تعلو درجة غليان الأطراف الإخوانية المهاجرة إلى تركيا وقطر من تفاهمات قيادة حركة حماس في غزة مع تيار إصلاحيي فتح الوطنيين. وكان مثل هذا الغليان متوقعا لأن جماعة الإخوان ترى في حماس أيقونتها اللامعة، التي من شأنها المساعدة على تسويق كل “الإخوان” وتبييض مقاصد الجماعة أينما كانوا وفي كل الأوطان، علما بأن هؤلاء قد باتوا أشبه بــ”إخوان” أردوغان وتميم، وهنا تكمن بقايا محنتهم.
بدا لافتا أن المرجعيات العليا للجماعة لم تتطير كثيرا أو قليلا من التغييرات الكبرى التي أدخلتها الحلقة التونسية الإخوانية مثلا، على خطابها السياسي المعلن وعلى تكتيكات عملها. ولم تغضب مرجعيات الجماعة، في مستهل التسعينات، عندما كان خيار المرحوم محفوظ نحناح أمير الحلقة الجزائرية، التحالف مع الجيش ضد ممثلي منحى الإسلام الشعبي- إن صح التعبير- ولم تر في ذلك التحالف إثما. فليس لمثل هذه الحلقات، الوميض الذي لحماس، كحركة مقاومة ومتكأ للديماغوجيا الإخوانية. فهذا وميض لا يخبو، حتى وإن ظلت حماس، لعشرين سنة، حريصة على التهدئة ومنع المقاومة وفق حسابات فلسطينية، ميدانية وسياسية مفهومة.
في معايير قياس القيادة الدولية أو القيادة العليا للجماعة، كان تحالف حماس مع النظام السوري، منذ منتصف تسعينات القرن الماضي إلى ما بعد انتهاء العشرية الأولى من الألفية الثانية، أي إلى ما بعد انتفاضة الشعب السوري بأكثر من عام، أهون من أن تتوافق حماس في غزة مع طرف وطني من أبناء جلدتها، بهدف إنقاذ غزة على المدى القريب، وإنقاذ النظام الوطني الفلسطيني المقاوم، كهدف إستراتيجي على المدى المتوسط والبعيد، علما بأن تحالف حماس مع نظام الأسد، كان يمثل طعنة لا نقاش حول فداحتها للحلقة السورية من الإخوان، وحتى لفكرة “الإخوان” ولتنظيمهم الذي يُعاقب المواطن السوري على الانتماء إليه بالإعدام قبل المحاكمة. أما تحالف حماس مع تيار عريض من شعبها، وطني وإصلاحي، فقد رآه إخوانيو تركيا وقطر جريمة كبرى.
وعندما استشاط إخوانيو تركيا وقطر غضبا من تفاهمات إنقاذ غزة وإعادة الحياة للنظام الوطني الفلسطيني، لجأت أبواقهم إلى اختزال الأمر ببعض التوصيفات التي استخدمتها حماس ومعها الجماعة، بعد الانقضاض على السلطة في غزة. وتلك توصيفات يعلم من أطلقوها، أنها باطلة وأن ذاكرة غزة وذهنيات المقاومين فيها تختزن العشرات من الوقائع المعاكسة التي عاشتها قيادة حماس في غزة. ولعل من أطرف المفارقات أن يكون رئيس السلطة الفلسطينية، بعد أن نفد صبر المجتمع الفلسطيني عليه وعلى نهجه، اضطر إلى الاتكاء على المفردات نفسها، التي كانت تستخدم ضد محمد دحلان وضده شخصيا، وهدفه من ذلك إلهاء المتبرمين من تفرده وقراراته الإقصائية من جهة، ومن جهة أخرى الاستمرار في محاولة وقف التقدم المذهل الذي حققه التيار الفتحاوي الإصلاحي في فلسطين، حتى أصبح كل ذي مظلمة، يرى في التيار معادلا موضوعيا لخياراته.
