التوصل إلى أن تيارات الإسلام السياسي بمختلف تياراتها، تعيش الآن مرحلة تراجعها أو بداية نهايتها، لا ينطلق من تحليل الوقائع العسكرية والأمنية، بل ينطلق من تحليل معطيات ودواعي صعود تلك التيارات ومقارعتها بتغير الوضع راهنا، إذ توصلت كل القراءات إلى أن ظاهرة الإسلام السياسي لا تزول إلا بزوال أسبابها، وأنها ستختفي أو تنحسر بتوقف مصادر دعمها، وكل هذه العناصر متضافرة أتاحت القول بأن الإسلام يعيش فترة جزر كبيرة.
لندن- هيمن الإسلام السياسي على العقيدة السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مدى السنوات الأربعين الماضية. لكن العنف الجهادي لوث صورته (لكن لم يلوث عقيدة أغلب المسلمين) وتراجع الدعم الإقليمي في كافة أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أمام التجربة الأخيرة. وإن لم يكن الإسلام السياسي انتهى فقد تقلص، والبديل عنه في كافة النظرات الإقليمية ليست الديمقراطية، بل الحكم الفردي بما في ذلك الأنظمة العسكرية.
أحدثت القفزة في أسعار ومداخيل النفط خلال سبعينات القرن العشرين تحوّلا في مكانة ونفوذ الملوكيات السنية التقليدية في شبه الجزيرة العربية والخليج. من بين التأثيرات الأخرى، ولدت هذه القفزة التمويل لانتشار النمط السعودي من الإسلام الصارم في كافة أنحاء العالم الإسلامي وخارجه.
وفي نهاية ذلك العقد سلّطت الثورة الإسلامية لسنة 1979 في إيران الضوء على عودة الإسلام كقوة سياسية. وكانت النتيجة التي استخلصتها الحكومات الغربية بأن الإسلام السياسي يمثّل عاملا أساسيا في المنطقة ويجب استيعابه، وتم تدعيم هذا التقييم في المملكة المتحدة بفعل ضرورة احترام معتقدات المسلمين البريطانيين في مجتمع متعدّد الثقافات.
أدت المحاولات العربية في بداية القرن العشرين لفرض الهوية القومية عن طريق ملوكيات تشرف على برلمانات إلى إفساح المجال في الخمسينات والستينات من القرن الماضي إلى أنظمة عسكرية أو أمنية علمانية استمدت شرعيتها من القومية العربية والسياسات الاشتراكية والمؤسسات الديمقراطية المزيفة.
الربيع العربي كان من صنع شباب ثائر على الأنظمة القمعية، والتنظيمات الإسلامية استغلت الأحداث لملء الفراغ
لكن الملوكيات في البداية، ثم الجمهوريات في ما بعد، فشلت في توفير رضا الجماهير على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والقومية (في المواجهة مع إسرائيل). زيادة على ذلك كانت كل من الديمقراطية البرلمانية والاشتراكية أيديولوجية مستوردة لم تتناسب بسهولة مع تقاليد المنطقة السياسية والاقتصادية والدينية (بالنسبة إلى البعض).
وفي المقابل فإن الإسلام أصيل المنطقة ولديه تاريخ من التفوّق العسكري والفكري سابقا ويقدّم دروسا (لكن نادرا ما تكون نماذج موحدة) للحكم والاقتصاد والمجتمع فضلا عن العقيدة الشخصية.
ثم جاء الغزو السوفييتي لأفغانستان في ديسمبر 1979 على أعقاب الثورة الإيرانية وطرحت أمام العالم الإسلامي مشروع غزو آخر من قوة خارجية لبلد مسلم. وفضلا عن تبعات أخرى، جذب الغزو المقاتلين الأجانب من كل أطراف العالم الإسلامي ومكّن أسامة بن لادن في العام 1988 من تأسيس القاعدة.
وفي عام 1991 أحبط انقلاب عسكري في الجزائر انتخاب حكومة إسلامية وتسبب في نشوب حرب أهلية تصادم فيها مقاتلون غير نظاميين مع نظام عسكري، وعزز ذلك النظر إلى قوة الإسلام السياسي، ثم تدعم ذلك بنمو هائل للمساندة السياسية في مصر للإخوان المسلمين (مدعومة ببرامج رفاه اجتماعي وممولة جيدا) تدعو إلى مقاربة ديمقراطية غير عنيفة إزاء علاقتها مع الحكومة والمجتمع الغربي.
من هذه الناحية حادت جماعة الإخوان عن الفكر الجهادي الذي طوّره المفكر الديني الباكستاني أبوالعلاء المودودي (توفي في سنة 1979) ومفكر حركة الإخوان نفسها سيد قطب. كما أنها وضعت نفسها على خلاف مع القاعدة وغيرها من التنظيمات الجهادية مثل الجماعة الإسلامية والتكفير والهجرة، وجلبت لنفسها ازدراءهم.
وأتت سلسلة الأعمال الإرهابية الفظيعة التي قامت بها القاعدة وتوجت بتدمير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر 2001 لتؤكد على أهمية قيام صانعي السياسات بتحديد ممثلين عن الإسلام السياسي الذين يقدّمون للمنخرطين بديلا عن الجهاد، ويكونون مستعدين للتعاون مع الحكومات الإقليمية والقوى الخارجية.
