تغييرات في الخارطة السياسية يشهدها العالم اليوم أفرزت صعودا لقوى إقليمية وتراجع أخرى ما ولّد تباينا في مواقف حلفاء تقليديين تجمعهم علاقات ثابتة وتاريخية كمصر والسعودية بسبب تباين في تناول أزمات المنطقة، غير أنها لا تبدو خلافات جوهرية حيث يتوقع خبراء ومراقبون عودة العلاقات إلى سالف عهدها بين الطرفين نظرا لما تتطلبه التطورات الأخيرة المتسارعة من تقارب في الرؤى الاستراتيجية وخاصة لجهة التصدي لتهديدات الجماعات الإرهابية ومواجهة النفوذ الإيراني المستشري في المنطقة.
تجميد الخلافات ضرورة ملحة
واشنطن – شهدت العلاقات السعودية المصرية تجاذبات واختلافات في الرؤى في الفترة الأخيرة لتناول الطرفين لقضايا المنطقة بوجهات نظر مختلفة، خاصة في ما يخص الملف السوري. لكن، تاريخ العلاقات بين البلدين، ووزنهما في المنطقة، يدفع خبراء استراتيجيين في مجموعة الشرق الاستشارية (مركز أبحاث مقره واشنطن) إلى توقع عودة التحالف التقليدي بين الرياض والقاهرة.
تتحدث مجموعة الشرق الاستشارية، في تحليل حديث لها، عن تجاوز مصر والمملكة العربية السعودية الخلافات القائمة وتحقيق نتائج إيجابية عقب الجهود الخليجية المبذولة لتذويبها.
وتستوجب تطورات المنطقة المتلاحقة اعتماد استراتيجية موحدة بين الطرفين لمواجهة التحديات الراهنة والمتغيرات الدولية.
وبات تحديد المشترك بين القاهرة والرياض والنأي عن المختلف ضرورة ملحة الآن للحفاظ على الركائز الأساسية للأمن القومي العربي، على خلفية التطورات الأخيرة المتسارعة في العالم وفي المنطقة العربية بشكل خاص، سواء بعد وصول إدارة جديدة في البيت الأبيض الأميركي برئاسة دونالد ترامب أو بسبب التغيرات المتلاحقة على الأرض في سوريا وليبيا واليمن والعراق، ناهيك عن الجمود السائد في القضية الفلسطينية وتصاعد مخاطر الإرهاب.
ترى المجموعة البحثية أنه يتوجب على الرياض ومصر في الوقت الراهن تجاوز حالة الغضب السائدة بينهما ومحاولة تنحية الاختلافات والتركيز على مجالات الاتفاق، وهي عديدة، سعيا لبناء آلية إقليمية تعزز الاستقرار.
وهذه الآلية هي التي ينبغي أن تضع في الحسبان مدى الخطر الذي يمثله التدخل الإيراني المتزايد في العديد من الملفات الحيوية العربية وأيضا ضرورة التوحد لمواجهة سرطان الإرهاب وضرورة محاصرته قبل أن يتحول إلى داء عضال مزمن يستفحل فلا يرحم أحدا.
تحديد المشترك بين القاهرة والرياض والنأي عن المختلف، ضرورة ملحة للحفاظ على الركائز الأساسية للأمن القومي
وكانت قد ظهرت بعض علامات الخلاف حين أوقفت السعودية تصدير شحنات النفط التي توفرها شركة أرامكو السعودية لمصر وبشروط ميسرة الدفع. وجرى تبادل تصريحات قاسية بين الإعلاميين في كل من البلدين لفترة من الوقت، قبل أن تتدخل السلطات السياسية وتضع حدا لذلك.
دواعي الخلافات
ترى مجموعة الشرق الاستشارية أنه يجب النظر إلى أسباب الخلاف على ضوء اثنين من العوامل: الأول هو الأزمة السورية، والثاني هو توقعات الرياض العالية، عقب المساعدات الكبيرة التي قدمتها لتمويل مصر واقتصادها خلال العامين الماضيين، وبأن القاهرة سوف ترد بالمثل في مجالات أخرى.
ولعب ذلك دورا في تباعد وجهات النظر المختلفة حول كيفية تسيير الأمور في الشرق الأوسط، ودور كلا البلدين في ذلك، ومن ثم عادت العلاقات خطوات إلى الوراء.
ولم تبد القاهرة تحمسا تجاه سياسة الرياض في سوريا. وتعتقد السلطات المصرية أن أي أزمة إقليمية لا ينبغي أن تؤدي إلى صعود أي من حركات الإسلام السياسي لتتصدر المشهد، وللقاهرة ثوابتها في ما يتعلق بالأزمة السورية.
وعلى العكس من ذلك تعطي الرياض أولوية لمواجهة التوسع الإيراني في المنطقة، وبالتالي فإنها تعتبر تحالف طهران مع الرئيس السوري بشار الأسد، مصدرا رئيسيا لتهديد أمنها القومي بصفة خاصة والأمن العربي عامة.وبعبارة أخرى، ينظر كلا البلدين إلى أمنهما من زاويتين مختلفتين، وبالتالي فإن لدى كل منهما مجموعة مختلفة من الأولويات والتهديدات، وينعكس هذا على كيفية تشكيل كل بلد لسياساته العالمية والإقليمية.
