مشروع الأكاديمية الجديدة المزمع إنشاؤها في مصر من طرف مؤسسة الأزهر، يثير أكثر من سؤال يتعلّق بمستقبل الشأن الديني لهذا البلد ذي الثقل الكبير في العالمين العربي والإسلامي، فالصراع بات واضحا ومعلنا بين وزارة الأوقاف التي تريد ضبط المسألة الدينية والتأمين عليها من مجاهل التطرف والتشدد، وبين مؤسسة الأزهر التي تقول بدورها إنها تسعى إلى تجديد الخطاب الديني وإنقاذه من الفكر المتشدّد.
ألقى الصراع المعلن بين الأزهر والأوقاف، بحجر ثقيل جديد في المياه المتحركة بين الجانبين، حيث شرع الأول في امتلاك آلية جديدة للسيطرة على العمل الدعوي بمصر، بعد أن شعر بوجود نية لسحب البساط من تحت أقدامه لصالح وزارة الأوقاف.
لذلك لجأ الأزهر إلى التفكير في إنشاء أكاديمية علمية تكون مسؤولة عن شؤون الدعوة والإفتاء والوعظ، ليتحكم هو في نبض الجماهير من المنبع.
جاء طرح مسألة الأكاديمية بعد تدخل الرئيس عبدالفتاح السيسي لرأب الصدع بين الوزير مختار جمعة، وأحمد الطيب شيخ الأزهر، واستغل هذا الأخير تلميح الرئيس المصري إلى دعمه للمشيخة في فرض رؤيتها بشأن ما يتعلق بالأمور الدعوية، وطرح إنشاء الأكاديمية، وحصل بالفعل على موافقة ودعم رئيس الدولة.
ويرى مراقبون أن توقيت الإعلان، حتى وإن كان لأهداف نبيلة، فإنه بدا كأنه محاولة لاستغلال الأجواء السياسية لفرض النفوذ الكامل للأزهر على كل ما يخص الدعوة والإفتاء، ما يمكنه لاحقا من السيطرة على زمام الأمور داخل المساجد، ولا يتعدى دور وزارة الأوقاف ضبط النواحي الإدارية فقط، وإبعادها عن رقابة العمل الوعظي، وهو ما كشفت عنه تجليات المعركة بين الطرفين مؤخرا.
ما يعزز هذا الطرح، أن الأزهر يسعى من خلال الأكاديمية إلى تكريس نفوذه على الإفتاء أيضا، حتى يتحكم في خارطة الفتاوى، ولا سيما أن المعلن بشأن أهداف الأكاديمية، هو أن يكون التقدم إلى الوعظ أو الإمامة أو الإفتاء مقصورا على خريجيها، ولو كان المتقدم من أوائل الكليات الشرعية.
المفارقة، أن دار الإفتاء ووزارة الأوقاف، لدى كل منهما أكاديمية تابعة لها، الأولى مختصة بالتدريب على الفتوى، والثانية تتبع الأوقاف وقد أنشئت في يناير الماضي، وتهدف إلى إعداد إمام يستطيع التواصل مع العالم بلغة عصرية، ومواجهة التطرف وتحسين المستوى العلمي للدعاة.
ويرى متابعون لفكرة أكاديمية الأزهر أن إنشاءها بنفس اختصاصات أكاديميتي الإفتاء والأوقاف، يعني أن لديها أهدافا خفية ربما تتمحور في إطار محاولات السيطرة على الفضاء الدعوي العام، استنادا إلى الدستور الذي يؤكد حقه في ذلك، بعدما شعر أن وجوده على الساحة السياسية والدينية بدأ يتراجع، لكثرة أنشطة الطرفين (الإفتاء والأوقاف).
ووصل حدّ سيطرة الأزهر على المجال الدعوي، أن قام الشيخ الطيب بإبلاغ غريمه وزير الأوقاف أثناء لقاء جمعهما أخيرا بفكرة الأكاديمية، مشددا على أن “اختيار عناصر موضوع خطبة الجمعة الموزعة على المساجد والأئمة سيكون من اختصاص هيئة كبار العلماء بالمشيخة فقط”.
وكان موضوع الخطبة بالنسبة لوزير الأوقاف “سلطة من نوع خاص” وحاول أن يستخدمها كأداة للمزيد من التقرب للنظام الحاكم، والآن سحبت هذه السلطة من بين يديه، عقب إعلانه إلغاء قراره بالخطبة المكتوبة قبل أيام.
