بوابة الحركات الاسلامية : خطاب العنف والدم.. الحاكمية بين المودودي وسيد قطب والتراث (1 - 2) (طباعة)
خطاب العنف والدم.. الحاكمية بين المودودي وسيد قطب والتراث (1 - 2)
آخر تحديث: الإثنين 15/05/2017 07:57 م
حسام الحداد
لا يمكن النظر لمفهوم الحاكمية بمعزل عن غيره من المفاهيم المتعلقة به كالدين والاستخلاف والشريعة والمنهاج وغيرها، ونحاول هنا الاشتباك مع المفهوم بقصد تخليصه مما علَق به من اجتهادات بشرية– ربما- خالفت مقصوده الأساسي، بل ابتعدت به إلى ما يخالفه.
ومن هنا لا بد من العودة إلى التعريف، حيث يوضح الباحث هشام جعفر، في كتابه الأبعاد السياسية للحاكمية، أن “الحاكمية مصدر صناعي يؤدي نفس المعنى الذي يؤديه المصدر القياسي (الحكم) ومن ثم فإن سبيل معرفة معناها وبيان دلالاتها وتوضيح مضمونها هو البدء بجذرها اللغوي (ح. ك. م) وما اشتق عنه من ألفاظ (حكم/ حكام/ حاكم/ حكيم/ حكمة/ أحكمت/ أحكام/ محكمة) وردت وامتلأت بها الأصول (قرآنًا وسنة). 
وتوحيد الحاكمية مصطلح يقصد به إفراد الله وحده في الحكم والتشريع فهمًا من قول الله في القرآن: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، وقوله: {والله يحكم لا معقب لحكمه}، وقوله: {إن الله يحكم ما يريد}، وقوله: {ولا يُشرك في حكمه أحدًا}، وقوله: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقومٍ يوقنون}، {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} ، وقال تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}.
ويُعتبر مبدأ الحاكمية أو توحيد الحاكمية أحد أبرز المصطلحات الدينية التي استخدمتها المذاهب والتيارات الإسلامية في تأصيل موقفها من الحكم والحاكم ومؤسسات الدولة كافة، حيث رفضت تلك الجماعات الاشتغال بالعمل السياسي في البرلمان؛ كونه يشرع قوانين من وضع الإنسان وهي شكل من أشكال منازعة الله في أحد اختصاصاته في التشريع، فضلًا عن رفضهم الدستور الوضعي؛ كونه ينص على أن السيادة للشعب وهو ما ينازع الله أيضًا في سيادته على الجميع.
فالله هو الحكَم العدل، له الحكم والأمر، لا شريك له في حكمه وتشريعه، فكما أن الله لا شريك له في الملك وفي تدبير شئون الخلق، كذلك لا شريك له في الحكم والتشريع، وفي الحديث عن محمد أنه قال: "إن الله هو الحَكَمُ، وإليه الحكمُ".
الاستعمال الأول لنظرية الحاكمية كان أثناء معركة صفين بين علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكان السبب في ظهور النظرية أن فريقًا من جيش علي رأى في رفع المصاحف من قِبل جيش معاوية دعوة للاحتكام إلى كتاب الله، بينما رأى علي بن أبي طالب أن الأمر لا يعدو كونه خدعة، الهدف منها كسب الوقت والالتفاف على نتائج المعركة التي كانت في طريقها للحسم على يدي جيش علي، لكن المناصرين لفكرة الاحتكام لكتاب الله خيّروا عليًّا بين النزول على رأيهم وبين الحرب مدَّعين أن رفض الاحتكام لكتاب الله كفرٌ، فما كان من علي بن أبي طالب إلا أن ردَّ عليهم: «هذا كتاب الله بين دفتي المصحف صامت لا ينطق ولكن يتكلم به الرجال»، أي أن القرآن يخضع في النهاية للتفسيرات البشرية المختلفة، ما دام الوحي رُفع بانتقال محمد إلى الرفيق الأعلى.
العديد من الباحثين يتجه إلى أن مفهوم الحاكمية ليس مفهومًا أصوليًّا وإنما طرحه- أول من طرحه- الخوارج؛ اعتراضًا على واقعة التحكيم بين الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، ثم أعاد طرحه حديثًا الأستاذ أبو الأعلى المودودي، وترجمه إلى العربية سيد قطب، خاصة في كتابه "معالم في الطريق" وتفسيره "في ظلال القرآن". 
