بوابة الحركات الاسلامية : في حواره مع الجديد.. محمد شحرور وسؤال المقدّس (طباعة)
في حواره مع الجديد.. محمد شحرور وسؤال المقدّس
آخر تحديث: الأربعاء 21/12/2022 12:00 ص حسام الحداد
في حواره مع الجديد..
"الشعوب العربية مدجّنة، فالاستبداد الذي ترسّخ في العقل الجمعي العربي لا يقتصر على طاعة السلطة المستبدة فقط، وإنما طاعة هاماناتها أيضاً، بحيث وقعت هذه الشعوب تحت كل أنواع الطغيان، سواء السياسي أم الفكري أم الاجتماعي أم العقائدي، وبالتالي استمرأت ذهنية القطيع، يشغلها الحلال والحرام، وتحارب أيّ خارج عن الطاعة، فالعبد يدافع عن عبوديته، ويصبح سيفاً بيد السجان" هذه الكلمات من أخر حوار للمفكر والباحث الإسلامي السوري الدكتور محمد شحرور، الذي توفى يوم السبت الموافق 21 ديسمبر 2019 عن عمر ناهز 81 عامًا في مدينة أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة.
وتعيد بوابة الحركات الإسلامية نشر حوار المفكر محمد شحرور مع جريدة الجديد بعد إعلان حصوله على جائزة الشيخ زايد للكتاب في عام 2017 عن فئة «التنمية وبناء الدولة» عن كتابه «الإسلام والإنسان.. من نتائج القراءة المعاصرة». حيث يثير محمد شحرور المزيد من الجدل من خلال آراء عبر فيها عن غضب المفكر من العقل العربي. وكما ينبه في حواره مع الجديد فإن» المشكلة في بنية العقل العربي الذي خضع لكل أنواع الطغيان ونشأ عليها ابتداءً من سلطة الوالدين وحتى سلطة الحاكم المستبد، وبالتالي أنتج ثقافة تحمل خوفاً مفرطاً من أيّ تغيير، وثقافة (خير القرون قرني) تنظر إلى سيرورة التاريخ باتجاه معاكس، ولذلك هي عصيّة على التغيير، إذ تعتبر أن السلف أكفأ من الخلف بكل نواحي الحياة»
لم يشأ شحرور منذ بداية حياته الفكرية الاستسلام لهذا التيار الفكري أو ذاك. بقي نائياً عن اليسار وعن اليمين معاً. واختار بديلاً من ذلك كله «التفكير العلمي». ولد في دمشق عام 1938 ودرس الهندسة المدنية بموسكو في الاتحاد السوفييتي، قبل أن يلتحق بجامعة دبلن في إيرلندا لدراسة الدكتوراه في الهندسة المدنية عام 1972. كتابه الأول بدأ العمل فيه عام 1967 وأنجزه بعد 23 عاماً. عقل شحرور يبني على مبدأ عدم وجود ترادفات في اللغة العربية وبالتالي في القرآن.، وهذا يعني أن لكل كلمة في المصحف معناها الخاص بها، فاستعمل المنطق الرياضي في فهم التنزيل، وأصدر كتبه وأبحاثه طيلة عشرين عاما متواصلة منذ العام 1970 وحتى العام 1990، ضمن سلسلة «دراسات إسلامية معاصرة» وفي تلك السنة أصدر كتابه الإشكالي الذي أثار ضجة كبيرة في العالم العربي والإسلامي «الكتاب والقرآن ـ قراءة معاصرة» في قرابة ألف صفحة. وقام بابتكار نظريته في الحدود، حول ما هو مطلوب من المسلم في حديه الأدنى والأعلى في كل قضية كقضايا الإرث والنكاح والمعاملات الاقتصادية وغيرها. واليوم يحمّل المفكر السوري اليسار العربي وعلى رأسه الأحزاب الشيوعية وحزب البعث سبب ما يجري الآن على صعيد العالم العربي، لأن ذلك اليسار لم يقدم أية أطروحة لبناء دولة يُحترم فيها المواطن ومبنية على حرية الاختيار. بقي الدكتور محمد شحرور يدرّس الهندسة المدنية في جامعة دمشق، ويعمل في شركته الخاصة مقدما استشاراته الهندسية، ويبحث في الدين الإسلامي، محاولا تقديم الجديد، لأنه كما يقول دينٌ يحرّر الإنسان ولا يستعبده، ولا يضيّق عليه، وكان سبّاقا إلى انتقاد النظام السوري قبل انطلاق الثورة السورية في ربيع العام 2011، إذ يقول «الإصلاح الديمقراطي في سوريا ضعيف جدا، لأن التطور السياسي خلال السنوات الخمس والثلاثين الماضية توقف تماما، حتى كوادر الإصلاح غير موجودة، الحكم الاستبدادي يوقف التطور السياسي للمجتمع».
