لا يمكن تأصيل علاقة الدولة المصرية مع تنظيمات وجماعات الإرهاب بمعزل عن التحركات والتيارات الإسلامية من قبيل جماعة الإخوان والجماعة الإسلامية وغيرهما. وثيقة الإخوان عن التصورات للمرحلة المقبلة، أو مبادرة حزب البناء والتنمية لوقف العنف في سيناء، إنما هي مراوغة تكتيكية سياسية تهدف إلى إعادة التموقع في ظل الهزائم التي تتكبدها الجماعات الإرهابية في سيناء وفي غيرها.
حزب البناء والتنمية، الذراع السياسية للجماعة الإسلامية في مصر، انتهز مناسبة الاحتفال بأعياد سيناء التي توافق الثلاثاء 25 أبريل وقام بطرح مبادرة جديدة لوقف العنف في سيناء، في ما اعتبره مراقبون محاولة جديدة للخروج من العزلة الحالية والعودة إلى المشهد السياسي من جديد. وقال بيان للحزب إن الهدف من تلك المبادرة “إنهاء الأزمة الحالية”، التي وصفها بأنها تسببت في ما أسماه “شرخا عميقا في البنيان الوطني”.
تضمنت المبادرة أربعة بنود، أولها إعلان الجماعات المسلحة في سيناء وقف العمليات ضد الجيش والشرطة مقابل وقف الحكومة الملاحقات الأمنية ابتداء من الأربعاء 26 أبريل، والثاني الدعوة إلى مؤتمر وطني جامع يضم القبائل السيناوية وكافة الأطراف، للدخول في حوار مفتوح، مع إيقاف الحملات الأمنية التي رأى البيان أنها تؤجج العنف والصراع.
كان البند الثالث هو رفع حالة الطوارئ مع تخفيف الإجراءات الأمنية المشددة. وتمثل البند الرابع في إعادة المهجرين من أهل سيناء أقباطا ومسلمين إلى ديارهم، وتشكيل مجلس أعلى لتفكيك الأزمة يتكون من شخصيات وطنية رسمية وغير رسمية، من بينها ممثلون لأهالي سيناء، وناشد الأزهر تبني المبادرة.
يمكن فهم مبادرة الجماعة الإسلامية الأخيرة بشأن الأزمة بسيناء في إطار الانتقال التكتيكي بين العنف والمهادنة
مسألة التوقيت
متابعون لتطور حركات جماعات الإسلام السياسي في مصر، وصفوا الدعوة إلى وقف عمليات الجيش والشرطة في سيناء بالمراوغة، بعد أن تمكن الجيش والأجهزة الأمنية من فك طلاسم الإرهاب، ويوشكان على إلحاق الهزيمة النهائية بتشكيلاته، وتساءلوا أين كانت الجماعة الإسلامية في المراحل الأولى من الحرب على الإرهاب؟ ولماذا لم تتحرك إلا الآن؟
قوى وتيارات سياسية وفكرية تتهم فصائل الإسلام السياسي بمؤازرة بعضها البعض ضد الدولة المصرية، على اعتبار أن لديها جميعا خصومة مع مؤسسة الجيش وتسعى على اختلاف مواقفها وأساليبها لتصفية حسابات تاريخية مع الدولة المصرية.
وكشف خبراء في شؤون الحركات الإسلامية أن هذه الرسائل والإشارات التي تخرج بين وقت وآخر، من الجماعة الإسلامية أو من جماعة الإخوان المسلمين وحلفائهما، تستهدف خدمة عدة أهداف، منها امتصاص غضب الشارع المصري بسبب تصاعد موجة العنف خاصة بعد تفجيري أحد الشعانين بكنيستي طنطا والإسكندرية في 9 أبريل الجاري، ومسايرة التحول الدولي بشأن تغير أسلوب التعامل مع الإسلام السياسي، خاصة الموقف الأميركي الجديد، ولم يستبعدوا فرضية تجهيز تلك الحركات لخوض انتخابات الرئاسة للبدء في فك عزلتها السياسية.
وتعد الجماعة الإسلامية من أهم حلفاء الإخوان، ونظر سياسيون إلى إقدامها هذه الأيام على إجراء انتخابات حزبها (البناء والتنمية)، وكذلك تقديمها مبادرة لحل الأزمة في سيناء، على أنهما اعتراف ضمني من الجماعة بالنظام القائم، ومحاولة للعودة إلى المشاركة في المشهد السياسي، وهو تطور قد يصبح عنوانا لمرحلة جديدة تنهي بها جماعة الإخوان وحلفاؤها عزلتها عن الواقع السياسي ومقاطعتها لاستحقاقاته.
