ما تنتظره النخب الثقافية والسياسية في العالم العربي من أعرق مؤسساتها الإسلامية جاء دون المأمول، حيث أدارت مؤسسة الأزهر ظهرها إلى روادها الأوائل من التنويريين والمجددين في الفكر الإسلامي مثل الشيخ علي عبدالرازق، الذي تعرض للإقصاء والإهانة في حياته، كما تعرض للجحود والتجاهل في مماته، وهو الأمر الذي ينسجم مع ما يسعى إليه الإسلام السياسي ويطمح إلى تكريسه.
القاهرة – يتعجب الكثيرون في مصر، من موقف الأزهر الثابت حتى الآن من الشيخ علي عبدالرازق، إذ بينما عقدت وزارة الثقافة المصرية قبل أيام، مؤتمرا بمناسبة مرور نصف قرن على رحيله، احتفاء بالشيخ وإنتاجه العلمي، ظل الأزهر على حاله، مع أن إنتاج عبدالرازق الفكري، يمثل أبلغ رد على أطروحات الإخوان، ومن لفّ لفهم، من داعش والقاعدة وغيرهما.
الشيخ علي عبدالرازق كان مفكرا ومُجددا، وتطلع إلى آفاق غير معهودة لأمثاله من الأزهريين، وقاد الثورة الدينية من أروقة الأزهر، قبل المناداة بها اليوم باثنين وتسعين عاما، لكن الأزهر وقتها طرده وجرّده من درجته العلمية لأسباب سياسية.
أعادت وزارة الثقافة إصدار كتابه “الإسلام وأصول الحكم” ضمن سلسلة “التنوير والمواجهة”، قبل أكثر من عقدين، في إطار مشروع نشر الفكر التنويري في مواجهة أفكار التطرف التي شهدت انتعاشة ورواجا في تلك الآونة، ثم جاء المؤتمر الأخير ليؤكد حرص الوزارة على وضع الرجل في مكانة متقدمة على قائمة المناضلين المجددين.
موقف الأزهر هذا، ثابت لا يتغير منذ مؤتمره الذي عقده عقب إلغاء الخلافة (عام 1924)، بعنوان “المؤتمر الإسلامي العام للخلافة”، وقرر فيه أن “إلغاء الخلافة ينفي صفة الإسلام عن المجتمعات الإسلامية، ويجعل شعوبها في جاهلية يأثمون بسببها إلى أن يختاروا خليفة لهم”.
كان الأزهر قد حاكم الشيخ عبدالرازق، بطريقة مهينة، وتم خلعه من وظيفته كقاض شرعي، وطالب شيخ الأزهر وقتها (محمد أبوالفضل الجيزاوي) بمصادرة الكتاب، وهو ما يتوافق معه إلى حد كبير موقف شيخ الأزهر الحالي الدكتور أحمد الطيب، الذي رفض في برنامجه التلفزيوني، “الإمام الطيب”، طرح الشيخ عبدالرازق.
وتعلل الطيب، بأن العلمانيين متشبثون بكلام عبدالرازق، لتثبيت مقولتهم بأن الإسلام دين وليس دولة، للقضاء على ذاتية الدول الشرقية وخصوصيتها وثقافتها، سيرا على رؤية الغرب.
إشكالية الخلافة، في رأي الكثير من المجددين، أساس بعث الفكر المتطرف، منذ أن اعتبر حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، أن الخلافة ركن من أركان الدين، وأن واجب المسلمين السعي إلى بعث الخلافة الإسلامية، وهو ما تقوم عليه الآن أفكار وأدبيات داعش والقاعدة.
والتحجّج بأن من أسقط الخلافة هو الغرب فيه نظر، حيث يقول لنا التاريخ، إن رغبة الملك المصري فؤاد في تنصيبه خليفة، كانت خلفها رغبة الإنكليز في إخضاع الشرق بأكمله لحاكم واحد مرتبط بهم لإحكام الهيمنة عليه، وأيضا فإن مهاجمة العلمانيين آنذاك كتاب عبدالرازق (وفي مقدمتهم الزعيم سعد زغلول) تدل على أن القضية كانت تحركها مصالح واعتبارات سياسية، في مقابل أفكار الرجل المتقدمة، التي هدفت إلى تخليص الدين من توظيفه والزج به في ميدان السياسة، ولذلك كان ما حدث للشيخ بضغط من الإنكليز والملك.
ما رأي الأزهر في كون العرب وحدة إسلامية لا سياسية، وأن زعامة الرسول عليه السلام، هي زعامة دينية لا مدنية
هذا الموقف -القديم الجديد- للأزهر حيال أحد أهم ملفات التجديد الديني والثورة الدينية، يصعب معه توقع دور فاعل لعلماء الأزهر في تحريك الراكد، والانقلاب على الموروثات.
وفي ندوة لوزارة الثقافة عقدت مؤخرا بالقاهرة، أكد حفيد علي عبدالرازق، أن جده كان سابقا لعصره، ومتجهّزا لكل ما سيواجهه من عناء، ولذلك كتب في المقدمة، أنه “يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يخشى سواه”.
