بوابة الحركات الاسلامية : دراسة .. تكشف جرائم نظام الخميني في حق المراجع الشيعة المعارضين (طباعة)
دراسة .. تكشف جرائم نظام الخميني في حق المراجع الشيعة المعارضين
آخر تحديث: الخميس 21/09/2017 06:52 م
دراسة .. تكشف جرائم
كشفت دراسة جديدة عن موقف مؤسس الجمهورية الاسلامية في ايران ايه الله الموسوي الخميني من اهم وأكبر مرادع ورجال المذهب الشيعي، والذين اختلفوا معه في افكاره وروؤيته للنظام السياسي الايراني وتدخل رجال الدين في السياسية.

جرائم الخميني

جرائم الخميني
وذكر الباحث في الدراسات الفكرية والأيدلوجية بمركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية، محمد السيد الصياد، في دراسة له عنوان "موقف النظام الإيراني من المراجع ورجال الدين المخالفين" أنّ الطبيعة القيادية والكاريزمية والنفسية لشخص الخمينيّ جعلته يتعقب المعارضين له ولقراءته الفقهية -البشرية- ولم يؤمن بمبدأ التفاوض والحلول الوسطى. وكان المعارضون للخمينيّ من داخل المرجعية -وهم الأكثرية وقتئذ- يرون الحفاظ على استقلال المرجعية الدينيَّة، لكن الخمينيّ رأى انصهار وتذويب المرجعية في نظام ولاية الفقيه، بحيث تصير المرجعية أداة من أدوات النِّظام السياسيّ، وبحيث تفقد الحوزة استقلالها عن النِّظام الذي كان مكفولا لها تاريخيًّا حتى في ظلّ الحكم الشاهنشاهي. وحسب أحد أكبر المقربين للخميني في ذلك الوقت فإنه كان لا يقبل الرأي الآخر ولا المناقشة، ومن ثمّ أثّر مزاجه الشخصي وتكوينه النفسي على خريطة المرجعية وموقفه من المراجع المعارضين والمخالفين له في القراءة الفقهية.
ورصد الباحث في هذه الورقة  موقف النِّظام الإيراني ما بعد الثورة، من المراجع المخالفين لفلسفته وقراءته وسياسته وبرامجه، كيف تعامل معهم النِّظام بصفته نظامًا دينيًّا وبصفتهم رجال دين، وهل نجح النِّظام في ترسيخ العناصر الأخلاقية في أحشاء النِّظام السياسيّ، أم قُدّم أهل الثقة على أهل الكفاءة.
من ثمّ يمكن في النهاية الخروج بنتائج وإجابات عن ماهية السؤال الأخلاقي في الدولة الإيرانيَّة، وهل هي بالفعل دولة دينيَّة تتحاكم إلى الفلسفة الأخلاقية في المذهب الشيعي والدين الإسلامي، وهل يمكن ديمومة الدولة وبقاؤها مع تناحر المرجعيات وإقصاء قطاع عريض من رجال الدين الفاعلين في الداخل الإيراني ممن لهم مقبولية جماهيرية وقطاعات شعبية واسعة. لذا تُعَدّ هذه الورقة مفتاحًا مهمًّا لفهم الخارطة الدينيَّة والحوزوية في إيران، وطبيعة عَلاقة رجال الدين بمؤسَّسة الوليّ الفقيه، مِمَّا يُسهِم في معرفة وإدراك الظواهر السياسيَّة في إيران وتأسيسيات الحكم وصناعة القرار هناك، وموقع المرشد الأعلى في الخارطة الفقهية والعلمية، وكيف غاب مبدأ الأعلميَّة [أعلميه الفقيه] ليحلّ محله مبدأ السُّلْطة النافذة، وسياسة الأمر الواقع.

