لقد أضحت هذه التيارات تمثل قوى مجتمعية واسعة الانتشار، وعميقة الجذور الشعبية، على حساب اطراد هامشية القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، ويعود ذلك إلى ممارستها العمل الاجتماعي والسياسي وسط عامة الناس لسنوات طوال، وفى ظروف بالغة الصعوبة تحت طائلة الحكم التسلطي، وقد دفعت ثمن هذا الاختيار تنكيلا وسجنا وتعذيبا، واستحقت لذلك جائزة اتساع القبول الشعبي، والتأييد السياسي عند الحاجة..
وفى المقابل، مالت القوى الأخرى إلى التركيز على المنشورات وصالونات الفكر والثقافة، مأمونة العواقب، ومعقّمة الممسك، وكأنها تعاف «قذى» الالتحام بحاجات الجماهير وحركتها.
كذلك أفلحت محاولات «الترويض» التي قامت بها الولايات المتحدة إزاء جميع التيارات الإسلامية، سواء جماعة الإخوان المسلمين أو السلفيين أو تيار الإسلام الشعبي، ممثلا في الجماعات الصوفية، استتباعا لتوافق واشنطن مع النظم السلفية في منطقة الخليج، ومحاولتها هذه الأيام إنهاك القوى الإسلامية الراديكالية في اليمن وليبيا لصالح الاقتراب معها إلى «قناعات» مشتركة، حال وصولها إلى الحكم أو المشاركة فيه، بهدف المساعدة في تكوين إسلام «طيّع»، يمكن تحويلها لمواجهة إسلام المقاومة، وهو ما تحدث عنه المفكر المصري سمير أمين، منذ أكثر من عشر سنوات، حيث أبدى عدم استغرابه من خيارات دبلوماسية الولايات المتحدة، التي لا ترى تناقضا بين إقامة حكم إسلامي وبين مشروعها للهيمنة.
إذْ لا تعتبر واشنطن الحركات الإسلامية من بين أعدائها، بل تشجعها، خلا حركتين اثنتين، هما «حماس» في فلسطين، و«حزب الله» في لبنان، لأن الجغرافيا وضعت هاتين الحركتين موقع معاداة إسرائيل، وبما أن مساندة إسرائيل تحتل مكانة الأولوية في الأجندة الأمريكية، كان لا بد من وصف هاتين الحركتين بالإرهاب، بينما تمتنع واشنطن عن إدانة الحركات الإسلامية التي تمارس بالفعل وسائل العنف ضد مواطنيها في بلدان أخرى.
بالنسبة إلى الفصيل الأساسي، جماعة الإخوان المسلمين، فإن انشغالها خلال العقود الأربعة الماضية بتأسيس إمبراطورية اقتصادية، مع دخولها إلى سوق المال الدولية، واستثمارها جزءًا كبيرًا من أموالها في الخارج، أدى بها إلى توارى نشاطها الدعوى لصالح السياسي، وإلى إعادة إنتاج تنظيمها العسكري وإن كان على نحو موارب، مع انشغال بالجزئيات، وافتقاد حسن تقدير الواقع، ناهينا بعدم استقرار الإيمان بالديمقراطية في صفوفها، وهو ما حدا بالباحث الإسلامي الراحل حسام تمّام إلى التأكيد أن مشروع الجماعة، وفى ظل فاعلية من القطبيين الجدد، قد أنهك إلى حدّ الإعياء."
فيما اشار في اكثر من موقع على سلفية الجماعة الاسلامية بقوله "دعني -ابتداء- أشر هنا إلى تلك النبوءة التى أطلقها المؤرخ الباكستاني دليب هيرو، في كتابه «الأصولية الإسلامية في العصر الحديث»، حين أكد منذ قرابة خمس عشرة سنة، أن بزوغ مصر كدولة سلفية، وهى دولة سنّية لها أهميتها الاستراتيجية داخل الوطن العربي، سيهز العالم الإسلامي وغير الإسلامي، على نحو يفوق كثيرًا ما حدث حول تفجر الثورة الإيرانية في سنة 1979.
وبهذه المناسبة، يشار إلى وجود دلائل واضحة لتصاعد السلفية راهنا فى مصر، إن على مستوى المجال العام (تنامى استخدام الرموز الدينية فى لغة الخطاب اليومي، تصاعد اللاهوت التليفزيوني السلفي، الملصقات والجداريات، الوعظ فى وسائل النقل والمواصلات، تصاعد دعاوى الحسبة لمطاردة المبدعين والمفكرين..)، أو على المستوى اليومي (تعاظم الهوس بإطلاق اللحى وارتداء الجلابيب البيضاء، تزايد أعداد مرتديات النقاب، استخدام أعضاء الجماعة السلفية ألقابًا وكنى وصفات بعينها، الحض على تعدد الزوجات، تكريس عادات وتقاليد خاصة في مناسبات الميلاد، والزواج، والوفاة..).