الثورة الدينية التي أشعلها المجدد الأزهري علي عبدالرازق- الذي درس أيضا في جامعة أكسفورد بإنكلترا- وحاول الأزهر كمؤسسة إخمادها، ثم ها هو يدير ظهره لها بإغفال تراث الرجل، من شأنها التأثير في الفضاء العام، بالمقارنة مع تأثير القرارات والإجراءات السياسية، فكتاب عبدالرازق، الذي استهدف الفكر والقناعات الموروثة المغلوطة، كان أشد وقعا ولا يزال من تأثير قرار أتاتورك السياسي بإلغاء الخلافة.
ولو حدثت ثورة الأزهر على تلك الموروثات والقناعات المهلكة، التي كانت ومازالت وبالا على الإسلام والمسلمين والعرب، لكانت أعظم تأثيرا في مواجهة الفكر المتطرف وأطروحات الجماعات التكفيرية والإسلام السياسي، مقارنة بتأثير الاحترازات الأمنية، والمواقف والإجراءات السياسية للدول والأنظمة.
وفي حينها، طالب مفكرون مصريون، مثل عباس محمود العقاد ومحمد حسين هيكل وغيرهما، منتقدي الشيخ علي عبدالرازق، بتقديم ردود منهجية عميقة ورصينة وهادئة، وهو لم يحدث منذ كتاب الشيخ محمد الخضر حسين “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم”.
عبدالرازق، وهو يعالج هذا الملف الخطير بالدليل الشرعي وبالمنطق العقلي، أشار إلى أنه “من المعقول أن يؤخذ العالم كله بدين واحد، وأن تنظم البشرية كلها وحدة دينية، أما أخذ العالم كله بحكومة واحدة، وجمعه تحت وحدة سياسية مشتركة، فذلك مما يوشك أن يكون خارجا عن الطبيعة البشرية”.
حال الأزهر لم يتغيّر من مجدده الثائر من يومها، عندما اجتمع 24 عالما، يتقدمهم شيخ الأزهر، وأصدروا قرارهم “حكمنا بإخراج الشيخ علي عبدالرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب ‘الإسلام وأصول الحكم’ من زمرة العلماء الدينية”.
ورغم عودة عبدالرازق وتوليه وزارة الأوقاف مرتين، إلا أن هذا كان شأنا سياسيا، فماذا عن الشأن الفكري والمنهجي؟ وما هو موقف الأزهر من كون الإسلام دعوة دينية ومذهبا للإصلاح وليس سلطة سياسية تفرّق الناس وتزرع الشقاق؟
ثم ما رأي الأزهر في كون العرب وحدة إسلامية لا سياسية، وأن زعامة الرسول هي زعامة دينية لا مدنية، وأن شعائر الله لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء “خلافة”، ولا على الذين يلقبهم الناس خلفاء، وأن إصلاح المسلمين في دنياهم لا يتوقف على شيء من ذلك، وأن الخلافة كانت ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد، وقد قال ابن خلدون “قد ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وبقي الأمر مُلكا ليس للخليفة منه شيء”، وهو ما ذهب إليه عبدالرازق في كتابه الثوري.
كان من المفترض، أن تكون ثورة علي عبدالرازق هي ثورة الأزهر، كونه أحد علمائه، وأن تُبنى عليها أسس ومناهج الفكر الإسلامي العصري، أخذا بالحياة المدنية المتحضرة، ولو فعلها الأزهر منذ البداية، وتدارك موقفه من مجدده الثوري، لآمن الناس بالفعل بأنه بصدد إحداث التحول الجذري الذي سيمكّن تلك المؤسسة من السيطرة على ساحة مواجهة التطرف والتكفير وتنظيماته وتنظيراته لكن، لم يحدث ذلك، وغاب الأزهر عن الحفاوة والاحتفاء بثائره المجدد علي عبدالرازق، وكان السبق للمجلس الأعلى للثقافة، وهذا بالطبع ما يخصم من تأثير الأزهر عند العامة والجماهير الإسلامية.
المجدد الثوري، هو من يواجه الخطر الذي يحوم حول بلاده، وأشد أنواع الخطر هو ذلك الانصياع الفكري وراء التقاليد التي تعرقل النهضة والتقدم وهذا ما عبّرت عنه كلمات هيثم الحاج علي، أمين المجلس الأعلى للثقافة، والتي جاء فيها “إن المجتمع المصري يحتاج اليوم لرؤى علي عبدالرازق، وهناك ضرورة لاستعادة هذه الأفكار اليوم ونحن نتطلع إلى عالم خال من الإرهاب والجمود، عالم مستنير، ولن يكون هذا إلا باستعادة هذه الشخصيات التي عبّرت عن تاريخ مصر”.
وكلمات كهذه، كان الأحرى بها، أن تأتي على لسان شيخ الأزهر ليقتنع عامة المسلمين بأن الأزهر قريب من ثورته التي يطالبه الجميع بها، وينتظرونها منه، غير أنها لم تأت منه حتى الآن.
(العرب اللندنية)