الانتصار الذي حققه الجيش العراقي على تنظيم داعش في الموصل، وأيضا الضربات التي يتعرض لها التنظيم في سوريا، وفّرت لبعض القراءات ترف التسرع والقول بأن التنظيم بصدد الأفول والتلاشي وأننا نطوي صفحاته الأخيرة، ولكن كما لنشأة التنظيم دواع وعوامل متداخلة، فإن اختفاءه لن يكون بالبساطة التي تروّجها القراءات المتسرعة. داعش هو حصيلة معقّدة لتشابك أبعاد سياسية وفكرية وفقهية وتاريخية، تضافرت لتفرز تنظيما يقدّمُ إجابات تاريخية عن أسئلة راهنة، ويعود باللحظة الراهنة إلى تصوّرات القرون الأولى من الإسلام. كل ذلك يسمح بالقول إن اندحار تنظيم داعش في العراق أو في سوريا، لا يعني نهاية أفكاره وأدبياته وبواعث نشوئه، ما يستدعي التنسيب في قراءة حدث الموصل، وعدم الركون إلى اعتبار لحظة الموصل نهاية للتنظيم.
يُعدّ سقوط داعش في معقله الرئيسي بالعراق وتهديد وجوده بسوريا انعطافة كبرى في مسيرة هذا التنظيم الإرهابي الأكبر والأعنف في العالم، لكن ذلك حسب تصورات العديد من المراقبين ليس الصفحة الأخيرة في كتابه، وستسعى المواءمات والمصالح المضادة للإقليم العربي إلى ولادة جديدة له.
التنظيم الذي أعلن نفسه دولة في غفلة من التاريخ صحيح أنه على وشك أن يُهزم ميدانيًا، غير أن خلف تلك الهزيمة تكمن انطلاقة أخرى تستمد مددها السياسي والفكري والمصلحي من خلال تغذية حروب جديدة ترعاها قوى سيتقلص نفوذها بالتأكيد إذا بردت الصراعات وسُويت نهائيًا.
هزيمة داعش وطرده من الأراضي التي احتلها من سُنن الواقع التي توقعها كل عاقل، إنما في المقابل لن تتورع القوى الإقليمية غير العربية، التي تضررت من الشراكات الاستراتيجية الأخيرة بعد تولّي الإدارة الأميركية الجديدة، عن المناورة وسيحظى تنظيم داعش وغيره من منظمات الإرهاب بالحماية من جانب من يتوخّى إنقاذ نفوذه بإنقاذ مجمل الطيف الراديكالي المسلح.
مثّل تأسيس تحالف أميركي إسلامي عربي لمواجهة داعش وتحجيم نفوذ إيران خسارة كبيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي كان يُعدّ نفسه داخليًا للعب دور ضامن الاستقرار الإقليمي المسيطر على خيوط اللعبة، وستقضي عروبة الأراضي المحررة من داعش على حلم أردوغان في الجامعة الإسلامية التي نادى بها بديلا عن الجامعة العربية وآزر لأجله جماعات الإسلام السياسي والجهاديين.
تنظيم داعش سيصبح أكثر حرصا على البعد العقائدي لشحن طاقات أتباعه وإبقائهم على الولاء للفكرة وللتنظيم
علاوة على هذا فإن تقويض النفوذ الإيراني بإسهام عربي من جهة الشرق بامتياز خليجي، أو من جهة الغرب بإسناد مصري، سيحرم أردوغان من اللعب على كل الحبال، إن من جهة الرياض أو من جهة واشنطن أو موسكو، وهو الذي استثمر طويلا في الزعم بأنه الموازن الإقليمي لإيران.
شكّلت التوترات المذهبية رافعة لدور أنقرة الإقليمي طوال الأعوام الماضية، وسوف يؤدي إنهاء حضور داعش وتحجيم إيران إلى تهميش دور تركيا الإقليمي، حيث سعى أردوغان دائما إلى الحد من الأدوار العربية والخليجية في ملفات المنطقة، خاصة العراقي والسوري، والسلطان الحائر أردوغان- بمشروعه الإقليمي بعد تحويل النظام السياسي التركي إلى نظام رئاسي- يرى أن القضاء على داعش لن يصُبّ في مصلحته وسيكرّس مكاسب جميع خصومه.