ويقدر عدد السلفيين في الوقت الحاضر بين مليون ومليون ونصف المليون، وينتمى أغلبهم إلى شرائح الفقراء وإلى مستويات مهنية وتعليمية مختلفة، وينتشرون على رقعة جغرافية واسعة، أخطرها منطقة سيناء ومحافظة الفيوم، ويمتلكون قرابة تسعة آلاف مسجد، وستة آلاف زاوية، ونحو (13) ألف جمعية خيرية، وأكثر من أربعين قناة فضائية، وكلها تتلقى أموالًا طائلة من بعض دول الخليج.
وعلى الرغم من محاولة الحركة السلفية تلبّس القول الاعتقادي، والتبرّؤ من «نيّة» العمل السياسي، واعتباره من «المفاسد»، فإن ممارساتها اليومية تشى باستبطانها هذا العمل، حيث يوجد بعض من مدلولاته فى أشكال حياتها اليومية، مثال ذلك: قيامها بإنشاء مشروعات اقتصادية متوسطة وصغيرة، بإغداقات خليجية متواصلة، وهى مشروعات تضع بين أهدافها مساعدة الأحزاب السلفية، وتقديم الدعم إلى المرشحين السلفيين، وكلها ممارسات تفضح عن مصالح اجتماعية، وتفسر قدرة الحركة السلفية على التجنيد وحشد الأتباع اعتمادا على استراتيجية إحرازية قصيرة النفس، تبدأ من الاستقامة الفردية، وصولا إلى الفعل الجماعي السياسي.
والأمر حول النزعة السلفية الرائجة حاضرا، بخطابها وحركتها، يجعلها أقرب إلى الصيغة «الشعبوية»، تلك التي يحكمها مبدأ واحد هو «المبدأ العشائري»، أو «مبدأ القطيع»، الذى يرفض النخبة، وينفى التعدد والاختلاف والتمايز، ولا يقول إلا بالانسجام والانضباط والتطابق والاختزال وأُنْس العشيرة، بينما هي من حيث طابعها تتخذ في حركتها هيئة الحشد الجماهيري، كعشائر راسخة في اغترابها، متجمهرة في دوائر جماعية متصلّبة، امتثالا لقناعات طقسية المظهر، أنتج النظام استتباعها السلس، وحرم عددها الغوغائي حقه في الرشد، وأسكنه خمول الوعى بالذات، وصيّر حركته مجرد تحريك لخيوط غير مرئية، غاب عنها البرهان وطورد العقل، وغلقت فيه أبواب الاجتهاد.. وهل أتاك حديث أنصار الشيخ حازم أبو إسماعيل؟!
وصدر للدكتور محمد حافظ دياب كتاب "السلفيون والسياسة" عام 2014، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في 247صفحة.
هذا الكتاب كما يقول مؤلفه مساهمة في الكشف عن منظومة العلاقات المتشابكة بين السلفيين والسياسة، انطلاقا من تواصل المشروع السلفي من دائرة المعتقد إلى لٌحمة الثقافة العامة، حيث أصبح للتيار السلفي حضوره كطرف في الصراع الأيديولوجي الدائر داخل المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة.
ويذكر المؤلف أن مفهوم السياسة لدى السلفيين لا يتأسس وفق برنامج سياسي اجتماعي اقتصادي محدد كما هو الحال لدى الحركات والأحزاب السياسية التقليدية، وإنما وفق منطق مختلف يعتبر السياسة استكمالا للمشروع الدعوي وتفعيل لنسقها القائم على التعبئة والمصلحة والتدافع والخلاف.
ويوضح المؤلف، إنه رغم انتشار السلفية في كافة بلدان العالم العربي والإسلامي والغربي، فإنه اختار هذه الدراسة في السعودية والمغرب ومصر، وتعرض للسلفية الجهادية باعتبارها الأكثر تمثيلاً.
وعن سبب اختيار تلك الدولة، يقول إن السعودية هي موطن نشوء هذا التيار في التاريخ الحديث مع الحركة الوهابية، والمغرب لارتباط السلفية هناك بالقضية الوطنية منذ الاستقلال، ومصر بسبب الظهور القوي للحركة السلفية في الآونة الأخيرة، وإعلانها التخلي عن واحدة من قناعاتها، التي كانت تعتبر المشاركة في الحياة السياسية من المفاسد، كما ترى السلفية الجهادية ضرورة إسقاط الأنظمة؛ لأنها من وجهة نظرها كافرة ويجب استبدالها بالحكومة الإسلامية التي تعمل تحت راية الخلافة الإسلامية.
