الانتصار العسكري الذي تحقق ضد تنظيم داعش في الموصل وفر فرصة لقراءة نشوء التنظيم وارتقائه وتمدده، والتعرف على القوى والجهات والدول التي كانت تستفيد من وجوده وتدعمه وتغذيه أو تتغاضى عن نشاطه. الإشارة إلى الدور التركي في تمدد داعش جغرافيا وأيديولوجيا لا تحتاج جهدا كبيرا لتوفير قرائنه، على الرغم من النفي التركي لتلك الاتهامات بالاعتماد على القول إن تركيا طالتها شظايا الإرهاب.
التغاضي التركي سهل وصول التكفيريين إلى سوريا
يرى بعض المحللين أن علاقة السلطات التركية بالمقاتلين “الجهاديين” في سوريا والعراق، وخصوصا بتنظيم الدولة الإسلامية، لا تقل أهمية عن علاقتها بتنظيم الإخوان المسلمين ودورها في توجيه هذا التنظيم الدولي. فتخبط أنقرة تجاه سوريا نتيجة فشلها في إسقاط النظام السوري، وتطور الوضع الكردي السوري، وهاجس تركيا من نشوء منطقة كردية تسيطر عليها أحزاب كردية تتبنى أفكار حزب العمال الكردستاني التركي، دوافع متضافرة جعلتها تتغاضى عن تنامي نفوذ الجماعات المتطرفة في تلك المناطق كي تقاتل النظام السوري والفصائل الكردية بهدف السيطرة على مناطقها.
لقد قبلت تركيا بوجود الدولة الإسلامية عند حدودها وعلى أراضيها، بعد غياب الحسم العسكري في سوريا، وسقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر. وذكرت مصادر أمنية أن تنظيم القاعدة قد نجح بتأسيس أول قواعده في تركيا، وأسست فروع التنظيم في سوريا منشآت ومعسكرات تدريب على الأراضي التركية. وحددت هذه المصادر ثلاثة مواقع تحتوي على معسكرات التدريب والتجنيد للجهاديين في تركيا: الموقع الأول في مدينة كرمان التي تقع وسط الأناضول قرب إسطنبول، والثاني في مدينة أوزمانيا الاستراتيجية قرب القاعدة العسكرية التركية-الأميركية المشتركة في عدنان، بينما يقع الثالث في مدينة سان ليلورفا أورفا في جنوب غرب تركيا. ولا تستبعد هذه المصادر أن يكون التنظيم قد أنشأ شبكة اتصالات لربط المعسكرات الجديدة له في تركيا بأذرعه في العراق، وبتنظيم أنصار بيت المقدس في صحراء سيناء في مصر.
نشرت صحيفة واشنطن بوست مقالا تحدثت فيه عن دور تركيا في تهريب مقاتلي القاعدة إلى سوريا وتسهيلها عبورهم في الشمال السوري، ودعم المسلحين “الجهاديين” لمحاربة الأكراد، وأكدت أن أنقرة غضت الطرف عن تدفق الآلاف من المقاتلين الأجانب من جميع بلدان العالم الإسلامي عبر حدودها، في طريقها للقتال إلى جانب المتمردين في سوريا، لتسريع إسقاط النظام السوري. وكشفت الصحيفة أن الرئيس الأميركي باراك أوباما قد حض رجب طيب أردوغان (عندما كان رئيسا للوزراء) عندما التقيا في البيت الأبيض، على عدم جلب المزيد من المقاتلين الأجانب وإيقاف تدفقهم.
قبلت تركيا بوجود الدولة الإسلامية عند حدودها، بعد غياب الحسم العسكري في سوريا وسقوط حكم الإخوان في مصر
يتدفق المئات من المجندين إلى”القاعدة” بينهم أوروبيون من منازل آمنة في تركيا إلى سوريا، حيث يجري وضع المئات من مجندي “القاعدة” في منازل آمنة في جنوب تركيا قبل تهريبهم عبر الحدود إلى سوريا. كما تستخدم البيوت كـ”منازل راحة” لمقاتلي “القاعدة” الآتين من الخط الأمامي في سوريا.
وعرضت قناة “بي بي سي” البريطانية تحقيقا مصورا يوم 7 ديسمبر 2013 تضمن استخدام “الجهاديين” الأجانب “منازل آمنة” في جنوبي تركيا مركزا لعبور الحدود إلى سوريا. وأوضح أحد أصحاب المنازل أن “الجهاديين” عادة ما يقضون يوما أو اثنين في المنزل قبل العبور إلى سوريا، وفي طريق العودة يستخدمون المنزل مرة أخرى انتظارا لرحلات العودة إلى أوطانهم.
لكن التطورات الأخيرة أثبتت للأتراك أن عناصر تنظيمي داعش وجبهة النصرة، يحملون أهدافا أبعد من قضية إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، “إذ أحسوا بأنهم يحملون على أكتافهم العقرب التي ستلدغهم في وقت لاحق، كما لدغت حلفاء سابقين لها من قبلهم… وبالتالي، لم يعد أمام الأتراك سوى إغلاق البوابة في وجوههم، الأمر الذي حدا بداعش إلى قصف مواقع تركية، لترد تركيا بقصف الجماعة الإرهابية”.