في حواره مع الجديد..
وبسؤاله عن الفئات التي يكتب لها ويخاطبها ويتوجه إليها بقراءته المعاصرة للنص الديني، وما الذي ينتظره من أثر جراء هذا الاتصال بين بحثه والناس يقول محمد شحرور: أكتب للمسلمين المؤمنين بالرسالة المحمدية بشكل رئيسي، أولئك الذين ترسّخت في عقولهم عقدة الذنب لتحرمهم من التمتع بالحياة، ويتصورون الله كرجل أمن يعدّ عليهم عثراتهم ويتربّص بهم، إله يهوى تعذيب المؤمنين به، ويهوى الدماء فإذا أردت التقرب إليه عليك الموت وأنت تقتل كل من خالفك، لذلك ترى جيل الشباب يخرجون من هذا الدين أفواجا، كذلك يهمّني أن أتوجّه للآخر المختلف لأبيّن له حقيقة الإسلام، فإذا بقينا على ما نحن عليه سنصبح خارج التاريخ.
وقد لا أنتظر الكثير لكن رمي حجر في المستنقع يحرك ركوده، وأعتبر مسؤوليتي أمام الله أن أرمي هذا الحجر، وما أهدف إليه هو تحفيز التفكير، ويكفي أن يعلم «المسلمون» أن دين الله يختلف تماماً عن دين الفقهاء، وأن كتاب الله لم ينزل ليقرأ في مجالس العزاء ويزيّن رفوف المكتبات، بل ليقرأه الناس كلهم، دون وسيط، وما عليهم ليعرفوا دينهم سوى العودة إليه وقراءته بأعينهم اليوم، لا بأعين السيوطي وابن كثير، بعيداً عن الترهات والخزعبلات.
وعن مدى رضاه عن الأثر الذي أخذ يتركه مشروعه التنويري المتصل بقراءة النص الديني، وهل كانت لديه توقعات مختلفة حول ما كان ينتظره يقول محمد شحرور: عندما صدر كتابي الأول «الكتاب والقرآن» عام 1990، لم أكن أتوقع أن يلقى ترحيباً، وتعرّض الكتاب لهجوم شرس في حينه، لكني لم آبه له، وكان رد معظم رجال الدين هو تحريم قراءة الكتاب، وبالطبع لم ألق قبولاً لدى الإعلام العربي على عكس شيوخ الطهارة وطاردي الجن، واليوم وبعد انتشار الوسائط المتعددة أصبح من الصعب منع المعلومة من الوصول لطالبها، وما قلته في التسعينات واعتبر تجاوزاً كبيراً على «المقدسات» أصبح اليوم يتداول حتى على ألسنة من هاجموه، ورغم أن الانتشار ما زال محدوداً إلا أني أتفاءل بالمستقبل، فجيل الشباب يبحث عن أجوبة لأسئلته.
وعن كيفية تحديد مسافة الاختلاف بين مشروعه البحثي والمشروعات الأخرى التي قدمها باحثون ومفكرون آخرون حيث قدموا قراءات معاصرة للنص القرآني: أركون، نصر حامد أبو زيد يقول محمد شحرور: مع احترامي للجميع وتقديري لجهودهم، لكنهم لم يقدموا البديل، فلا يمكنك كسر الجمود الديني دون تقديم البديل، وأعتقد أني أقدم منهجاً متكاملاً يعتمد كلياً على النص، وهذا المنهج يقوم على تصحيح الرؤية وفق الأرضية المعرفية، فلا يقف عندي.
