لئن تتعدد أسباب وعوامل استمرار الأزمة في ليبيا وتفاقمها، بل وتطاير شظاياها إلى بلدان الجوار (مصر وتونس)، إلا أن المتمعن في تفاصيل المشهد الليبي المركب يخرج بقناعة مفادها أن جوهر الأزمة الليبية كامن في الجماعات الإسلامية المسلحة، والتي تمثل بتناحرها وبسعيها إلى السيطرة على الفضاء الليبي، عائقا أمام الانتقال السياسي وخصم لدود للدولة بوصفها تعبيرا سياسيا حديثا.
في أعقاب سقوط نظام معمر القذافي، استغل مزيج معقّد من الجماعات التي ترتبط بتنظيم القاعدة أو تستلهم أفكاره، حالة الفوضى السائدة لتوسيع انتشارها في أنحاء كثيرة من ليبيا.
وقامت جماعات مثل جماعة أنصار الشريعة والعناصر المسلحة المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بشنّ هجمات، واستغلت غياب السلطة الحاكمة في الكثير من أنحاء البلد لتجتمع بالشبكات الإرهابية الأخرى العاملة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، من أجل تخطيط أنشطتها وتنسيقها.
بدايةً من صيف 2015، أصبح لتنظيم داعش وجود رسمي في ليبيا، بعد أن بايعت جماعات جهادية، زعيم التنظيم أبا بكر البغدادي. وتنقسم الجماعات الإرهابية في ليبيا إلى قسمين: جماعات ذات توجه إخواني، بعضها مرتبط تنظيميا بجماعة الإخوان المسلمين، وبعضها الآخر مرتبط بها فكريا. وقسم ثان يضم الجماعات ذات التوجه السلفي الجهادي المتراوح بين القاعدة وداعش.
ومن أهم الجماعات الإسلامية المسلحة؛ ميليشيا درع ليبيا: قوة عسكرية منظمة وتنقسم إلى ثلاثة ألوية رئيسة: لواء درع المنطقة الوسطى، الذي يتخذ من مدينة مصراتة مقراً له. لواء درع المنطقة الشرقية في بنغازي. ولواء المنطقة الغربية في الخمس وطرابلس. وبالرغم من الادعاء بأنها قوات نظامية تابعة لوزارة الدفاع الليبية، فإن قادتها لا ينتمون إلى المؤسسة العسكرية الرسمية، وهي القوة الرئيسة في ائتلاف فجر ليبيا الذي يسيطر على العاصمة طرابلس.
غرفة عمليات ثوار ليبيا: مجموعة مسلحة إخوانية – سلفية، لديها قوة عسكرية كبيرة وامتداد ميداني واسع. تأسست عام 2013، وشاركت في العديد من المعارك ضد قوات الجيش الليبي، وتتهم بعملية اختطاف رئيس الحكومة الأسبق علي زيدان، واختطاف دبلوماسيين مصريين في ليبيا. أسسها وقادها أبوعبيدة الزاوي (شعبان مسعود هدية) ثم خلفه صلاح معتوق. وتلقت المجموعة تمويلات ودعماً من المؤتمر الوطني العام في طرابلس.
كتيبة ثوار طرابلس: مجموعة مسلحة أسسها مهدي الحاراتي، مقربة من أمير الجماعة الليبية المقاتلة المنحلة عبدالحكيم بلحاج. تشير التقارير الإعلامية إلى امتلاكها اعتمادات مالية ضخمة. مؤسسها الحاراتي، توجه عام 2013 إلى سوريا وشكل هناك جماعة مسلحة باسم “جيش الأمة” ثم عاد إلى طرابلس وتقلد منصب “عميد العاصمة” (رئيس بلدية طرابلس).