وقام ما يسمى بـ“جبهة استقلال الأزهر” بشن هجوم حاد على الشيخ الطيب، وقالت إن “فكرة الأكاديمية فاشلة” لأنها تنم عن رغبة في السيطرة على قطاعات الدعوة، وهذه أهداف سياسية بحتة.
وأضافت “الساعون إلى إنشاء الأكاديمية لا يعرفون أصول وفنون الدعوة وسوف يضرون التعليم بشكل كبير”.
وفي نظرها كان من الأولى عمل أجندة تشريعية بالقوانين التي يحتاج إليها كل من قطاعي التعليم والدعوة، كطريق أفضل من إنشاء أكاديمية جديدة يمكن أن تفشل بسبب عدم وجود تخصّص ودور واضح لها.
الأكاديمية خطوة إيجابية على الطريق الصحيح ضمن استراتيجية وضعها شيخ الأزهر بهدف تجديد الخطاب الديني
وذهب سامح عيد، الباحث المتخصص في شؤون الإسلام السياسي، إلى أن الأزهر أدرك “الثروة المالية الموجودة لدى وزارة الأوقاف، والمتمثلة في الأراضي والمباني التي تصل قيمتها إلى المليارات من الجنيهات، والموجودة في مختلف محافظات الجمهورية، وبالتالي فهو يسعى إلى ضمها تحت لوائه بمحاولة السيطرة على مجريات الأمور داخل الوزارة”.
وأضاف لـ“العرب” أن فرض الأزهر لنفوذه على الوعظ من خلال الأكاديمية، يفتح الباب أمامه لاحقا للاستحواذ على ما لدى الأوقاف من مبانٍ وأراض، وهذا محل نزاع دائم بين الطرفين، وقد استغل الأزهر استقلاليته عن الجهاز الحكومي، للتحكم في مفاصل الأمور وفق قوانينه وتشريعاته.
علاوة على أن فكرة الأكاديمية توحي بأن المساجد مستقبلا ستكون تحت سيطرة الأزهر في الدعوة والإمامة، وتقتصر مهمة الأوقاف على تنظيم العمل الإداري فقط، وسحب جزء كبير من صلاحياتها، عبر “بوابة تدريب الدعاة والأئمة والوعاظ”.
وأوضح أن ذلك له نتائج إيجابية بالنسبة إلى تحسين مستوى الخطباء وإقصاء غير خريجي الأكاديمية عن العمل الدعوي والوعظي، وهذه من أهداف الأكاديمية.
على طرف آخر، يرى الأزهر وعلماؤه من المؤيدين لسياسة الشيخ أحمد الطيب، أن فكرة إنشاء الأكاديمية “نقطة انطلاق نحو وضع آليات حقيقية لتجديد الخطاب الديني، ولم شمل المؤسسات الدينية تحت مظلته، وتوحيد الرؤى والأهداف بعيدا عن الصراعات الخفية والمعلنة التي تضعف جميع الأطراف”.
من هؤلاء عبدالفتاح العواري عميد كلية الدراسات الإسلامية بالأزهر، الذي يعتقد أن الأكاديمية “خطوة إيجابية على الطريق الصحيح ضمن استراتيجية وضعها شيخ الأزهر لتصحيح المسار بالنسبة إلى الدعاة والأئمة والوعاظ والمفتين وتوحيد المنابع والروافد بهدف تجديد الخطاب الديني، وحتى لا يكون هناك خلط في المفاهيم وتشتيت للأفكار والطروحات الدينية”.
وأضاف عميد كلية الدراسات الإسلامية في تصريحات لـ“العرب” أن الأكاديمية تمنع أصحاب الفكر المتطرف من اعتلاء المنابر أو إصدار الفتاوى أو إمامة الناس بالمساجد، ومن هاجموا الفكرة يحاولون إقصاء الأزهر وعلمائه، فهؤلاء يطالبون بتجديد الخطاب الديني، وإذا اتخذت خطوة نحوه يطالبون بالتراجع عنها.
وهناك من يرى أن تدريب خريجي الأزهر بالأكاديمية إساءة له، واعتراف ضمني بأن خريجيه غير جديرين بالعمل الدعوي.
لكن عبدالفتاح العواري ردّ على ذلك بأن “أيّ خريج يحتاج إلى دورات تثقيفية تتواءم مع ما تقتضيه متطلبات العصر”، وأن مراكز التدريب بالأوقاف ستكون تحت إشراف أكاديمية الأزهر، لأجل توحيد الكلمة بمعرفة مظلة المشيخة.
(العرب اللندنية)