وحول سؤال هل يمكن حقاً للفكر الديني المعتدل في اللحظة العربية الراهنة، وهي لحظة تغلب عليها سمات التطرف والغلو في الدين، أن يكون فاعلاً ومؤثراً لا في عقول النخبة وإنما في عقول عامة الناس، في ظل وجود درجات من الغربة بين أهل الفكر والناس؟ يقول شحرور: الناس في المنطقة العربية يعيشون خيبة أمل إثر فشل المشروع القومي وما رافقه من سيطرة للاستبداد وقمع الحريات، وتوج ذلك بعشرات آلاف الضحايا والمشردين والمعتقلين بعد الربيع العربي، سواء في سوريا أم العراق أم اليمن أم ليبيا، إضافة إلى ظهور حركات الإسلام السياسي وما ارتكبته من أفعال خارجة عن العصر، مع غياب تام للسلطة المنقذة، فعندما رفع السوريون شعار «ما لنا غيرك يا الله» ماتوا واعتقلوا وغرقوا، ولم يجدوا جواباً، كذلك صدم أغلبهم بأفعال داعش، لكن أدبياتهم وما تعلموه من الدين لا يجرّم داعش، وتواكب هذا التناقض مع ثورة المعلوماتية، بحيث أصبحت المعلومة في متناول اليد، ومتاحة للجميع بكبسة زر.
وما أعوّل عليه هو أن يتمّ النظر إلى الإسلام كما نزل على محمد بعين العصر لا بعين القرن السابع، ليجد الناس خصائص الرسالة من رحمة وعالمية وخاتمية، ويروا بالتالي «صدق الله العظيم» في كل ما حولهم، لا يرددونها تلقائياً دون أيّ معنى.
وحول مصطلحات اليمين واليسار والمابعد وإلى أين يمضي العالم فكرياً وروحياً، وهل لدى الفكر أو الدين بقية من قوة لإنقاذ البشر من الهاوية التي صاروا إليها؟ فال شحرور: الإنسانية لا يمكن لها إلا أن تسير إلى الأمام، رغم ما نراه من انتكاسات هنا أو هناك، أما في الوطن العربي فالعقل الجمعي العربي مأزوم للأسف، ويحتاج دائماً لمثال يقيس عليه سواء كان مؤمناً أم ملحداً، لذلك فشلت الحركات السياسية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الماضي في تقديم أيّ طرح لبناء دول ديمقراطية، سواء تلك الحركات الدينية أو القومية أو اليسارية، فالقومية طرحت شعار الوحدة العربية بطريقة رومانسية صالحة للتغني بها ﻻ أكثر، ما أودى بنا إلى تفتت البلد الواحد، والحركات اليسارية اعتمدت النموذج السوفييتي في الحكم مثلاً تقيس عليه، وبالتالي شرّعت حكم أجهزة اﻷمن، أما الحركات الدينية فاعتمادها كان وما زال على المفهوم التراثي، دون أيّ تجربة تاريخية لمفهوم الدولة، وبالنتيجة ترى الإنسان العادي يعاني من شتى أنواع الاستبداد، ولم يعد يهمه سوى لقمة عيشه، فنحن ما زلنا نسعى للحرية في حين اجتاز الغرب المراحل التي تتحدث عنها، وإذا كان التطرف يطال شعوب العالم المتقدم، فما أراه أنها انتكاسة مرحلية لا أكثر.
في حواره مع الجديد..
وردا على سؤال، هل تظن أن الثقافة العربية هي في بنيتها العميقة ثقافة أبوية بطرياركية تتعالى على نشئها الجديد وبالتالي فإن كل محاولة للتغير يحملها في نفسه الشباب الثائر على الماضي ورموزه سوف تقابل بالقمع الشديد والإحباط من قبل هذه الثقافة التي تخاف من التغيير؟ قال شحرور: نعم، المشكلة في بنية العقل العربي الذي خضع لكل أنواع الطغيان ونشأ عليها ابتداءً من سلطة الوالدين وحتى سلطة الحاكم المستبد، وبالتالي أنتج ثقافة تحمل خوفاً مفرطاً من أيّ تغيير، وثقافة «خير القرون قرني» تنظر إلى سيرورة التاريخ باتجاه معاكس، ولذلك هي عصيّة على التغيير، إذ تعتبر أن السلف أكفأ من الخلف بكل نواحي الحياة، وحلمها العودة إلى الماضي دون النظر إلى المستقبل، وهذه الآبائية أعاقت التطور، والقمع لن يولّد إلا مزيداً من التمرد، لكن عجلة التطور لا بد آتية، ومن يقف في وجهها سينقرض، وما نشهده الآن هو بداية يقظة، فالأجيال الجديدة لم تعد مرنة أمام الاستعباد، بل بدأت تعي حريتها وكرامتها، وهي كغيرها تستحق الحياة الكريمة دونما قيود تستبد بها.