مجلس شورى ثوار بنغازي: جبهة مسلحة تضم تحالفا من التنظيمات الإسلامية ذات التوجهات الجهادية والإخوانية. تشكلت بعد إطلاق اللواء خليفة حفتر عملية الكرامة عام 2014 وتضم: جماعة أنصار الشريعة، وكتيبة أبوعبيدة بن الجراح المتهمة باغتيال السفير الأميركي في سبتمبر 2012، وكتيبة رأف الله سحاتي الجهادية، وكتيبة الشيخ عمر عبدالرحمن، وجيش تحكيم الشريعة، وكتيبة 17 فبراير، ومجموعة درع ليبيا في بنغازي.
الجماعات الإسلامية المسلحة، تمثل البديل الموضوعي للدولة في ليبيا، ووجود ها يمثل عائقا أمام بناء مؤسسات الدولة
ويتركز نشاط المجلس في مدينة بنغازي وضواحيها، لكن قوته تقهقرت في المدة الأخيرة بعد تقدّم قوات الجيش الليبي، وأصبح محاصراً في ضاحية الليثي على ساحل بنغازي. وكان المجلس يتلقى دعماً واضحاً من المجموعات الإخوانية المسلحة في مصراتة وطرابلس، خاصة جماعة أنصار الشريعة، واكُتشف أن لأنصار الشريعة صلات على الصعيدين الوطني والدولي، في تسلسل مثير للأحداث التي أحاطت باختطاف السفير الأردني في ليبيا في 15 أبريل 2014.
مجلس شورى ثوار درنة: تحالف لمجموعات مسلحة ذات توجهات جهادية. ينتمي أغلب عناصره إلى قدماء مقاتلي الجماعة الليبية المقاتلة وكتيبة شهداء أبوسليم. لا يُخفي المجلس ولاءه لتنظيم القاعدة. تشكل بعد إعلان عملية الكرامة لمواجهة قوات الجيش الليبي، لكنه دخل في صراع مسلح مع تنظيم داعش خريف عام 2015، واستطاع إخراج عناصر داعش من مدينة درنة والسيطرة عليها.
تنظيم الدولة الإسلامية (داعش): على الرغم من حضوره المتأخر على الساحة الليبية، فإن تنظيم داعش استطاع التمدد جغرافياً بسرعة كبيرة. وكسب مناطق تحت سيطرته إلى جانب الصيت الإعلامي الكبير الذي رافق كل ذلك. في يونيو 2014، بايع تنظيم ليبي يسمى “مجلس شورى شباب الإسلام” تنظيم داعش واعتبر الأراضي التي يسيطر عليها في مدينة درنة أراضي تابعة لخلافة البغدادي.
لاحقاً بدأت خلايا التنظيم في بقية مناطق ليبيا بالتحرك نحو بسط سيطرتها على مدن جديدة، حتى وصل في فبراير 2015 إلى سرت، التي اتخذ منها عاصمةً له في ليبيا. كما قام بالسيطرة على البعض من البلدات المحاذية، أهمها النوفلية، وبالهجوم على حقول نفطية في المنطقة. أما وجود التنظيم في العاصمة طرابلس فمحدود، لكن قدرته على القيام بهجمات داخلها كبيرة. ويمتد نطاق العمليات التي يقوم بها التنظيم إلى نواحي مصراتة، فقد أسفر تفجير استهدف مركزاً لتدريب قوات خفر السواحل بمدينة زليتن، تبناه التنظيم، في ديسمبر 2015، عن مقتل أكثر من 80 متدرباً. استقطب التنظيم المئات من المقاتلين الأجانب وخاصة من دول الجوار. إذ تشير أغلب التقديرات إلى أن التونسيين، الأكثر حضوراً في صفوفه.
تُمثل الجماعات الإسلامية المسلحة، بمختلف توجهاتها البديل الموضوعي للدولة في ليبيا اليوم. إذ تمتلك هذه الجماعات عتادا حربيا ضخما وسيطرة ميدانية واعتمادات مالية وسجونا ومعتقلات وعلاقات خارجية. فوجود هذه الجماعات يمثل عائقا أمام بناء مؤسسات الدولة، والصراع بين الجيش الليبي، آخر مؤسسات الدولة الباقية، وهذه المجموعات، صراع وجودي.