منطق داعش الذي يجذب به المجندين من مختلف بلاد العالم، بالقول إنه بصدد خوض حرب عالمية ضد قوى الكفر، وإن خلافته الإسلامية مستهدفة من الدول الصليبية وأعوانها، يمنح تركيا وقطر فرص الترويج لتلك الدعاية التي من شأنها إطالة عمر التنظيم وتمدّده، لا على الأرض وإنما في وجدان الشباب الجهادي المشبع بكراهية وعداء مبدئي لكل ما هو غربي.
توظيف التنظيم
داعش يستعيد حضوره ويعيد إنتاج نفسه سريعا اعتمادا على الدعم الذي يتلقاه من قوى إسلامية ومن دول ترفع عنوان دعم الإسلام السياسي، لكن لو كان هناك إجماع إسلامي وعربي على حرب داعش لما ملك التنظيم ذريعة تصديه لحرب صليبية، ولكانت النتائج الأقوى فعالية واستدامة هي انتزاع الشرعية والغطاء السياسي عن التنظيم، وإغلاق الحدود حتى لا يمر مقاتلوه، خاصة من قبل تركيا، علاوة على وقف تمويله وتسليحه ومواجهة أطروحاته الفكرية، وتشكيل اصطفاف عربي وإسلامي ضده.
من هنا سوف تسعى الدول، التي فتحت أبوابها ومناطقها الحدودية لداعش، إلى توظيفه مع غيره من التنظيمات في مشاريعها التوسعية في الداخل العربي، كما ستسعى إلى المناورة وتعطيل عمل التحالف العربي الأميركي، وتسهيل انتقال مقاتلي تلك التنظيمات لساحات أخرى تخدم مخططاتها.
مع المسعى الجادّ إلى مكافحة الإرهاب سوف تظهر بوضوح للعالم الجهات الداعمة له ومن ثمّ المستفيدة من بقاء داعش والساعية إلى إنقاذه كأحد أقوى أدوات تمددها وتحقيق مطامعها وأهدافها الاستراتيجية، وستستغلّ القوى التي تعاملت بالدعم وتبادل المنافع مع المنظمات الإرهابية حاجتها لمنقذ لتحسين العلاقة معها في ظل ما تعانيه هي الأخرى من أزمات.
تعزيز النفوذ التركي في العراق، خاصة في الموصل، وإضعاف الانتماء العربي هناك، والتشبث بكل ما من شأنه إثبات الثقل الإقليمي كرسائل موجهة للاتحاد الأوروبي وواشنطن، سيدفع تركيا تحديدا لاحتواء حدث سقوط خلافة داعش لصالحها في مختلف المسارات، بما يعزز مكانة أردوغان في الأوساط الجهادية.
تحجيم إيران
بالنسبة إلى طهران، فإن استراتيجية مكافحة داعش تشمل تحجيم النفوذ الإيراني بالمنطقة، وبالتالي تثير التطورات والتحالفات الجديدة مخاوف طهران لأن الهدف المكمّل لهزيمة داعش هو إيران والميليشيات التابعة لها في كل من العراق وسوريا ولبنان. إيران التي تغلغلت في بنية مؤسسات وأنظمة العراق وسوريا ولبنان تحرص على ألاّ تنتقل الصراعات والمعارك إلى أراضيها، وأن يظل الصراع في المحيط العربي، ومن ثمّ فمن الضروري إشعال المواجهات الطائفية ليستمر النفوذ الإيراني.
إرسال الحشد الشعبي إلى سوريا، والانتهاكات الطائفية اللاإنسانية ضد السنة في الموصل، جاء بمثابة بعث جديد لداعش وللإرهاب التكفيري السني في الداخل العربي لإبطال استراتيجية التحالفات الجديدة، ولإبقاء المواجهات خارج الحدود الإيرانية، وتسويغًا للحضور الإيراني في ملفات المنطقة.