وحول ثقافة الخوف ولماذا ينتكس كل شيء في عالمنا العربي كلما فكرنا بالتغيير؟ وما السبيل في نظره إلى تحقيق تغيير يضع العرب تحت شمس العالم الجديد وبين الأمم الحية؟ قال شحرور: نعم الخوف يسيطر على عقولنا، ومنذ أن يبدأ الطفل بالاستيعاب نحشو عقله بالخوف من الجن والشرطي والمعلّمة وأهمّ خوف هو من الله، فنحن نتصوره إلهاً سادياً شريراً غايته عذابنا، ويرسل علينا رقباء يعدون أخطاءنا، علماً أن هذا كله لا أساس له في الإسلام، أما المرأة فهي ضمن ثقافتنا الجمعية مصدر عارنا، وشرف العربي يتعلق بنساء أسرته بينما شرف الياباني مثلاً يأتي من صدقه وإتقانه لعمله، واعتبارنا أن المرأة «فتنة» ومصدر الغواية فنحن في خوف دائم من الوقوع في تلك الغواية، لذلك يريحنا تغطيتها والحجر عليها.
أما التغيير فلا بد له أن يطال العقل العربي بتركيبته، فهو في وضعه الحالي عاجز عن إنتاج المعرفة إذ يحتاج إلى الدقة، بينما هو عقل ترادفي يعتمد على الخيال بدليل أن القرن الماضي أنتج ثلاثة آلاف شاعر عربي ولم ينتج عالماً واحداً، لأن الشعر لا يعيبه الترادف ولا الكذب ولا الخيال، بينما لا ينطبق هذا على العلم، كذلك كما ذكرت فالعقل العربي قياسي يحتاج لنسخة أصلية يقيس عليها، فهو غير قادر على الابتكار، أضف إلى ذلك أنه يعيش تحت سقف فكرة الحلال والحرام والمسموح والممنوع، وسبب واحد من هذه الأسباب يجعل أيّ عقل عاجز عن إنتاج المعرفة، فما بالك بها مجتمعة، وطالما نحن مستهلكون لا منتجون سنبقى في ظلمتنا.
وحول اضطهاد المرأة وما هي السبل المجتمعية في نظره لتحقق المرأة كيانها الخالص وما تستحقه من مكانة في المجتمع؟ قال شحرور: يمكن للمرأة العربية تحقيق مكانتها المجتمعية بإرادة ذاتية وبمساعدة من الرجل، والموضوع مرتبط بوعيها لحقوقها وإمكانياتها، وهنا نعود إلى أن نظرة الفقه الموروث للمرأة باعتبارها «ناقصة عقل ودين» و»حواء الغواية» والمستمدّة من الثقافات السابقة للرسالة المحمدية والمتوافقة مع مصالح مجتمع ذكوري كرّست صورة الرجل صاحب القوامة والمرأة ذات الكيان الأضعف، علماً أن الله ساوى في الخطاب بينهما «المسلمون والمسلمات والمؤمنون والمؤمنات» واعتبر الناس ذكوراً وإناثاً، لا ذكرا وأنثى تابعة له، وللأسف فإن الإنسان في مجتمعاتنا بذكوره وإناثه يعاني من الاضطهاد، لكن هذا الاضطهاد غالباً يقع مضاعفاً على المرأة، وتحمل هي جزءاً من المسؤولية عن ذلك، بالاستكانة لدور الضحية بدل العمل على الاستقلال سواء اقتصادياً أو اجتماعياً، بحيث تكون مؤهلة لانتزاع مكانتها في المجتمع.