ومن الكتب التي تناولت هذا الجانب من توحيد الحاكمية القرآن ثم كتب السنة النبوية ثم كتب العقائد ككتب ابن تيمية وابن القيم وابن عبدالوهاب وأحفاده، ومن المعاصرين كتب سيد قطب، وبخاصة منها كتابه "الظلال" و"المعالم" و"خصائص التصور" و"مقومات التصور الإسلامي" وكذلك كتب أخيه محمد قطب، ومن الكتب المتخصصة في هذا الجانب كذلك كتاب توحيد الحاكمية لأبي إيثار، وكذلك كتب ورسائل أبي محمد المقدسي.
ويعد أبو الأعلى المودودي أول من صاغ فكرة الحاكمية الإلهية في الإطار السياسي والاجتماعي والقانوني، وقد قام بتوظيف ذلك من أجل بناء نظرية سياسية تقوم على منظومة عقائدية، حيث تتجلى الحاكمية الإلهية في السلطتين السياسية والقانونية.
ويرى المودودي “أن الحاكمية في الإسلام خالصة لله وحده، فالقرآن يشرح عقيدة التوحيد شرحًا يبيِّن أن الله وحده لا شريك له، ليس بالمعنى الديني فحسب، بل بالمعنى السياسي والقانوني كذلك، كما أن وجهة نظر العقيدة الإسلامية تقول: إن الحق تعالى وحده هو الحاكم بذاته وأصله، وإن حكم سواه موهوب وممنوح، وإن الإنسان لا حظ له من الحاكمية إطلاقًا… وخلافة الإنسان عن الله في الأرض لا تُعطي الحق للخليفة في العمل بما يشير به هواه وما تقضي به مشيئة شخصه؛ لأن عمله ومهمته تنفيذ مشيئة المالك ورغبته.. فليس لأي فرد ذرّة من سلطات الحكم… وأي شخص أو جماعة يدَّعي لنفسه أو لغيره حاكمية كلية أو جزئية في ظل هذا النظام الكوني المركزي، الذي تدبر كلَّ السلطات فيه ذاتٌ واحدة. فالله ليس مجرد خالق فقط، وإنما هو حاكم كذلك وآمر، وهو قد خلق الخلق ولم يهب أحدًا حق تنفيذ حكمه فيهم. كما يرى المودودي “أن الإسلام يضادّ ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام، ويريد قطع دابرها، ولا يتحرج في استخدام القوة الحربية لذلك، وهو لا يريد بهذه الحملة أن يُكره من يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته والإيمان بمبادئ الإسلام، إنما يريد أن ينتزع زمام الأمر ممن يؤمنون بالمبادئ والنظم الباطلة، حتى يستتبَّ الأمر لحمَلة لواء الحق، وعليه فإن الإسلام ليس له- من هذه الوجهة– دار محدودة بالحدود الجغرافية يذود ويدافع عنها، وإنما يملك مبادئ وأصولًا يذبُّ عنها، ويستميت في الدفاع عنها ”ومن هنا ازدرت الفكرة الإسلامية مفهومي الوطنية القطرية والقومية بل ووصمتهما بالمروق والجاهلية، وقد تبنَّى النهج نفسه سيد قطب عندما اعتبر الإسلام «إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده، (التي تعني) الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور.. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض». و«مملكة الله في الأرض… لا قيام لها إلا بإزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر، وتحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها”. 
ومن المعلوم أن كل ذلك لا يتحقق بالبلاغ والدعوة وحدهما، بل لا بد له من قوة قاهرة تذلّ رقاب المتجبرين، وتُخضع الحكام المعاندين، وتتيح لأهل الحق السبيل لجعل ( كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)، وعلى ذلك فإنه على أهل الحق أن يكونوا في حركة دائبة وجهاد متصل من أجل تحقيق هذه الأهداف، وهم لا يدّخرون وسعًا ولا يضنُّون بجهد، حتى لو وصلوا في نهاية المطاف أن يكون استخلاف الله لهم في الأرض بحسب ما فهمه الملائكة ابتداء (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء!) ولا يوجد ثمة تمايز بين المودودي وسيد قطب من حيث مفهوم الحاكمية، فسيد قطب يسميها الحاكمية العليا ويرى أنها "نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، والسلطان على الضمائر، والسلطان على العشائر، والسلطان على واقعيات الحياة، والسلطان في المال، والسلطان في القضاء، والسلطان في الأرواح والأبدان.. وردّه إلى الله".