مصادر معنية بمتابعة تطورات حركات الإسلام السياسي بالمنطقة العربية، نظرت إلى مؤتمر الشباب الفلسطيني، الذي استضافته القاهرة على مدار يومي السبت والأحد، باعتباره رؤية جديدة في معالجة ملف تجديد الخطاب الديني، حيث تسعى القاهرة إلى استمالة هذا الشباب لإبعادهم عن الجمود الفكري والعقائدي، الذي تبثه في عقولهم جماعة الإخوان والجماعات السلفية والجهادية.
مؤتمر “تجديد الخطاب الديني لدعم القضية الفلسطينية” وشى بهذا التوجه المصري الجديد، وقال مراقبون إن المؤتمر كشف عن ولادة إستراتيجية مصرية جديدة للتعامل مع تيارات الإسلام السياسي الموجودة داخل قطاع غزة تحديدا. وترى القاهرة، أن شباب القطاع يمثلون طرفا هاما في مواجهة الإرهاب المنتشر حاليا في شبه جزيرة سيناء (شمال شرق مصر)، وترغب في تغيير النظر إلى القضية الفلسطينية، بحيث يتم التركيز على أن الصراع ليس دينيا، بل هو صراع بالمفهوم الوطني، استنادا إلى أن “تديين الصراع” زاد من حدة الانقسام الفلسطيني الداخلي، وأطال أمد قيام الدولة الفلسطينية.
وقالت مصادر سياسية لـ”العرب”، إن الحكومة المصرية تلعب على أوتار عديدة من خلال استضافتها للشباب الفلسطيني الموجود داخل قطاع غزة، فهي من ناحية، ترغب في تدشين خطاب سياسي جديد تجاه غزة، بعد أن عملت جماعة الإخوان وحلفاؤها على “شيطنة” الدور المصري تجاه القضية الفلسطينية، كما أنها في المقابل تريد أن تذهب بمسألة تجديد الخطاب الديني الداخلي إلي مستويات أبعد، في نطاق حماية أمنها القومي.
المؤتمر، الذي شارك فيه أكثر من 150 شابا فلسطينيا، ينتمون إلى توجهات سياسية مختلفة، ركزت جلساته على محاولة التعامل مع الخطاب الديني، كمدخل للتوافق المجتمعي، بالإضافة إلى رسم صورة جديدة للشعب الفلسطيني، وأثر ذلك على تغيير الصورة النمطية للعرب من وجهة نظر الغرب، وأهمية الشباب بصفة عامة، في مستقبل القضية الفلسطينية.
التعامل مع تيارات الإسلام السياسي في غزة، لا يمكن فصله عن المواجهة الأكبر التي تخوضها مصر ضد جماعة الإخوان
تحاول القاهرة من خلال المؤتمر تصحيح الأخطاء التي وقعت فيها أثناء تجديد الخطاب الديني بالداخل، والذي يواجه عثرات كبيرة أمام تحديثه، وهو ما ظهر من خلال الاستعانة بالبعض من الشخصيات التي تقف على مسافة متباعدة من المؤسسات الدينية الرسمية (الأزهر)، كالدكتور سعدالدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، بالإضافة إلى الشيخ أسامة الأزهري، مستشار الرئيس المصري للشؤون الدينية.
كلمات تلك الشخصيات خلال المؤتمر، تضمنت الرسالة التي أرادت القاهرة إبلاغها للفلسطينيين، إذ أكد الهلالي، أن القائمين على الخطاب الديني، هم أنفسهم أحد أسباب ربط الإرهاب بالدين الإسلامي، وأن طرح تلك القضية تأخر كثيراً خلال العقود الماضية، وشدد على أن الدعوة لتجديد الخطاب لا تعني، كما يزعُم البعض، أنها دعوة للتغيير في الدين نفسه، فهذا قول مغلوط، وأكد الرجل احترام قدسية الأديان.
المعنى نفسه، تناوله أيضا الأزهري خلال كلمته، حيث أكد على أن انتشار الأفكار المتطرفة نتج عن دخول البعض من الباحثين في المجال الشرعي دون إعداد وتأهيل، وأن تيارات الفكر المتطرف تزيد على 25 تيارا، تدور أفكارهم حول 40 فكرة تقريبا، من ضمنها فكرة الحاكمية والتكفير والجاهلية والتبديع والجهاد والتمكين والخلافة والوعد الإلهي، وغيرها من القضايا والملفات.
وبحسب مراقبين فإن الزخم الذي صاحب المؤتمر خلال انعقاد جلساته، يشير إلى رغبة الدولة المصرية في تطبيق رؤيتها الجديدة، كما أنه يبرهن على صعوبة إدخال أي تعديلات فكرية على حالة الجمود التي تبثها تيارات الإسلام السياسي في الأراضي الفلسطينية، ما يدفع باتجاه خلق رأي عام يهدف إلى التدبر والتفكير، بعيدا عن منهج السمع والطاعة، الذي تُروّج له تلك الجماعات.