غير أن مصادر أمنية قللت من أهمية هذه المبادرات المتتالية ورأت فيها امتدادا لمحاولات جماعة الإخوان الأخيرة، ومحاولات جماعات التيارات الإسلامية الأخرى، للخروج من مأزقها الراهن، ولفتت إلى ضعف الاستجابة الشعبية والمجتمعية لتلك المحاولات، على ضوء رسوخ الإيمان لدى لمجتمع بأن تلك الجماعات لا يمكنها التخلي عن العنف، كونه المنهج الأساس لها.
وأرجع الخبير في شؤون الحركات الإسلامية منير أديب هذا التراجع التكتيكي إلى يأس الجماعة من التغيير بوسائل العنف والإرهاب، خاصة بعد الكشف عن مخابئ الأسلحة وأماكن تصنيع المتفجرات في عدة مزارع مملوكة لقيادات إخوانية، وبعد القضاء على معظم رموز وقادة العمل المسلح.
وأوضح أديب في تصريح لـ”العرب” أن الأجهزة الأمنية نجحت في خلخلة بنية الجهاز السري الجديد للإخوان المتمثل في مجموعتي “حسم” و”لواء الثورة”، وباتت قيادة الجماعة عاجزة عن التعامل مع الموقف وهو ما دفعها إلى طرح جملة من التنازلات بغرض تخفيف الضغط عليها. وشدد على أن مسار العنف هو الغالب داخل جماعة الإخوان التي تعاني من الترهل وعدم السيطرة على القواعد، ملمحا إلى أن خطوة التراجع، سواء من الجماعة الإسلامية أو من جبهة محمود عزت الإخوانية، لا تعني نهاية للإرهاب، الذي يُدار من قبل مجموعة من القيادات الحركية المتصلة بمصادر دعم وتوجيه خارجي.
قوى وتيارات سياسية وفكرية تتهم فصائل الإسلام السياسي بمؤازرة بعضها البعض ضد الدولة المصرية، على اعتبار أن لديها جميعا خصومة مع مؤسسة الجيش
وثيقة الإخوان
يشار إلى أن جماعة الإخوان كانت قد أطلقت أخيرا وثيقة ناقشت فيها أدوارها في المستقبل وطرحت تصورها للفترة المقبلة بحسب التغيرات المحتملة والتي قد تؤدي إلى تحسين أوضاع الجماعة في ظل النظام القائم، بما في ذلك الاستعداد لسيناريو يؤدي إلى إعادة السماح لها بالعمل المجتمعي والعمل السياسي المقيد. الوثيقة لم تتناول أوضاع المسجونين أو آليات الضغط للإفراج عنهم، ووصفت لأول مرة السلطة الحاكمة في مصر بـ”النظام” بدلا من “الانقلاب”، كما لم تذكر موقف الجماعة من محمد مرسي، وامتنعت للمرة الأولى عن ذكر مصطلح “عودة الشرعية”.
البعض من الخبراء ربط بين هذه الخطوة والحديث المتواصل عن مراجعات تلوح في الأفق لجماعة الإخوان، في إشارة إلى نداءات من داخل الجماعة ووساطات خارجية تدعوها إلى فك الارتباط مع الجماعات المسلحة وتفكيك جهازها الخاص الجديد، وفصل نشاطها الحزبي عن الدعوي، على أن تكتفي بالعمل الخيري والدعوي لمدة محددة مع فك ارتباط الجماعة في مصر بـ”التنظيم الدولي”.
ورأى هؤلاء أن الإسلاميين لم يحافظوا على الحد الأدنى من مكاسبهم التي تحققت بعد 25 يناير 2011 في المشهد المصري، بسبب تاريخهم في الصدام مع الدولة وتورطهم في الاغتيالات والتفجيرات ما أدى إلى سفك دماء الكثير من أبناء الشعب سواء من الأقباط أو من الأجهزة الأمنية أو من السياسيين والمفكرين.
الجماعة الإسلامية وجماعة الإخوان تبادلا الأدوار بين الكمون المرحلي التكتيكي والمواجهة المسلحة الشاملة، ثم عادتا معا لنقطة البداية من جديد، طوال أشهر ما بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة باستدعاء خبرات الجهاديين الانفصالية التي مارسوها في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، ولم يبدأ بعض قادة الجماعة الإسلامية أخيرا في إظهار الرغبة في إنهاء عزلتها إلا بعد التيقن من هزيمة الإخوان أمام الدولة، ليضطر قادتها إلى الانسحاب التكتيكي على وقع الهزائم التي مُني بها تحالفهم مع الإخوان.
يمكن فهم مبادرة الجماعة الإسلامية في إطار هذا الانتقال التكتيكي بين العنف والمهادنة حيث تحاول تحديد موقعها في المشهد على المسطرة الإخوانية، تأسيسا على خبرة تعامل الإخوان المسبق مع إرهابها في الثمانينات والتسعينات، في ظل نظام كان لا يتردد في قبول دعم تيار إسلامي معين في مواجهة حركة التمرد التي تقودها تنظيمات مسلحة.
(العرب اللندنية)