الإعلام الإسلامــوي الإخـــواني يستسهل التخوين بالجملة، ويقطع مع فكرة الحلول الوسطى واحتمالات التوافق
وفي هذا الإطار، بدت ركاكة الإعلام التركي ومواقعه الناطقة باللغة العربية على الإنترنت، مثيرة للسخرية، وكذلك بعض تخرصات الإعلام القطري. ففضلا عن الثغرات الطبيعية في منطق التعامل من بعيد مع قضايا مجتمع يعرف نفسه، فإن الإعلام المناوئ لتفاهمات القاهرة يتبدى بائسا، قليل الحيلة، مضطرا للجوء إلى إعادة إنتاج مفردات السجال الفلسطيني، بالتوزيع الموسيقي الجديد الذي ينفع في الأغنيات ولا ينفع في السياسة. فدحلان هو قاطع السمكة وذيلها في التاريخ المعاصر، وهو فاعل الأفاعيل، وهو الشخص المشكلة. هكذا يريدون إقناع الفلسطينيين. فلا تيار من الوطنيين آوت إليه الغالبية العظمى من الأسرى المحررين والمقاتلين والإطارات الوطنية الشابة. ولا ذاكرة عند يحيى السنوار ورفاقه من قيادة حماس في غزة، ولا أسرار لم يستطع دحلان إفشاءها عن عمله ومشتركاته مع المقاومين، منذ أن تأسست السلطة.
المـلمـح الأقبح، في سياق الإعلام الإسلاموي الإخواني، هو فقدانه لعنصر الأمانة والحق والتقوى، إذ يستسهل التخوين بالجملة، ويستهدف قطاعات اجتماعية وشرائح نخبوية، ويقطع مع فكرة الحلول الوسط واحتمالات التوافق، ويشيطن أطرافا كانت لها أسبابها ومواقفها في إطار التعارضات السياسية الراهنة في الإقليم. وبدا واضحا أن القائمين على هكذا إعلام لا يطيقون ولا يخطر في بالهم الأخذ بحفنة قليلة من الموضوعية، لتحسين الانتاج، مثلما يفعل صانع الهريسة، عندما يحرص على حفنة ملح في المعجون.
أما رؤوس الأنظمة التي آوت إليها الجماعة، وهي صديقة للولايات المتحدة وتفاخر بصداقتها لواشنطن، واليهود الأميركيون حاضرون في ثناياها العسكرية والإدارية، فلم تلق من إعلام “الإخوان” إلا كل تبجيل. فهي لم تفعل شيئا خاطئا لا في حكمها ولا في خياراتها ولا في سلوكها، ولا علاقة لها بأي هزيمة ولا في أي رزية من الرزايا.
والأغرب من ذلك، أن القائمين على هذا الإعلام، سواء من العرب “الإخوان” الراسخين في البغضاء، أو من الأتراك ومُحدثي التهجي في السياسة والتاريخ، يتغاضون عن عنصر الاختلال في المعايير عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وبمن ينسقون معها ويعملون بالتوافق مع أجهزتها.
فتركيا الأردوغانية، التي تجاهر بهكذا توافق، ولها تعاون معلن مع إسرائيل، لا تفعل شيئا خاطئا لا يليق بوزنها كدولة إسلامية أو دولة مسلمين وازنة.
السؤال الأهم، الذي يُفترض أن تضعه جماعة “الإخوان” أمام نفسها: هل كانت محصلة هذا السلوك الإعلامي عبر العشرات من السنين، رابحة أو حققت شيئا مفيدا للجماعة؟ الجواب بالعكس، لقد كان هذا السلوك سببا من أسباب الخيبة ومن أسباب تخوّف المجتمعات من حكمها، وكان علة وصولها إلى الحال التي هي فيها.
فما الذي ستناله قيادة حماس في غزة، أو “الجماعة” فيها، من محاولات إحباط التفاهمات، لدوافع لا علاقة لها بأي مبدأ، ولا بأي قيمة إسلامية أو عربية؟ فمثلما كانت الوطنيات التونسية والجزائرية والسورية، قد أملت على قيادة الجماعة الصمت على خيارات الغنوشي ونحناح ومشعل مع النظام السوري، يحق للمقاومين من “حماس” الذين توصلوا مع إخوتهم إلى تفاهمات، أن ينالوا من مرجعيات الجماعة، بـ”تنقيطهم” بالسكوت.
(العرب اللندنية)