مراجع قم

مراجع قم
قبل الثورة الإيرانيَّة لم يكُن الخمينيّ الأول في التراتُبية الهرمية للحوزة الشيعية [في قم والنجف]، بل كان يأتي في مرحلة تالية في قم بعد آية الله كلبايكاني وآية الله شريعتمداري وآية الله مرعشي نجفي، وبالنسبة إلى الشيعة عمومًا كان السيد محسن الحكيم في النجف هو المرجعية العُلْيَا المتصدرة، يليه الثلاثةُ المذكورون آنفًا، ثم يأتي الخمينيّ رجلَ دين عاديًّا من مئات رجال الدين داخل الحوز، واشتهر بكونه قائدًا سياسيًّا أكثر منه فقيهًا دينيًّا، فكثير من الناس اتبعوه سياسيًّا، لكنهم لم يقلّدوه فقهيًّا، فكانت مدينة أصفهان -على سبيل المثال- من أشدّ المدن تأييدًا للثورة، لكن أهلها كانوا في مجملهم مقلّدين لمرجعية الخوئي في النجف. وحتى اليوم فإنّ أكثر الشعب الإيراني يُقلّد مرجعية السيستاني في العراق، مِمَّا يدلّ على أن الشعب يفرِّق بين الزعيم السياسيّ والزعيم الدينيّ. وإدراك تلك التراتُبية مهم جدًّا لمعرفة مدى التحوُّل الذي طرأ على الميراث الحوزوي الشيعي، والدرس الفقهي المستقرّ، وسلاسل الأسانيد والمراجع المعتمَدين.
وقد أنهى الخمينيّ ثنائية “الفقيه والسلطان” المتوارَثة منذ عهد الكركي، وصارت الصيغة الجديدة “الفقيه السلطان والسلطان الفقيه”، بما يعني أنّ الدين دخل في أحشاء السُّلْطة، فلا وجه لمعارضة رجل الدين للسُّلْطة السياسيَّة على الوجه الذي كان معروفًا في عهد الشاه لأنها صارت متحدثة باسم الإمام الغائب أيضًا، بل إنّ رأي السُّلْطة صار مُلزِمًا -في القراءة الخُمينيَّة- لغيرها من الفقهاء. لكن قبل الخمينيّ كانت السُّلْطة لا تزعم الولاية المطلقة والنيابة عن الإمام الغائب، فكان رأيها غير مُلزِم للفقهاء، بل كان الفقهاء يعتبرون أنفسهم قيِّمين على الشاه، فتَحوَّل الأمر في عهد الخمينيّ لأنه من داخل الحوزة لا من خارجها، بالإضافة إلى استيفائه شروط الاجتهاد والأعلميَّة. فلم يكُن هناك سوى سيناريوهين: الأول أن يتمسَّك رجال الدين الآخرون باختياراتهم الفقهية والاجتهادية ويعلنوا معارضتهم للقراءة الخُمينيَّة، والثاني أن يتماهوا مع القراءة الخُمينيَّة، وهو الإشكال الذي واجهته المؤسَّسة الدينيَّة.
بعد نجاح الثورة التي شارك فيها كلُّ مراجع قم، وعلى رأسهم الثلاثة الكبار [كلبايكاني وشريعتمداري ومرعشي نجفي]، كان من المفترض أن تكون لهم الكلمة العُلْيا في الشأن الفقهي السياسيّ، باعتبار الأعلميَّة والتراتُبية المعروفة في العرف الحوزوي والفقه الشيعي، لكن الذي حصل أنّ الخمينيّ بدأ يتخلص من نفوذهم واحدًا تلو آخَر، فسارع الخميني إلى القضاء على مراكز القوى داخل المرجعية الدينيَّة في قم، ممن يُتوقع أن يتسببوا في قلاقل تُهدِّد طموحه الشخصي ومشروعه السياسيّ. جدير بالذِّكر أن حكومة الشاه نفسه -بل الدولتين القاجارية والبهلوية بتاريخهما الطويل والراسخ في حكم الدولة الإيرانيَّة- لم تلجأ قَطّ إلى إعدام رجال الدين أو تضييق الخناق عليهم بالصورة التي فعلها الخميني، بل إنّ القوانينَ الإيرانيَّة آنذاك كانت تُعطِي حصانة لمراجع التقليد ولا تسمح بمحاكمتهم وإعدامهم.