وقال محمد حبيب، نائب المرشد السابق لجماعة الإخوان والمنشق عنها، لـ”العرب”، إن التعامل مع تيارات الإسلام السياسي في قطاع غزة، لا يمكن فصله عن المواجهة الأكبر التي تخوضها مصر ضد جماعة الإخوان وعدد من التيارات المتشددة بالداخل، إذ أن نجاحها في وقف التدعيم الخارجي للجماعة، يشكل ضربة قاضية بالنسبة إلى التنظيم، الذي يعتمد في جميع تحركاته على ما يتم تحريكه من الخارج.
وأضاف أن تجديد الخطاب الديني وربطه بالقضية الفلسطينية، يمثلان إدراكا أمنيا وعسكريا، بأن الحرب التي يخوضها الجيش المصري في سيناء، لن تكون كافية بمفردها لتحقيق انتصارات على أرض الواقع، وأن مواجهة الجماعات الجهادية السلفية والمجموعات الإرهابية الوافدة من قطاع غزة، يعدّ خط الدفاع الأول ضد العمليات الإرهابية في سيناء.
القاهرة من خلال المؤتمر تحاول تصحيح الأخطاء التي وقعت فيها أثناء تجديد الخطاب الديني بالداخل، والذي يواجه عثرات كبيرة أمام تحديثه
واعتبر القيادي الإخواني المنشق، أن الحوار مع الشباب الفلسطيني نقطة فاصلة في علاقة الدولة بالشعب الفلسطيني، بعد أن سلكت طريقا جديدا لمواجهة المنابع الفكرية التي تغذي حالة استمرار الإرهاب في سيناء، وتعطيل قيام الدولة الفلسطينية. وأوضح سياسيون أن الرغبة المصرية في لعب أدوار مؤثرة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي دفعها إلى الميل تجاه حركة حماس، في محاولة لإقناعها بالتخلي عن المصالح الضيقة لتنظيم الإخوان، لصالح التوجه نحو المصلحة الوطنية الفلسطينية.
ولعل ما يدعم تلك الرغبة، مواقف تيارات سياسية، كانت دائما ترى أن التعامل مع القضية الفلسطينية، يجب أن يتم باعتباره مسألة وجود بالنسبة إلى الدولة المصرية ذاتها، وهو ما ظهر من خلال تخصيص إحدى جلسات المؤتمر لمناقشة موضوع الخطاب الديني الجديد كمدخل للتوافق المجتمعي الفلسطيني.
الرغبة المصرية في إنجاح هذا الدور، دفعها للتأكيد مرارا وتكرارا خلال المؤتمر، على عدم دعمها لفصيل دون آخر، أو شخصا على حساب شخص، بل تراهن على الشعب الفلسطيني بأكمله، وهو أمر اعتادت القاهرة التأكيد عليه في جميع المراحل التاريخية للقضية الفلسطينية، حتى في أسوأ فترات علاقاتها مع حركة حماس، عقب ثورة 30 يونيو.
وهذا ما شدد عليه مصطفى الفقي، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق خلال المؤتمر، موضحا أن مصر تفتح الأبواب لكل قيادات الشعب الفلسطيني، ولم تتلطخ أيديها بالدماء الفلسطينية فهي تتبع سياسة شريفة وعندما تفعل شيئاً تفعله في العلن.
لكن أيمن الراقب، القيادي السابق في حركة فتح، لم يستبعد الربط بين توقيت إقامة المؤتمر وحالة التجاذبات السياسية الحاصلة في الملف الفلسطيني، موضحاً أن الزخم الذي صاحب أعمال المؤتمر يعطي انطباعا بأن المستهدف هو تغيير لغة الخطاب في التعامل مع قطاع غزة تحديداً، والمؤتمر استهدف فئة الشباب التي تعد طرفا فاعلا في مستقبل القضية الفلسطينية.
وأضاف في تصريحات لـ”العرب”، أن القيادة المصرية تدرك تماما أنه منذ تولّي حركة حماس مسؤولية الحكم في قطاع غزة، زادت العمليات المتطرفة والإرهابية، وتضاعفت وتيرة تهديد الحدود المصرية، لذلك فإن القاهرة غيّرت من أسلوب تعاملها مع القطاع من هذا المنطلق، كما أن فكرة المؤتمر تبرهن على أن القاهرة لديها العديد من الأدوات التي تستطيع من خلالها الإمساك بخيوط القضية الفلسطينية والتأثير فيها، بما فيها الناحية الدينية.
(العرب اللندنية)