وامتزج هذا مع الإقرار بالحاجة إلى تجنّب تغذية خطاب القاعدة أو إهانة المسلمين المعرضين للنزوع إلى التطرف، وذلك بالضبط ما فعله استمرار تواجد القوات الأميركية في المملكة العربية السعودية بعد تحرير الكويت عام 1991، مما أدى في نهاية المطاف إلى الاتفاق على نقل القوات الأميركية من المملكة العربية السعودية إلى قطر عام 2003.
استمد الدعم للإسلام السياسي والجهادية قوته من العداء الموسع للغرب الناتج عن التنافر الديني والاجتماعي والثقافي. وتضمّن ذلك تباينات في الرأي حول الدين ودوره في المجتمع ومعايير السلوك الاجتماعي (مما شوّش على بعض الملاحظين المسلمين الذين يتهمون الغرب بالتفسخ الأخلاقي) والعلاقة بين الحكومة والشعب وحرية التعبير والاجتماع ومعاملة المرأة. من الناحية السياسية، لحقت العالم العربي الإهانة جراء الاحتلال الاستعماري لأراضيه، ومنذ منتصف القرن العشرين جرّاء غياب العمل الدولي الناجح لحماية الفلسطينيين من التهديد الوجودي المتأتي من إسرائيل لمطامحهم في إقامة دولتهم.
ومؤخرا غذى الغزو الأميركي للعراق عام 2003 والعمل العسكري الدولي ضد طالبان في أفغانستان أسطورة سردية واحدة تزعم بأن العدوان الغربي تجاه الإسلام دون انقطاع يرجع إلى الحملات الصليبية. وأثر ذلك على النزوع إلى التطرف من قبل بعض المسلمين الذين يعيشون في المجتمعات الغربية، بما في ذلك الشباب الذين ولدوا وتربوا في البلدان الغربية، لكن وجدوا أنفسهم أمام تعقيد التوفيق بين ثقافتين متنافستين خلال فترة نضجهم.
بيد أن الربيع العربي الذي بدأ في العام 2011 لم تتسبب فيه الحركات الإسلامية، بل الشباب الثائرين على الأنظمة القمعية حيث تحركوا بدافع الاحتجاج على غياب الآفاق الاقتصادية والتشغيلية. لكن التنظيمات الإسلامية المنظمة وصاحبة الخبرة والمموّلة جيدا تمكّنت من استغلال الأحداث وملء فراغ القيادة الثورية.
المحاولات العربية في بداية القرن العشرين أدت لفرض الهوية القومية عن طريق ملوكيات تشرف على برلمانات إلى إفساح المجال في الخمسينات والستينات من القرن الماضي إلى أنظمة عسكرية أو أمنية علمانية
في مصر فاز الإخوان المسلمون بالسلطة عن طريق وسائل دستورية، لكنهم فشلوا في النسج على منوال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في توفير الاستقرار والأمن والتحكم في المؤسسة العسكرية والنمو الاقتصادي (وقتها) قبل أن يتبع أجندة إسلامية تقوم على الحكم الفردي (مثلما هو الحال الآن).
وخلافا للتجربة الجزائرية، لقي التحرك العسكري الذي أطاح بالاخوان المسلمين في سنة 2013 بتأييد واسع وحصل على المصادقة الانتخابية وتمكّن من إبعاد الإخوان دون إثارة معارضة شعبية جدية. وتواجه الحكومة المصرية تحديّا أمنيا من الجماعات الجهادية لكنها لا تواجه تهديدا وجوديا.
وفي ليبيا لم يصل الإخوان المسلمون ونظراؤهم المحليون إلى حد النجاح الانتخابي حيث أجريت الانتخابات لكن المرشحين الإسلاميين منوا بالهزيمة. وربما كانوا ينتظرون نتيجة أفضل ناهيك أن الليبيين قدّموا عددا من المجندين في القاعدة أكبر من حجمهم نسبيا والجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا كانت إحدى القوى الأمامية في الحرب على نظام القذافي.
وأمام هذا الواقع، وبالرغم من رفض الناخبين لهم، استعملوا قوتهم التنظيمية والعسكرية وعزمهم وخبرتهم القتالية لتخريب نتائج سلسلة من الانتخابات وفرض إرادتهم على البرلمانات المنتخبة. لكن في حين أنهم ساهموا في إحباط محاولات لبناء ليبيا جديدة، لم يستطيعوا فرض السيطرة على كامل البلاد في مواجهة قوة الآراء والعديد من الميليشيات المصطفة ضدهم.
قامت السياسة البريطانية والدولية في ليبيا على تعزيز التوافق بتشريك كل الفصائل لخفض المخاطر بأن يسبب إقصاء فصيل واحد لانهيار العملية السياسية برمتها، ناهيك أن ثلاثين عاما من التسوية مع الإسلام السياسي وقصة ليبيا منذ سنة 2011 أفضت إلى وجوب تشريك الجميع.
لكن سياسة تشريك جميع الأطياف بالكامل قد تحوّل الآن دون عملية سياسية ناجحة إن أعطت نوعا من حق النقض لتنظيمات وأفراد ليبيين ينظر إليهم بقية السكان على أنهم وضعوا الإسلام السياسي أمام مطامح عامة الناس السياسية والاقتصادية اليومية والأكثر علمانية.
جرّب المصريون حكومة إخوانية ولم تعجبهم، والليبيون لم يرغبوا في مثل تلك الحكومة أبدا ورأوا بأمّ أعينهم الضرر الذي يمكن أن يلحقه فرض الإسلام السياسي بالقوة بآمالهم وطموحاتهم المستقبلية.
(العرب اللندنية)