إن الفقهاء الذين رجَّحوا السيناريو الأول -وهو محاولة الحفاظ على المسافة الفاصلة بين الحوزة والنِّظام، باعتبار نظام ما بعد الثورة نظامًا سياسيًّا بالدرجة الأولى ولو كان على رأسه فقيه مجتهد، فهو بحاجة إلى كوابح خارجية تتمثل في الحوزة العلمية المستقلة- كانت لديهم مبرِّراتهم القوية لهذا الطرح، أهَمُّها الموروث العملي والتطبيقي للحوزة العلمية تجاه الأنظمة السياسيَّة، في حين أنّ النِّظام الجديد ارتأى أنّ عصر استقلال الحوزة عن النِّظام السياسيّ ووجود مسافات فاصلة بين النِّظام والحوزة قد انتهى، إمَّا لأنّ النِّظام الجديد رأى أنه ممثِّل للحوزة وخارج من أحشائها، وإمَّا لأنه أدرك خطورة وجود المسافة الفاصلة بين الحوزة والنِّظام مستفيدًا مِمَّا حصل مع الشاه، وإمَّا لأنّ النِّظام رأى الحوزة أداة سلبية “تقليدية كلاسيكية” وأنها لم تبذل الجهد الكافي لإزاحة نظام الشاه في حين أن العبء الأكبر كان على الفقهاء الحركيين، لكن يُقلِّل من صِحَّة هذا الاحتمال أنّ الإقصاء لم يشمل الفقهاء التقليديين فقط، بل أيضًا الحركيين المعارضين للقراءة الفقهية والفلسفية للنظام [القراءة الخُمينيَّة]. فنحن إذًا أمام قناعتين مختلفتين بالكلية، مِمَّا يعني حتمية الصِّدام المباشر، فاستخدم الخمينيّ أدوات السُّلْطة والدستور والمؤسَّسات ليحسم المعركة، في حين تَجرَّد الآخرون من وسائل السُّلْطة ولو كانت قواعدهم الشعبية [المقلّدون] أكبر وأكثر انتشارًا في ذلك الوقت، مِمَّا أدَّى إلى خسارتهم المعركة حول القراءة الفقهية لولاية الفقيه أولًا، وخسارة تَمسُّكهم بالعرف الحوزوي المستقر تاريخيًّا ثانيًا.
وقدم الباحث سيرة ذاتية مختصر لأهم مراجع الشيعة الذين اختلفوا مع الخميني وادي الي اعتقالهم او اغتيالهم في ظروف غامضه، في مقدمتهم  آية الله شريعتمداري وهو تتلمذ آية الله محمد كاظم شريعتمداري [1905-1986م] على يد عبد الكريم الحائري والنائيني وأبو الحسن الأصفهاني وغيرهم، وبعد رحيل البروجردي تَصدَّر آية الله شريعتمداري في قم، وتَصدَّر آية الله محسن الحكيم في النجف، ثم تَفرَّد شريعتمداري بالتصدُّر في العالَم بعد وفاة محسن الحكيم. 
وقد كان آية الله محمد كاظم شريعتمداري الأستاذ الأول في حوزة قم قُبيل قيام الثورة الإيرانيَّة، وكان من رفاق الخمينيّ، وأسهم في خروج الخميني من المعتقل في عهد الشاه وإلغاء الحكم عليه بالإعدام، ذلك أن المراجع [آيات الله] كان القانون الإيراني في عهد الشاه يمنع إعدامهم، فمنح شريعتمداري الخمينيّ لقب آية الله، لإنقاذه من حكم الإعدام.