ويرى بعض المحللين والسياسيين أن تركيا كانت على علم بغزوة “الدولة الإسلامية” للعراق وأنه تم ترتيب كل شيء وأن كل القوى التي لها حسابات في العراق استخدمت داعش كواجهة، إذ كانت أنقرة واحدة من القوى الأساسية التي وقفت وراء داعش وأن علاقات تركيا مع هذا التنظيم قائمة بشكل قاطع، بحسب القيادي في حزب العمال الكردستاني رضا ألتون.
ونشرت وسائل الإعلام التركية وثيقة تؤكد أن القنصل التركي في الموصل راسل وزارة الخارجية التركية قبل أيام من هجوم الموصل، منبها أن الأوضاع في المدينة تتجه نحو الأسوأ والأحاديث عن تقدم محتمل لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام باتت تثير قلقا جديا. وأوضحت التقارير أن رد وزارة الخارجية لم يتأخر وأتى نصه “داعش ليس خصما لنا”. والكلام أكده نائب رئيس الوزراء التركي بولند أرينج بطريقة غير مباشرة، عندما قال “وصلتنا معلومات بأن الدولة الإسلامية في العراق والشام على وشك مهاجمة قنصليتنا”. ولفت الإعلام التركي إلى أن المخابرات التركية كانت على علم بما يُحضر للموصل، وتحدث عن عمليات ابتزاز داعش للحكومة، إذ طلب هذا التنظيم فدية قدرها خمسة ملايين دولار مقابل الإفراج عن 31 من سائقي الشاحنات التركية الذين تم احتجازهم في محافظة نينوى، عدا رهائن القنصلية. وقادت المفاوضات التركية مع داعش إلى إفراج أنقرة عن القيادي البارز في داعش شندريم رمضاني، وهو شيشاني يحمل جواز سفر سويسريا، اعتقل سابقا بعد اشتباكات دارت بينه وبين القوات التركية في مدينة أضنة التركية بُعيد عودته من الأراضي السورية، قتل فيها رمضاني ثلاثة رجال أمن أتراك.
كشف الكاتب التركي رأفت بالي عن معلومات حصل عليها من مصادر إيرانية غير رسمية أن تركيا استضافت زعيم داعش أبا بكر البغدادي عام 2008 أي قبل تأسيس التنظيم، وأن أحد رجال الأعمال الأتراك تبرع له بمبلغ 150 ألف دولار. ونقلت صحيفة إدينلك ديلي التركية أن البغدادي دخل تركيا بصورة قانونية متنكرا في شخصية صحافي، ولكن السلطات التركية كانت تعلم بدخوله.
وشددت الصحيفة على أن حزب العدالة والتنمية لم يبذل أي خطوات لمنع أو تقييد حرية تحركات تنظيم داعش من خلال الحدود السورية-التركية، حتى بعد اختطافه مجموعة من الأتراك أثناء سيطرته على الموصل.
وأضافت الصحيفة أن تنظيم “داعش كان يعبر بسهولة بين المحافظات التركية الحدودية مع سوريا”، وأنه “يُجري الكثير من عملياته في المحافظات التركية الحدودية مع سوريا، بينما تكون قوات الأمن التركية على علم بهذه العمليات من دون أن تحرك ساكنا”. وأوضحت أن “مطارات إسطنبول وغازي عنتاب وهاتاي، جميعها تعتبر نقاط عبور للإرهابيين القادمين من الخارج، وأن الدولة كان يمكنها القبض على هؤلاء الإرهابيين إذا أرادت، من خلال الاطلاع على كاميرات الأمن بهذه المطارات”.
وعلى الرغم من إدراج كل من جبهة النصرة وتنظيم داعش على لائحة الإرهاب التركية، فإن الإعلام التركي يتحدث عن دعم وتمويل تركي مكشوف للتنظيمات الإرهابية. فللحكومة التركية علاقة بتنظيم داعش المسيطر على محافظة الرقة شمال سوريا، إذ أن بترول المحافظة لا يمر إلا عبر الأراضي التركية ومنها إلى الخارج، مما يعود بالفائدة على تركيا.
إن فشل السياسة الخارجية التركية في سوريا والعراق ومصر، واندلاع الحراك الشعبي في تظاهرات جيزي بارك في إسطنبول، والتي امتدت إلى المدن التركية الرئيسة خلال ربيع العام 2013، والقلق التركي من قيام حكم ذاتي للأكراد في سوريا، جعل أنقرة تبحث عن خيارات وسياسات جديدة منها دعم “الدولة الإسلامية” لتقاتل عنها بالوكالة وتنفيذ ما فشلت في تحقيقه عبر دعم مشروع الإخوان المسلمين في المنطقة.
(العرب اللندنية)