والكتاب يحتوى على بابين يحويان سبعة فصول، ومقدمة وختام. الباب الأول يتضمن ثلاثة فصول: مقدمة نظرية حول مفهوم السلفية وبنية خطابها ، والباب الثاني يحتوي على أربع فصول: يوضح علاقة السلفيين التاريخية بالسياسة، من خلال أربع نماذج أساسية هي ( الحركة الوهابية ـــ الحالة المغربية ـــ المشروع المصري ــ السلفية الجهادية ).
وفي خاتمة الكتاب، يتوقع المؤلف ( أربعة احتمالات) لمسار الحركة السلفية، وهى :ــ
الاحتمال الأول : هو استعداد مختلف التيارات السلفية للمشاركة السياسية، وهو الاحتمال الأكثر واقعية.
الاحتمال الثاني : إن الخبرة مع التيارات السلفية وخاصة بعد استثمار سقوط جماعة الإخوان المسلمين في 30 يونيو 2013، (المشاركة في خارطة الطريق، التقدم كبديل لجماعة الإخوان المسلمين وغيره من التسويات السياسية تحت تأثير مهدئ أو آخر) هذا كله يفيد أن محتوى القصور ذاته يظل كامنا للانفجار في أية لحظة، بمجرد ضعف أو تراخي تأثير هذه التسويات، وصولا إلى طرح تسوية جديدة.
الاحتمال الثالث : يتمثل في تجذر الصراع العلماني الإسلامي، وهو من وجهة نظر المؤلف الأكثر خطورة، لأنه قد يؤدى إلى توقف المسار الديمقراطي.
الاحتمال الرابع : هو انشطار التيارات السلفية ما بين النزعة البرجماتية والمحافظة، وسبب هذا الاحتمال هو اعتماد ذراع هذه التيارات على كبار مشايخها، مع عدم وجود تيار قوي يعمل في الشارع السياسي بحرفية ومهنية.
وفي النهاية، يشير المؤلف إلى أنه ربما تطور التيارات السلفية خطابها السياسي والإيديولوجي للقبول بقيم اللعبة الديمقراطية، ومخرجاتها.
وعن التراث يقول الراحل محمد حافظ دياب: يتم وصم التراث الشعبي، لدى قطاعات واسعة من المثقفين العرب، بالمحدودية والتخلف، باعتباره ايديولوجية غيبية، تضبط أوتار السلوك الفردي والجمعي ضبطا محكما بعيدا عن روح العلم، مما يشكل، في نظرها، عائقا أمام التقدم، نظرا لأن القيم والتقاليد التي يحملها تتعارض مع الحداثة والعصرنة، بما يوجب القطيعة معه. هناك كذلك محاولات توظيفه، ودمجه في إطار سياسات تستهدف تبرير شرعية السلطة السياسية، بما يفرض تصويرا خاصا لهذا التراث الشعبي، من أجل توجيه قيمه إلى حالة من التوحد الثقافي، والمعلوماتية الأكثر ابتذالا ويومية.
وهو ما تقوم به الثقافة الجماهيرية، وجهاز التليفزيون تحديدا. وبجانب هذين الموقفين يتراءى موقف تقنيعه، بتحويله من علة وجوده في إطار سياقاته الحضارية والاجتماعية، إلى استعمال يفرض عليه من خارجها، بمعنى أقرب إلى “التراث المتوهم” الذى تمارس عليه عملية طلاء، كي تبدو ومفرداته أشبه بقصائد الفخر، وهو ما يحدث راهنا في منطقة الخليج، ما جلبته الوفرة النفطية لديها، من حاجة لتمويله إلى مقتنى متحفي. يضاف إلى هذه المواقف السالبة، موقف التسليع، ويقوم على الاستخدام النفعي لهذا التراث، بتمويله من “موضوع تراثي” إلى “موضوع استعمالي” عبر تسويق مواده، وبالذات ما يتصل منها بالمفردات التشكيلية والحركية والايقاعية، واستثماره للغنم السياحي، والتعامل معها كبضاعة للافتتان والاستهلاك، كي تتلاءم مع “ذوق” الأفواج السياحية، القادمة من الشاطئ الآخر، وتقديمها كطعوم فولكلورية نيئة، أو كخردوات مزركشة بالأضواء والألوان.