النتيجة المنطقية هي أنه لا خروج فعلي وحقيقي لداعش ما دامت إيران حاضرة في المناطق العربية، فداعش نشأت على الطائفية السياسية، وكلاهما طهران وداعش حريصان على فتح الباب لصراعات طائفية جديدة تكون الحشود الشعبية وقودها، ومن الصعب طيّ صفحة داعش ما دام الصراع الطائفي قائما وبتلك البشاعة، وستضمن التشكيلات العسكرية الخارجة عن سلطة الدولة أو الموالية فكريا وعقائديا وسياسيا لدولة أخرى دينامية لتشغيل صراعات مديدة في المنطقة.
يعني عدم نجاح العراق في بناء علاقات متوازنة بين النظام وبقية الطوائف عودة الميليشيات وشبح الحرب الأهلية، ليستمر داعش بصور وعناوين مختلفة في سياق صراعات القوى المذهبية المتناحرة، كما أن التغيير الديموغرافي ومساعي السيطرة على أكبر مساحة من الأراضي التي يجري استعادتها من داعش وعمليات الانتقام وانتهاك الكرامة الإنسانية والقتل والاعتقال خارج القانون، كل ذلك مقدمات لنشأة الإرهاب والتكفير السني كرد فعل مكافئ للتهميش والاضطهاد الطائفي الشيعي.
كان ما عزز استمرار داعش كفكرة وكنهج هو استمرار مناخ الكبت والظلم وممارسات السلطة الباطشة ومعاناة الأقليات المحرومة، ما يسمح للمنظمات الإرهابية بتبرير ممارساتها اعتمادًا على مناهج وتأويلات دينية مغلوطة، وطالما بقي هناك تأويل منحرف للنص الديني مع وجود نفسية مضطهدة ومهمشة ومحبطة فإن المناخ يكون مهيئا للانفجار حال تهيأت الظروف السياسية المواتية.
مراقبون يتوقعون أن يستمر داعش في تمرده عبر الخلايا والجيوب السرية وسيتحوّل مرحليا في الداخل السوري والعراقي إلى النموذج “القاعدي”، ويصف قادة التنظيم هزيمة الموصل بجولة في حرب طويلة ينبغي خوضها بشجاعة كما واجه الرسول الأحزاب، فدولة الخلافة يلزمها تضحيات، ويُشبّهون ما يجري بما وقع للمسلمين من إيذاء بمكة قبل أن يقيموا دولتهم بالمدينة.
جبهات أخرى
ورغم تعرّض التنظيمات التكفيرية والجهادية لضربات شديدة وقاسية تجعل البعض يتصورون انتهاءها، إلا أنها في واقع الأمر موجودة وقائمة وتمارس عملها وتجتذب الأتباع رغم الكوارث الفكرية التي تعتنقها.
ولدى قادة داعش الحجج والأسانيد التاريخية التي يعالجون بها المآخذ الفكرية على منهجهم بما يبرر استمرارية دولتهم وفرضية وجودها رغم ما خسروه من أراض، حيث يتحدثون عن هجرة مؤقتة ثم عودة من جديد كفتح مكة.
الانسحاب من الموصل معناه أن التنظيم لا يزال قائما ولم توجّه له ضربات قاضية، ولا يزال يسيطر فعليّا على البعض من المناطق في العراق
علاوة على ذلك فإن العمليات الإرهابية المكثّفة في دول أخرى غير سوريا والعراق، وعلى رأسها مصر، تقود لفرضية الانتقال لساحات معارك جديدة أقل خطورة من سوريا والعراق بما اكتسبه مقاتلو التنظيم من خبرات ميدانية وقتالية متطورة، ومعروف أن لداعش فروعا تتيح له مواصلة الترويج لنموذجه والدفع في اتجاه تعويض ما خسره التنظيم، ولذا من المرجّح أن تزداد كثافة عمليات داعش في أوروبا وآسيا، خاصة في الفلبين وفي أفريقيا، وخاصة في مصر.
الانسحاب من الموصل معناه أن التنظيم لا يزال قائما ولم توجّه له ضربات قاضية، ولا يزال يسيطر فعليّا على البعض من المناطق في العراق، وسيخوض بقادته وبأعضائه المحليين صراعات الداخل الثأرية، في حين سينتقل الأجانب إلى ساحات أخرى.
تنظيم داعش يتوخّى في هذه المرحلة الحدّ من ظاهرة الانشقاقات وعبور المرحلة دون نزاعات على القيادة، ولذا يفضّل المحليين عن الأجانب، ويحصر الساحة العراقية على العراقيين، ويدفع بالمتطوعين إلى بلادهم، ويوزع أكثرهم على الفروع البعيدة للتنظيم.
