد الإنسانية
ودان التحالف المدني الديمقراطي النهج الإجرامي لـ«داعش» تجاه المسيحيين، وعدّه بأنه جريمة ضد الإنسانية، وحمّل الكتل السياسية المتصارعة على السلطة مسئولية احتلال التنظيم للموصل والمحافظات الأخرى.
وفيما طالب المنظمات المدنية والأمم المتحدة بتنظيم جهد وطني واسع لإغاثة المهجرين من المناطق الساخنة، شدد على ضرورة الإسراع بتشكيل حكومة وحدة وطنية على أساس الاستحقاق الانتخابي وتحظى بقبول واسع داخل البرلمان وخارجه.
وقال التحالف في بيان: «إن الفعل الإجرامي لداعش وحلفائه تجاه المسيحيين العراقيين يعد جريمة ضد الإنسانية وفق معايير القانون الدولي الإنساني وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة»، موضحاً «إن الدولة العراقية تتحمل مسئولية حماية مواطنيها وإذا ما أظهرت عجزاً أو إخفاقاً، وهذا ما يحصل في الوقت الراهن، فإن المجتمع الدولي يتحمل المسئولية القانونية والأخلاقية لتوفير الحماية والأمن الإنساني للعائلات المتضررة في مناطق الصراع المسلح».
وأضاف التحالف «إنه يدين ويشجب النهج الإجرامي لداعش وحلفائه بالاستهداف المنظم لأطياف محددة من الشعب العراقي»، مشيراً إلى أن الكتل المتصارعة على النفوذ والاستحواذ على السلطة بأيّ ثمن كان وعلى حساب دماء وأرواح العراقيين، تتحمل مسئولية مأساة احتلال داعش للموصل وامتدادها إلى محافظات أخرى بدعم من قوى عشائرية وسياسية رافضة للعملية السياسية، وتسلك سلوكاً طائفياً.
تهديد التنوع الثقافي
وقال وكيل وزارة الثقافة العراقية طاهر الحمود: إن إفراغ العراق من الأقليات يمثل تهديداً للتنوع الثقافي، مؤكداً أن مدينة الموصل هذه الأيام شهدت أكبر موجة نزوح للأسر المسيحية بفعل تهديدات إرهابيي «داعش» لها بالقتل أو ترك الديار، وتأتي بعد أسابيع من ارتكاب التنظيم جرائم مماثلة ضد التركمان الشيعة والشبك.
وقال: «إن ما يجري في الموصل من أعمال قتل وتنكيل ضد أبنائها، وما يعانيه نازحوها من ظروف إنسانية صعبة جعلتهم يفترشون الفاقة ويلتحفون المرض في مخيمات الإيواء، يعد بحق مأساة تدمي الضمير الحي، وتستصرخ كل من يهمه أمر البلاد والعباد».
وأشار إلى أن الكلمات تعجز عن وصف الكارثة الإنسانية التي المّت في الموصل على يد تكفيريي داعش، بحيث لم يكتفوا بممارسة التطهير العرقي والطائفي ضد أبناء الأقليات، بل عمدوا إلى سلب حاجياتهم ومصوغاتهم أثناء خروجهم من الديار مكرهين.
مؤكداً أن المسيحيين الذين التصقوا بتربة هذا الوطن، وأسسوا مع إخوانهم العراقيين من المكونات والأطياف الأخرى حضارة إنسانية تمتد لآلاف السنين، أصبحوا اليوم ومثلهم الشبك والتركمان والأقليات الأخرى، مهددين في بلدهم ومجبرين على الرحيل، ما سيتسبب بخسارة العراق لمكونات أصيلة في نسيجه، متعددة الألوان.
وقال الحمود: «إن خطط التكفيريين لإفراغ العراق من الأقليات تمثل تهديداً خطيراً للتنوع الثقافي الذي هو مصدر الغنى والقوة في بلدنا؛ لذا نجد لزاماً علينا أن ننبه إلى خطورة هذه المخططات الإرهابية، وأن يعطى الأمر أهمية استثنائية من قبل الجهات المعنية، وأن تكون القضية الأولى التي لا يعلو عليها ضجيج السياسة، وأصوات اللاهثين وراء الامتيازات والمناصب».
مطالباً باعتبار ما يحدث في الموصل وغيرها من المدن المنكوبة جرائم ضد الإنسانية تستدعي ملاحقة مرتكبيها والداعمين لها.
رفض أجندات «داعش»
ووصف النائب عن كتلة التغيير درباز محمد ما يتعرض له المسيحيون والمكونات الأخرى في الموصل من تهجير على يد عناصر تنظيم داعش الإرهابي، بأنه صورة مروعة لجرائم هذا التنظيم بحق من يرفض الرضوخ لأجنداته المتخلفة.
وقال: «إن مسيحيي الموصل يطلقون اليوم صرخات استغاثة تدمي القلوب بعد أن قام عناصر داعش بكتابة حرف النون على أبواب بيوتهم للإشارة إلى أن هذه المنازل يقطنها نصارى، فضلاً عن تكرار الأمر ذاته مع بقية المكونات التي تقطن الموصل، ومعظم هؤلاء اضطروا للنزوح بعد أن خيّرهم الإرهابيون بين دفع الجزية أو الرحيل أو الموت».
وأوضح أنه «من المؤسف أن هذه الأعمال الإجرامية ليست جديدة في تاريخ العراق، فهي تعيد إلى الأذهان ما فعله النظام السابق ضد الكرد والكرد الفليين من تهجير وتغيير ديموغرافي لمناطقهم، ومن ذاق مرارة التهجير سيتألم لحال إخوتنا المسيحيين وبقية المكونات في الموصل».
وشدد على ضرورة تضافر الجهود لإغاثة هؤلاء النازحين الذين لاحول لهم ولا قوة، من خلال توفير السكن الملائم والغذاء والمستلزمات الطبية والإنسانية، إلى حين زوال الخطر واستتباب الأمن في مناطقهم
(الاتحاد الإماراتية)