وثاني الايات الذين تخلص منهم الخمين،كان آية الله حسين منتظري [1922-2009م] رجل دين، ومُنظّر من مُنظّري الثورة، ونائب الخمينيّ الذي كان مرشَّحًا لخلافته. وكان زاهدًا في المنصب السياسيّ، ومتقشفًا في معيشته الخاصَّة، واستمرّ في الدرس الحوزوي في قم، وكان يَلقَى احترامًا من العلماء والفقهاء كافَّةً، وإن اعترض البعضُ على ترشيحه سنة 1985م خليفةً للخمينيّ، لوجود الفقهاء الكبار والمرجعيات العتيقة في قم. وكان من تلامذة الخميني، ووصفه الخمينيّ بـ”ثمرة حياتي”،  ولكن سرعان ما انقلب عليه الخميني  ووضعه تحت الاقامة.
ومن ايات الله الذين حاربهم الخميني، كانآيةُ الله محمود أبو الحسن الطالقاني [1910-1979م] من علماء الحوزة الكبار، وتَحصّل على درجة الاجتهاد من الشيخ عبد الكريم الحائري، وكان من قادة العمل الثوري الأوائل، وكان يقود الجماهير ضدّ الشاه عندما كان الخمينيّ في منفاه، وهو الذي استقبل الخمينيّ في المطار بعد رجوعه من فرنسا، وأمّن له الرجوع في ظلّ اضطراب الحالة السياسيَّة والأمنية في الدولة الإيرانيَّة وقتئذ. وبعد الثورة كان الرجل الثاني بعد الخمينيّ مباشرة، وكان يُلَقَّب بـ”أبي ذر الثورة”.
وكانت هناك عناصر شخصانية ونفسية من الخمينيّ تجاه طالقاني، فالخمينيّ وإن وظّف الجميع في بادئ الثورة فقد تَخلَّص من جميع المخالفين له في ما بعد، وكان يرى في مشروع طالقاني وجذوره التي ترجع إلى مدرسة النائينيّ خطرًا يُهدِّد مشروعه وقراءته للدولة، وزعامته الشخصيَّة، سيّما وأنّ النائينيّ ومدرسته يُتَلقَّى بالقبول من المرجعية الدينيَّة ورجال الدين التقليديين والإصلاحيين على السواء [كان النائيني فقيهًا وأصوليًّا وله إسهامات أصولية متينة قبل كونه إصلاحيًا]، بالإضافة إلى رسوخها وانتشارها وسط قيادات دينيَّة وثورية في ذلك الوقت مثل شريعتمداري وموسى الصدر وبازركان وتلامذة علي شريعتي
ومن رجال الشيعة الاخرين الذين انقلب عليه خامنئي،ايه  محمد مهدي الشيرازي [1928-2001م] وهو من أكبر فقهاء الشيعة، وإليه تنتسب فرقة الشيرازية، وهو أول من استقبل الخمينيّ ورحَّب به في النجف عندما نفاه الشاه، ولَمَّا نشِبَت الثورة الإيرانيَّة عاد إلى إيران وساعد في إنجاح الثورة، وشاركت جماعته [الشيرازية] في المحاكمات الثورية وتأسيس الحرس الثوري، والتغلغل في مفاصل الدولة وقتئذ بديلًا للجهاز البيروقراطي للشاه. وعندما اعتُقل آية الله شريعتمداري وخرج في الإعلام حاسر الرأس كان ذلك قطيعةً مع آية الله الشيرازي لمكانة آية الله شريعتمداري في الدولة والثورة والحوزة، ففُرِضَت الإقامة الجبرية على آية الله الشيرازي لمعارضته ما حدث مع شريعتمداري.