من خرجوا من المحليين، إلى ليبيا أو إلى مصر عبر السودان، مستعدون للعودة للعراق في الوقت المناسب، ويعتبرون خروجهم مرحلة اضطرارية، وفي مختلف المحطات سيعمدون لممارسة أنشطتهم الإرهابية للإبقاء على هيبة التنظيم ولإثبات حضوره.
يعتمد داعش على امتداداته بمختلف بلدان العالم التي هي بمثابة المتنفس للتنظيم وقت الأزمات الكبرى، ويمثل حضور التنظيم في أوروبا وشرق آسيا وأفريقيا نقطة في صالحه كي لا يصبح رهينة مراكز غير مأمونة بمناطق غير مستقرة، ومن غير المنطقي أن يفتّ ما حدث بالموصل في عضد قادة داعش بعد أن حظوا بعلامة مسجلة من العسير استنساخ واحدة أخرى في شهرتها، وبعد أن تمكّنوا من صياغة كيان ملهم للآلاف حول العالم ممن تركوا حياتهم ليبايعوا الخليفة المزعوم.
البعض من الخبراء أشاروا إلى أن التنظيم مر بمراحل كان خلالها أسوأ وأضعف مما يمر به حاليا، ومنها ما تعرض له في عام 2010 في العراق قبل الانتقال إلى سوريا، حيث تمكّن من اجتياز مراحل ضعفه، وأعدّ غالبية مقاتلي داعش- خاصة ذوي الخلفيات العسكرية من الضباط القدامى بالجيش- أنفسهم لخوض حرب طويلة، وتسرّبوا بين السكان وفي المخيمات والبعض منهم هربوا إلى الصحراء لترتيب الأوراق وامتصاص الضربة ومن ثمّ العودة من جديد.
ولن يفوّت التنظيم على نفسه فرصة الاستفادة من أزمة الدول الداعمة للإرهاب، وكذلك من أزمة التنظيم الدولي لجماعة الإخوان، وسيسعى إلى “شراكة مصالح” في سياق بحث كل طرف عن كيان يقوّيه ويسنده في الملفات التي تهمّه، كما سيحرص على إبقاء الصراع الطائفي مشتعلًا في الشرق الأوسط لأن تهدئة الصراع معناها التخلي عن خدمات داعش.
عبر فروعه المنتشرة في أنحاء العالم سيضاعف داعش من مستوى العمليات التفجيرية والانتحارية حتى يمكنه الترويج لها دعائيا من خلال أذرع التنظيم الإعلامية، أملا في الإبقاء على فروع التنظيم في أنحاء العالم كملاذ بديل لاستقبال النازحين والفارّين من هزائم التنظيم في معاقله الرئيسية في البلاد العربية، ولكي لا يتأثر ضمّ الأتباع الجدد بهزائم التنظيم في العراق وسوريا.
داعش سيصبح أكثر حرصا على البعد العقائدي خلال المرحلة المقبلة لشحن طاقات أتباعه وإبقائهم على الولاء للفكرة وللتنظيم، مستغلا أفكار منظري قادة الإسلام السياسي في مصر وباكستان، علاوة على الرموز الفقهية القديمة والمنظرين الجدد، وليس خافيا أن أطروحات الحاكمية والجاهلية لسيد قطب وأبوالأعلى المودودي وفتاوى التكفير، هي أساس الأيديولوجية السلفية التي تستخدم في التعبئة والتحشيد ضد المخالفين من “الكفار”، وهي ذاتها التي يستخدمها داعش في حروبه وفي حشد عناصره.
والحل الوحيد لمواجهة كل هذا هو التحالف العربي الصاعد بالمنطقة، وأن ينجح هذا التحالف في فرض رؤيته وإرادته، وأن يكون إطار شراكته وعضويته هو التعددية الأيديولوجية الجيوسياسية ومحدداته كل ما يتعلق بالسلام العالمي والأمن القومي العربي والتوازن الإقليمي، وأن يكون المشرق في هذه التعددية عروبيا وتقدميا، لا مذهبيا ولا مؤدلجًا.
(العرب اللندنية)