وكل محاولات التوفيق بين الطرفين، لا تلبث أن تنهار، فأي حضور مسلح مواز للجيش النظامي، سيعتبر حالة غير طبيعية تدفع للصراع. كذلك، ستمنع هذه الجماعات أيّ مبادرة للتسوية، بوصفها المتضرر من أي مسار لبناء الدولة والاستقرار، فنشاطها لا يمكن أن يستمر إلا في مناخ الفوضى وغياب الدولة.
فأغلب المحادثات السياسية التي يشارك فيها سياسيون ونواب وقيادات لأحزاب وحركات سياسية، لا يمكن أن تؤدي إلى نتائج ما لم تكن هذه الأحزاب ذات سيطرة على هذه الجماعات التي تملك الميدان وسلطة “الأمر الواقع″. بل إن وجودها أصبح يشكل ذريعة للعديد من القوى الغربية للتدخل العسكري مرة أخرى في ليبيا، في إطار “الحرب على الإرهاب”. فما هي فرضيات هذا التدخل وشكله وحدوده؟
كانت الخمس سنوات (2011 – 2016) كافية لتحول ليبيا إلى ساحة للفوضى والسلاح، وقاعدةً للجماعات الإرهابية بمختلف توجهاتها. وكانت كافية أيضاً لشق المجتمع الليبي المنسجم قبلياً وطائفياً وعرقياً، وزرع النزعات الإقصائية داخله. ل
كن وعلى الرغم من قتامة المشهد، فإن أملاً ما زال يحدو الليبيين لتجاوز الأزمة. فالعديد من القوى الفاعلة ما زلت تؤمن بضرورة إعادة بناء الدولة، وتسعى إلى إنقاذ البلاد من أن تتحول إلى دولة فاشلة. ويبقى مستقبل ليبيا، في الأمد والقريب والمتوسط، مرتهناً لثلاثة محاور:
تحصين النسيج الاجتماعي من التفكك وخاصة القبيلة بما هي المكون الأساسي للمجتمع راهناً، والعمل على شمول التحديث مجتمعيا من خلال تأسيس دولة مدنية تقوم على مبدأ المواطنة، لا على الانتماءات التحت وطنية. ولكن يمكن أن تلعب القبيلة دورا مهما في إحلال السلم في البلاد بالترغيب من خلال المصالحات المحلية، وبالترهيب من خلال زجر القوى الراغبة في إدامة الفوضى والإرهاب.
عزل القوى السياسية والاجتماعية التي ترعى الجماعات الإرهابية، بدلا من إعادة دمج هذه القوى في اللعبة السياسية من خلال مؤتمرات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة والمجموعة الدولية. هذه القوى لا تؤمن بالدولة المدنية والتداول السلمي على السلطة، وبالتالي لا يمكن أن تقوم معها شراكة سياسية، ودروس التجربة التاريخية في دول المنطقة تبرهن على ذلك.
ضرورة دعم الجيش الليبي من خلال رفع الحظر عن تسليحه، بدلاً من الدعوة إلى التدخل العسكري الأجنبي، الذي سيزيد من التمزق الاجتماعي والسياسي وسيعطل مسار البناء. وخاصة أن الجيش الليبي قد أثبت قدرته على هزيمة الجماعات الإرهابية في معارك بنغازي منذ فبراير 2016، والتقدّم الذي سجلته قواته في مواجهة تنظيم مجلس ثوار بنغازي وتنظيم داعش، رغم من ضعف التسليح بسبب الحظر الذي تفرضه المجموعة الدولية على توريد الأسلحة إلى ليبيا. إذاً فدعم الجيش الليبي بالأسلحة والتدريب والمعلومات الاستخباراتية سيغيّر مسار المعركة ضد الإرهاب.
(العرب اللندنية)