وعن مشروعه الفكري ومحطاته الأساسية وأهم المراجعات يقول محمد شحرور: المحطة الأولى التي دفعتني للاستقصاء هي نكسة 1967، فبين متديّن حمّل النساء الكاسيات العاريات وزر النكسة، ويساريّ حمّل الصلاة والصيام هذا الوزر، كان لا بد من البحث عن الخلل في العقل العربي، لكن حتى عام 1980 كنت أدور في فلك المسلّمات التي نشأت عليها لذلك لم تؤتي هذه المرحلة أيّ ثمار، وتبين لي أني أسير في طريق مسدود، إلى أن أعدت البحث بتجرد، واستطعت أن أرمي بعبء التراث عن كاهلي، فوصلت إلى إصدار كتابي الأول «الكتاب والقرآن» عام 1990، وهو المحطة الثانية، وواصلت الدراسة والعمل ولم أتردّد في مراجعة أخطائي، لعل أبرزها موضوع الناسخ والمنسوخ، حيث تبين لي لاحقاً أنه وهمٌ، وأن النسخ بين الرسالات لا في الرسالة الواحدة، كذلك موضوع الإرث، حيث أعدت النظر في ما قدمته في كتاب «نحو أصول جديدة في الفقه الإسلامي» وحالياً أنا بصدد إصدار قراءتي الجديدة، وطوال هذه المسيرة يصحح منهجي ذاته، وأصل إلى فهم بعض المعاني التي كانت مبهمة بالنسبة إليّ وأعيد القراءة بناءً عليها.
في حواره مع الجديد..
وحول الكتاب الذي فاز بجائزة الشيخ زايد «الإسلام والإنسان» حيث أنه يعتبر خلاصة لمشروعه الفكري فهل تعتبر الجائزة اعترافا بمشروعك الفكري الذي طالما اعتبر خروجا على التقليد، وضرب من حوله حصار فرفض في بلدان ومنع في أخرى ولم تسمح به حتى وقت قريب غالبية الرقابات العربية؟ يقول محمد شحرور: نعم، أعتبر أن الجائزة خطوة على الطريق الصحيح، وتتجاوز ما هو شخصي لما هو عام، وهذا التكريم ليس غريباً على دولة الإمارات التي تسير على طريق الحداثة، بل جاء ليثبت أن الحداثة لا في البنيان فقط بل في الفكر أيضاً، وأن ثمّة ضوءا في آخر النفق الذي يسجن فيه من قال لا بتر ليد السارق في الإسلام، وأوروبا لم تصل إلى عصر النهضة إلا بعد إعادة الكهنة إلى الكنائس، ونحن الآن خارج خط سير التاريخ، يسير الزمن علينا دونما صيرورة، ولنعود إلى الخط علينا كسر القالب الذي وضعنا أنفسنا فيه والالتحاق بالركب.
وحول الشخصيات التاريخية والإسلامية التي لم تسلم من نقده الشديد لها.. وهل العقل العربي مهيأ لتقبل النقد لا سيما نقد أمثلته ونماذجه العليا؟ بقول محمد شحرور: في التنزيل الحكيم لا مقدّس إلا الله، ولا أحد معصوم عن الخطأ، إذا استثنينا عصمة الرسول في بلاغ الرسالة فقط، وبالتالي لا أحد خارج نطاق النقد، وإذا كنت أنقد الشافعي والبخاري ومسلم وغيرهم فأنا أنقد الصنمية فيهم، والمشكلة ليست بهؤلاء الأشخاص، بل بمن وقف عند فكرهم عشرات القرون، وأجدهم لم يعلموا أنه في عصر التوجه إلى المريخ سيعيش من يقدّس أفكارهم ويعتبرها خارج نطاق المس، ويلتهي بكيفية الدخول للحمام وعلى أيّ مذهب، وإذا كان العقل العربي ليس مهيأً بعد لتقبل أن هذه النماذج أصبحت منذ زمن خارج نطاق الخدمة، فليبق داخل قوقعته ولا يستغرب وضعه المزري، وكل ما أدعو له هو النظر إلى الإسلام من داخل التنزيل الحكيم لا خارجه، وقراءة هذا الكتاب وفق الأرضية المعرفية لكل عصر، وعلى من يأتي بعد خمسين عاماً ألاّ يتوقف عند قراءتي وأن يتقدم إلى الأمام، وإلا فإني أعتبر أن منهجي لم يؤت ثمره.
