الحقيقة التي بدأت بالتجلّي على خلفية ما يتعرض له مسلمو الروهينغا من حملات تهجير وإبادة في دولة ميانمار، هي أن لا دعوات رجال دين معتدلين أو متشددين، ولا تحركات المؤسسات الدينية، تستطيع التأثير في مسار الأزمة، بالنظر إلى ارتباطها بصراعات استراتيجية دولية، هذا بالإضافة إلى المسألة العرقية التي لها دور يتعدّى مجرد الصراع الديني، كما ينبغي الحذر من استثمار الإسلام السياسي لهذه القضية وإنعاش وجوده بعد انحساره.
الموجة الجديدة للعنف والكراهية في ميانمار بجنوب شرق آسيا فتحت نافذة جديدة لرؤية محركات أكثر شمولًا للقضية تفوق التصور الذي يحصرها في كونها صراعا دينيا، وبرزت ملامح التدخل الخارجي والنشاط المسلح لحركات انفصالية بخطاب سلفي جهادي بشمال ميانمار.
مأساة الأقلية الروهينغية المحرومة من الجنسية في ميانمار ذات الغالبية البوذية، تبدو أكثر تعقيدا بالنظر إلى الحضور الصيني بالمحيط الهندي، وهو الأمر الذي من شأنه أن يحدث تغييرا في الجغرافيا، ويدخل القضية وإقليم راخين ضمن غيرها من ملفات المصالح الجيو استراتيجية بين القوى الكبرى.
الأمر الذي ينبغي التنبّه إليه وسط موجات الغضب في البلاد الإسلامية، هو أن معاناة أقلية الروهينغا لا تقف وراءها ممارسات جماعات بوذية متطرفة تتستر بشعارات دينية بقصد الخداع وإشعال الفتن كورقة تحقق لها ما تتصوره من مكاسب، بل تشاركها في المقابل جماعات إسلامية متمردة تنزع بممارساتها العنيفة عدالة القضية وتصور الروهينغا كأقلية غير مندمجة وطنيا وتحارب السلطة المركزية بهدف الانفصال.
جماعات إسلامية متمردة تنزع بممارساتها العنيفة عدالة القضية وتصور الروهينغا كأقلية غير مندمجة وطنيا
إحدى هذه الجماعات تسمى “جيش خلاص روهينغا أراكان” – عرفت سابقا باسم حركة “اليقين”- وهي لم تتوقف عند استهداف الشرطة والجيش الميانماري، وتحاول تعويض افتقارها للدعم داخل الأوساط الروهينغية بإجبار المسلمين من المدنيين على البقاء في مناطق المواجهات لاتخاذهم دروعا بشرية، بل وأقدم مقاتلوها على إعدام مسلمين بتهمة التعاون مع الحكومة البورمية.
اللافت خلوّ المعالجة الإعلامية في العالم العربي لمأساة مسلمي الروهينغا من وضعها في سياقها العام، وهو ما يتيح بشكل أو بآخر لبعض جماعات الإسلام السياسي استغلالها للخروج من أزماتها في الداخل العربي، وخلق حالة من التجييش العاطفي لمآربها الخاصة، والمتمثلة في تأمين ضخ ما يضمن تعافيها من تبرعات وهبات.
مسلحون من جيش أراكان للخلاص والذي يضم عناصر مموّلة من مسلمي الروهينغا، هاجموا مراكز الشرطة وقاعدة للجيش في 25 أغسطس الماضي، ما أسفر عن مصرع أكثر من 12 شخصا، وهذه الممارسات من قبل جماعات أيديولوجية مسلحة من شأنها اختطاف إرادة الروهينغا في اتجاه مسارات تضر بقضيتهم ما يمنح الجيش الميانماري الذرائع لإنزال العقاب الجماعي بالمدنيين من مسلمي الروهينغا تحت غطاء تهمة الإرهاب.
ذلك يصب بشكل رئيسي في مصلحة القوى التي تستغل الدين لتحقيق مكاسب سياسية؛ فأغلب الأحزاب والقوى السياسية صارت تخطب ود الجماهير وتنال تأييدهم عبر إقرار أكثر الخطط عنصرية في العصر الحديث، نزولًا عند رغبات قيادات بوذية متعصبة، والتي توظف بدورها المشاعر الدينية المتأججة لحيازة السطوة والنفوذ الذي يمكنها من التحكم في الواقع السياسي.