جرائم خامنئي

جرائم خامنئي
وبعد وفاة الخميني وقدوم خامنئي استمرّ نفس النهج تجاه أي فقيه أو مرجع يغرِّد خارج السرب ويجهر بقراءة فقهية مخالفة للقراءة المعتمدة لدى النِّظام الإيراني “القراءة الخُمينيَّة”. ورسخ النِّظام بصورة دراماتيكية لسياسة التشويه الإعلامي حتى لأركان نظامه وداعميه ممّن يستشعر بوادر مخالفتهم ولو في هوامش لا تمسّ الأمن القومي للدولة. وشملت مرحلة التشويه الإعلامي التشكيك في الأعلميَّة والأهلية للاجتهاد. وهي بالنسبة إلى رجل الدين تُعتبر بمثابة نزع القداسة الدينيَّة والعلمية [العمامة] عنه، ومن ثمّ الانفراد به بعيدًا عن القواعد الشعبية والجماهيرية/المقلّدين. وقد ترسخت فكرة تشويه رجال الدين ورموز سياسيَّة -في عهد الخمينيّ وما بعده- ممن يخالفون خطّ الإمام أو يظهر منهم بوادر اجتهادية ومواقف سياسيَّة جريئة، وذلك بهدف اغتيالهم معنويًّا، ونزع قاعدتهم الشعبية. 

ومن هؤلاء الذين تَعرَّضوا للتشويه ومحاولة نزع أعلميتهم في عهد الخامنئي:آية الله صانعي
السياسيَّة”، وآية الله محسن كديور [1959م-…] هو رجل دين إصلاحي، تتلمذ في حوزة قم، ومن تلامذة آية الله منتظري المقربين، وله آراء فقهية واجتماعية وسياسيَّة جريئة، خرج بها عن المألوف الشيعي، التقليدي والكلاسيكي والراديكالي، وهو الآن من كبار الإصلاحيين في إيران.
وكذلك من تعرضو للظلم من نظام خامنئي، عبد الكريم سروشن وهو رجل دين وفيلسوف إيراني معاصر، وُلد سنة 1945م في طهران، وبعد الثورة كان مناصرًا للخمينيّ، وتَوَلَّى مناصب قيادية، فأصبح عضوًا في لجنة الثورة الثقافية بكلية المعلمين، ثمّ عيَّنه الخمينيّ في مجلس الثورة الثقافية الذي كُلّف إعادة النظر في المناهج الدراسية وطواقم التدريس لتحقيق التوافق بينهما وبين توجه النِّظام الجديد. وارتبط بهذا المجلس سمعة سيئة بسبب عمليات تطهير واسعة مارسها بين صفوف المدرسين غير المتديّنين، تحت مزاعم معاداتهم للأفكار الإسلامية. وكان سروش من أهمّ منظّري النِّظام الإيراني طوال فترة الثمانينيات.
ومن الفقهاء المعارضين لولاية الفقيه الذين شُوّهت صورتهم واضطهدوا أيضًا: الشيخ محمد طاهر آل شبير خان، والشيخ حسن القمي، والشيخ محمد صادق الروحاني الذي سُجن في بيته في قم لسنوات عديدة، والشيخ صادق الشيرازيّ الذي سُجن مع ابنه وابنَي أخيه محمد رضا ومرتضى لسنين عديدة، والشيخ محمد علي الأبطحي الذي دُفن سِرًّا بعد منتصف الليل.
 وقد اعتقل النِّظام آية الله العظمى محمد حسن طباطبائي قمي لمعارضته ولاية الفقيه، وظلّ رهن الإقامة الجبرية في منزله 17 عامًا حتى ألغى الرئيس خاتمي الإقامة الجبرية عنه سنة 1997م.