وهناك من يعتقد أن الإسلام في جوهره الأول لا يتدخل بين المخلوق وخالقه إلا بالمبادئ والخطوط العريضة التي تنظم العلاقة بين الطرفين.. من أين (وكيف) إذن تسللت إلى المجتمعات العربية (والمسلمة) كل تلك القسوة في فرض الأوامر والنواهي؟ يقول شحرور: هي ليست مجرد اعتقاد، إنما الإسلام الذي نزل على محمد ختم الرسالات وأعلن صلاحية الإنسانية للتشريع لذاتها، من خلال خطوط عريضة يتفق عليها كل أهل الأرض وهي القيم الإنسانية، فلا يوجد دين أو ملة أو عرف، ولا مؤمن ولا ملحد ولا برلمان ولا قانون إلا ويجرم القاتل والمغتصب والسارق وشاهد الزور، وفيما عدا ذلك أنت حرّ بمعتقداتك وطقوسك وشعائرك، والله تعالى يقول «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (الحج 17) أي وضع الفصل بين الناس على اختلاف معتقداتهم بيده وحده، لكن ما حدث هو استبدال أركان الإسلام القائمة على الإيمان بالله والعمل الصالح بأركان الإيمان بالرسالة المحمدية من إقامة صلاة وصيام وحج وزكاة، وبالتالي خرجت الأخلاق من أركان الإسلام، وأضيف إلى ذلك التقوّل على الله باعتبار كل اجتهادات النبيّ لمجتمعه ووفق ظروف القرن السابع الميلادي في شبه جزيرة العرب ديناً، وهي ليست دينا، وجرت صناعة الحديث النبوي بالتقوّل على الرسول أيضاً وفق مصالح الحكام وأهواء المجتمع الذكوري، ليتبلور الإسلام الذي وصل إلينا في العصر العباسي، وفي حين أن الأصل في الأمور الإباحة ما لم يثبت العكس بموجب التنزيل الحكيم، والحرام محدد بيد الله وحده، أصبح الحرام مطلقا والحلال محددا بموجب الفقه الموروث، وما زلنا لليوم نسأل عن المسموح لا عن الممنوع، واستبدلنا الله الرحمن الرحيم بالله المنتقم الجبار، علماً أن الله تعالى يقول «عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» (الأعراف 156)، وجهنم التي نهدد بها الناس منذ نعومة أظفارهم تشكو لله قلة النزلاء «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ» (ق 30)، فلا يملأ غير المحدد.
في حواره مع الجديد..
وحول سؤال هل الدين في طبيعته مناقض للفلسفة؟ وهل التدين الإسلامي على وجه خاص معاد للفلسفة، حتى حدث ذلك الصدام بين الشيوخ والفلاسفة في الإسلام.. خلال محطات عباسية وأندلسية وعثمانية وغيرها.. وهل يمكن للفلسفة أن تقارع في عصرنا هيمنة أهل الدين على أهل الدنيا؟
يقول شحرور: الفلسفة أمّ العلوم، والإسلام غير مناقض لها، على العكس فإن التنزيل الحكيم يجيب على الأسئلة الرئيسية فيها، كالوجود الموضوعي ونظرية المعرفة الإنسانية، لكن الموروث الإسلامي للأسف صدّر ابن رشد لأوروبا واحتفظ لنا بالغزالي صاحب «من تمنطق فقد تزندق» وتحول العقل الجمعي العربي معه إلى عقل ساذج، وبدأ رحلته مع السبات الطويل، ولعل ما يحصل الآن في عالمنا العربي على الرغم من قسوته يكون بداية صحوة، وإلا سنبقى عاجزين عن إنتاج المعرفة.
وعن الوسطيون وداعش يقول محمد شحرور: لا أستبعد أن تكون داعش صنيعة أجهزة الاستخبارات، لكن بالتأكيد استغلت الإسلام لنشوئها، وهي كفكرة لن تنقرض طالما لا نجرؤ على نقد أمهات الكتب التي تشكّل المرتكز الأساسي في مصادر الفكر الإسلامي، حيث يفهم حكم الله على أنه دولة الخلافة وقتل المرتد ورجم الزاني، ويفهم الجهاد على أنه قتل كلّ من خالفك بالرأي، ويفهم الولاء والبراء على أنه قتال ضد النصارى أو إرغامهم على دفع الجزية، والشهادة على أنها موت وحور عين، وللأسف فإن أيّ إسلام يدّعي الوسطية ما إن يستلم سلطة ما سيصبح داعش آخر، وداعش في النهاية لم يطبق إلا ما جاء في الكتب، حتى السبايا وجدها البعض «إحياء لسنة في الإسلام»، وكل من يدافع عن فكر الشافعي وابن حنبل عليه ألا يناقض نفسه ويهاجم فكر داعش.
في حواره مع الجديد..