بروز تلك الجماعات خلال السنوات الماضية يثير الكثير من التساؤلات، كما أن قيامها بتلك العمليات التي أوقعت العديد من عناصر الشرطة والجيش في أغسطس الماضي، والتي أعقبتها موجة العنف والتهجير والمجازر الأخيرة بحق الروهينغا، يرسم العديد من علامات الاستفهام حول مغزى التوقيت والأهداف ومصادر التمويل، بالرغم من أن ردود أفعال السلطات على أحداث كهذه متوقعة ويقينية الحدوث، مع أن طول معاناة الروهينغا خلال عقود بعيدة لم تخرج بهم عن السياق السلمي ومطالبات الاندماج وحقوق المواطنة، لا الدعوة إلى الانفصال.
الطرف الخارجي يعرف جيدا أنّ عنف الجماعات التي تحمل الطابع السلفي الجهادي سيقابله قمع أشد وسيؤدي لإشعال الصراع واتساع رقعته، وهو ما حدث بالفعل، حيث جاء الانتقام ردا على استهداف الشرطة والجيش من قبل مسلحين بشعا ودمويا، وأطلقت طائرات الهليكوبتر قنابل من النار على قرى المدنيين وعلى قوات الخطوط الأمامية للفارّين لقطع طريق هروب الأسر، الأمر الذي نتج عنه سقوط المئات من القتلى علاوة على تفاصيل انتهاكات مروعة.
خلوّ المعالجة الإعلامية في العالم العربي لمأساة مسلمي الروهينغا من وضعها في سياقها العام، وهو ما يتيح بشكل أو بآخر لبعض جماعات الإسلام السياسي استغلالها للخروج من أزماتها في الداخل العربي
هذه النزعة الانفصالية لا تقتصر على إقليم راخين غربي البلاد أو على الأقلية المسلمة فقط، فهناك جماعات مسيحية مسلحة تقاتل الحكومة المركزية بولاية كاشين الغنية شمال البلاد على الحدود مع الصين والهند.
الصراع في حقيقته عرقي في مواجهة نزعات انفصالية وليس دينيا بغرض التطهير الديني، بدليل تمتع المسلمين بامتيازاتهم الكاملة بمختلف مناطق البلاد بما فيها العاصمة خارج حدود راخين ومن غير المنتمين للروهينغا، بل سبق لحكومة ميانمار أن تحركت ضد الرهبان البوذيين أنفسهم عندما رعت الولايات المتحدة ثورة لهم لإزاحة النظام العسكري المتعاون مع الصين في عام 2007. والصراع لم يبلغ ذروته في العنف والوحشية إلا مع نموّ التنظيمات الدينية المتطرفة ومع بزوغ نزعات الانفصال، وما كان قبل ذلك مناوشات وانتهاكات محدودة ومتبادلة وثأرية على أساس عرقي تحدث بين أيّ عرقيتين متنافستين في العالم.
النزعة الانفصالية في ميانمار بدأت مع حضور تيار ديني متشدد حاول قبل ذلك تحقيق أهدافه خلال منتصف القرن الماضي وعاود المحاولة في عام 1971، وفي المرتين حاول استغلال أحداث خارجية أهمها انفصال باكستان عن الهند والأخرى انفصال بنغلاديش عن باكستان.
دلالات وحقائق سياسية واستراتيجيات دولية، تكشفها الدراسة الموضوعية لكيفية التعامل الخارجي مع بوذيي التبت ومسلمي الإيغور الصينيين ومسلمي الروهينغا البورميين، علاوة على ما طرأ من ارتباطات بين البعض من الجماعات الفاعلة داخل تلك البؤر وجماعات متطرفة وتكفيرية في باكستان والفلبين والشرق الأوسط.
واقع الحال يكشف رفضا شعبيا للنزعات الانفصالية ولاختطاف إرادة المجموع والتعبير عن القضايا العادلة بسلوك فوضوي عنيف، وهو ما يدفع تلك الجماعات والمنظمات لارتكاب الجرائم في حق الشعب الذي تدعي تمثيله.
منطلقات وممارسات تلك الجماعات، سواء بالدول العربية أو بشبه الجزيرة الهندية الصينية، وتاليا نتائج توظيفها من قبل أطراف خارجية، يفضح مشروعا متشابكا يستفيد من خطة تنظيمية متشابهة في الفكرة والسلوك، وجميعها في النهاية تخدم استراتيجيات دولية مقابل الدعم والتمويل المباشر وغير المباشر.
وأخيرا لا ينبغي أن يغيب عن أذهان المتابعين للأحداث حقيقة مفادها أن القيادات البوذية المتطرفة تستغل جرائم ووحشية الجماعات الإرهابية التي تتستر بشعارات دينية في العالم العربي لتخويف المواطنين في ميانمار من مجمل الحضور الإسلامي، في الوقت الذي لا يرى العالمان الإسلامي والعربي سوى جرائم الطائفة البوذية المتطرفة بحق المسلمين.
(العرب اللندنية)