ومن غير المجدي في هذه اللحظة، الدخول في لعبة اللوم، وبدلا من ذلك، فإن ما ينبغي القيام به هو إدارة الخلافات وتجنب أي تدهور، إلى أن تتحسن البيئة العامة في المنطقة، بما يسمح لكل من السعودية ومصر بالعودة إلى استكشاف السبل المناسبة لتلبية احتياجاتهما.
ولفتت مجموعة الشرق الاستشارية إلى أنه بالإمكان استفادة كلا البلدين من التغييرات الجارية في الخارطة السياسية العالمية، وتوظيفها لصالحهما معا، خاصة بعد تزايد الخطر الإيراني، وتصاعد قوى الإسلام السياسي في العديد من البلدان العربية الرئيسية، وما يجري في سوريا الآن يمثل دعوة مفتوحة لدول الشرق الأوسط للاستفادة الكاملة من الموجة الحالية وإنهاء النفوذ الإيراني.
تغييرات الخارطة السياسية
يعتبر المناخ السياسي العالمي مواتيا لتحقيق هدف حماية الأمن القومي السعودي والمصري معا، فمن جهة، هناك سياسة عالمية متصاعدة تسعى إلى احتواء إيران، وإقناع قادتها- بطريقة أو بأخرى- بنسيان طموحات الهيمنة الإقليمية، ومن جهة أخرى، فإن العالم لا يملك الصبر الكافي لتحمل نشاط الجهاد المتطرف العنيف أو جماعات الإسلام السياسي.
استراتيجية موحدة
وسوف يتراجع مستوى الخلاف بين المملكة العربية السعودية ومصر بسبب إجماع عالمي جديد، ومن ثم يمكن للمراقب أن يتنبأ بتوليفة جديدة تجمع بين وجهتي نظر البلدين كنتاج للجهود العالمية المقبلة. وإذا رغب البلدان في دخول المرحلة الجديدة بعيدا عن بعضهما البعض، فإن هذا سيضعف مركز كليهما مع أنهما بتوحدهما، يمكنهما تحقيق وضع أمني إقليمي جديد، بالتنسيق مع حلف شمال الأطلسي، ومع القوى العالمية الكبرى، وقد جرت مناقشة هذا الطرح في وقت سابق.
ويتطلب هذا المفهوم، الذي تم إحياؤه مؤخرا في واشنطن، ثلاثة عناصر أساسية هي: أولا، اتفاق القوى الإقليمية والقوى العالمية الرئيسية عليه، وثانيا، إبداء المجتمع الدولي استعداده للتحرك بحزم بدلا من الخطب الطويلة والثرثارة، ثم ثالثا، أن تكون المنطقة العربية مستعدة، لتوفير اللبنات اللازمة للهيكل الأمني الإقليمي الجديد، وفي هذا الإطار الشامل تبدو الخلافات السعودية المصرية صغيرة مهما كانت أسبابها.
لذلك هناك حاجة من البلدين لتجميد خلافاتهما من أجل العمل على الخطوط العريضة الأساسية لنظام الأمن الإقليمي حيث أنهما لا يستطيعان- في ظل انقسامهما- دعوة العالم إلى المشاركة في الدفاع عن المنطقة التي لا يمكنها تحقيق الاستقرار والأمن دون هاتين القوتين الرئيستين مصر والسعودية.
وما تحتاجه العلاقة بين مصر والمملكة العربية السعودية تحتاجه أيضا جميع العلاقات الثنائية في المنطقة، ومن نافلة القول إعادة تكرار أن العالم العربي يواجه الآن واحدة من التهديدات الأمنية الأكثر خطورة في تاريخه، منذ عقود، ونحن الآن أمام لحظة مناسبة جدا لطرح النزاعات الداخلية جانبا ووضع خطة مشتركة تعيد الإقليم العربي من جديد إلى نقطة استقرار نسبي.
تحتاج المنطقة إلى توفير أوسع نطاق ممكن لتكون منبرا للمساعدة الأمنية الدولية وسوف يكون منبر الرياض-القاهرة أكثر فعالية، إذا كان قائما على التقسيم الإقليمي الجماعي للعمل، لا على الانفصال؛ وهذا الأخير سيناريو غير وارد نظرا لقاعدة العلاقات المتينة بين الرياض والقاهرة.
والأمر المنطقي هو أن كلا البلدين بحاجة إلى بذل جهد إضافي لاحتواء النزاعات ودفعها جانبا حتى دون إيجاد حل دائم لها والعمل معا لمدّ العالم بمبادرة عربية مشتركة في مجال الأمن الإقليمي.
وليست هناك حاجة من مصر والمملكة العربية السعودية لاتباع سياسات متطابقة، لكن كليهما يمكنه ببساطة تجميد خلافاته مؤقتا، أينما كانت والمضي قدما نحو توفير بيئة مواتية للتعاون مع القوى العالمية والمساعدة في مواجهة التهديدات الأمنية التي تزعزع استقرار منطقة الشرق الأوسط برمتها.
(العرب اللندنية)