وحول واقع المسلمين اليوم والنظرة المتبادلة مع الآخر المختلف يقول شحرور: للأسف بموجب «بني الإسلام على خمس» احتكرنا الجنة وأرسلنا 80 بالمئة من أهل الأرض إلى جهنم، ونظرنا إلى الآخر من خلال هذه الرؤية فقط، بينما علينا العمل بموجب التنزيل الحكيم «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات 13) فالله يخاطب الناس جميعاً، بأن معيار التميز هو التقوى، وتقوى الإسلام هي العمل الصالح، بغض النظر عن ملتك واعتقادك، وعلينا الوصول إلى نحن جميعاً لا أنا وأنت، ولنقدم للناس مثالاً يحتذى إذا كنّا غير مقتنعين بمدى إنسانيتهم، علماً أنّ ما يجده اللاجئون السوريون من تعامل في المغترب غالباً ينم عن إنسانية بحتة.
أما عن الإصلاح الديني فيقول شحرور: نعم مرت هذه الجريمة وغيرها مرور الكرام، لأن الشعوب العربية مدجّنة، فالاستبداد الذي ترسّخ في العقل الجمعي العربي لا يقتصر على طاعة السلطة المستبدة فقط، وإنما طاعة هاماناتها أيضاً، بحيث وقعت هذه الشعوب تحت كل أنواع الطغيان، سواء السياسي أم الفكري أم الاجتماعي أم العقائدي، وبالتالي استمرأت ذهنية القطيع، يشغلها الحلال والحرام، وتحارب أيّ خارج عن الطاعة، فالعبد يدافع عن عبوديته، ويصبح سيفاً بيد السجان، وهؤلاء العبيد ذاتهم ثاروا ضد رسوم اعتبروها مسيئة للرسول، رغم أنها اعتمدت على الصورة المقدمة في أدبياتنا، ولم يثوروا ضد المستعمر الداخلي الذي يسرق خيرات بلادهم وينشر فيها الفساد، وكنت قد استبشرت خيراً في عام 2011 مع ثورات الربيع العربي، لكن يبدو أن الإصلاح الديني يجب أن يسبق الإصلاح السياسي كما قلت سابقاً، فإذا لم تع الشعوب أن الحرية كقيمة أهم من الحجاب ستبقى تحت الطغيان.
في حواره مع الجديد..
وحول واقع المسلمين اليوم والنظرة المتبادلة مع الآخر المختلف يقول شحرور: للأسف بموجب «بني الإسلام على خمس» احتكرنا الجنة وأرسلنا 80 بالمئة من أهل الأرض إلى جهنم، ونظرنا إلى الآخر من خلال هذه الرؤية فقط، بينما علينا العمل بموجب التنزيل الحكيم «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات 13) فالله يخاطب الناس جميعاً، بأن معيار التميز هو التقوى، وتقوى الإسلام هي العمل الصالح، بغض النظر عن ملتك واعتقادك، وعلينا الوصول إلى نحن جميعاً لا أنا وأنت، ولنقدم للناس مثالاً يحتذى إذا كنّا غير مقتنعين بمدى إنسانيتهم، علماً أنّ ما يجده اللاجئون السوريون من تعامل في المغترب غالباً ينم عن إنسانية بحتة.
أما عن الإصلاح الديني فيقول شحرور: نعم مرت هذه الجريمة وغيرها مرور الكرام، لأن الشعوب العربية مدجّنة، فالاستبداد الذي ترسّخ في العقل الجمعي العربي لا يقتصر على طاعة السلطة المستبدة فقط، وإنما طاعة هاماناتها أيضاً، بحيث وقعت هذه الشعوب تحت كل أنواع الطغيان، سواء السياسي أم الفكري أم الاجتماعي أم العقائدي، وبالتالي استمرأت ذهنية القطيع، يشغلها الحلال والحرام، وتحارب أيّ خارج عن الطاعة، فالعبد يدافع عن عبوديته، ويصبح سيفاً بيد السجان، وهؤلاء العبيد ذاتهم ثاروا ضد رسوم اعتبروها مسيئة للرسول، رغم أنها اعتمدت على الصورة المقدمة في أدبياتنا، ولم يثوروا ضد المستعمر الداخلي الذي يسرق خيرات بلادهم وينشر فيها الفساد، وكنت قد استبشرت خيراً في عام 2011 مع ثورات الربيع العربي، لكن يبدو أن الإصلاح الديني يجب أن يسبق الإصلاح السياسي كما قلت سابقاً، فإذا لم تع الشعوب أن الحرية كقيمة أهم من الحجاب ستبقى تحت الطغيان.