الخُمينيَّة مدرسةً فكريَّةً

الخُمينيَّة مدرسةً
حاول الخمينيّ تكريس أطروحاته ظاهرةً ومدرسةً تطبع الحياة كلها في إيران ما بعد الثورة، بدءًا من تأميم المؤسَّسات والأفراد والحوزة لشخصه كنائب عن المعصوم، ومن ثمّ فإن المعصومية تشمله، فإنّ “من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرَّب، ولا نبي مُرسَل، ولقد كانوا قبل هذا العالَم أنوارًا محدقين بعرش الله” ، ومن ثمّ فهو نائب عمّن هو أفضل من الأنبياء والملائكة المقربين! لذا فلا غرو أن “يجلس تحت قدميه كبار رجال الدولة، ابتداءً من رئيس الجمهورية وانتهاءً بالمقربين ومرورًا بقادة الجيش وهم حفاة حقًّا”. وهذه العَلاقة بين الفقيه وغيره لم تكُن موجودة طوال التاريخ الإيراني والشيعي عمومًا، فكان الفقهاء جزءًا من الشعب، لا فرق بينهم وبين عموم الناس، بيد أن هذا التحوُّل اعتبر الفقهاء طائفة خاصَّة، فوق عموم الناس. فهذه الممارسة عزَّزَت من صعود الخُمينيَّة كمدرسة فكرية، حلّت محلّ مدارس الفقه التقليدي الشيعي في قم، بشقيه الكلاسيكي [البروجردي]، والدستوري [خطّ النائيني]، وصارت الخُمينيَّة نظرية مغايرة لأيّ طرح سابق في تاريخ الدرس الفقهي والفلسفي الشيعي كلّه.
هناك ملحظٌ مهمّ آخَر، هو أنّ كلّ رفاق وتلامذة الخمينيّ الكبار كانوا ضدّ ولاية الفقيه بقراءتها الخُمينيَّة، وكلّ مُنظّري الثورة كانوا ضدّها أيضًا، ونقصد هنا رفاق الخمينيّ الكبار، من الطبقة الأولى، لا تلامذته من الطبقة الثانية في ما بعد كمصباح يزدي وجواد الآملي وخامنئي، بل الطبقة الأولى مثل مرتضى مطهريوطالقاني ومنتظري وغيرهم ممن كانت لهم اليد الطُّولَى في الحوزة والثورة. مع ذلك استطاع الخمينيّ فرض نظرية ولاية الفقيه بقراءته وفهمه هو عبر سياسة الأمر الواقع، ومأسستها في الدستور والقوانين والمؤسَّسات، وإلغاء كلّ ما عداها واعتبارها خطرًا يُهدِّد الثورة والأمن القومي الإيرانيّ، بل ربما يُهدِّد الإسلام ومنهج العترة، في توظيفٍ سياسيّ معتاد للدين والمذهب.

ويمكن الخروج بأهم النتائج في النقاط التالية:
1- لموقع وموضع الحوزة داخل النِّظام السياسيّ الإيراني قراءتان مختلفتان، ففي حين أراد المراجع المعاصرون للخمينيّ إبقاء الحوزة في خطِّها التاريخي المستقر والمتعارَف عليه، وبقاء مساحة فاصلة بين الحوزة والنِّظام السياسيّ، أراد الخمينيّ إزالة المساحة الفاصلة بين الحوزة والنِّظام السياسيّ باعتبار أن تلك المساحة كانت نتيجة حتمية للتعامل مع حكومات غير مشروعة وليست ممثلة للإمام الغائب، في حين أن نظام ما بعد الثورة هو نظام شرعي وخارج من رحم الحوزة، ويمثِّل الإمام الغائب، أي إن الخمينيّ ارتأى في إلغاء تلك الاستقلالية التاريخية لازمًا من لوازم شرعية النِّظام الجديد. ولكن هذه السياسة مثَّلَت انقلابًا وتحوُّلًا جذرًّيا في المؤسَّسة الدينيَّة الشيعية، وكان لهذه السياسة نتائجها على الدرس الفقهي وبنية الحوزة العلمية.
2-استطاع النِّظام الإيراني القضاء شبه التامّ على مدرسة النائيني الفقهية والإصلاحية لصالح القراءة الخُمينيَّة، على الأقلّ في المؤسَّسات الرسميَّة للدولة الإيرانيَّة، وبقيت المدرسة الإصلاحية الدستورية تبحث عن بدائل غير الحوزة العلمية لبَثّ فكرها، بعد حرمانها من التدريس الحوزوي.
3-كان الخمينيّ مرحليًّا في القضاء على مراكز القوى وجماعات الضغط داخل المرجعية الشيعية، فلم يواجه الجميع دفعة واحدة، بل أخذ كلًّا على حِدَة، متَّبِعًا سياسة تفتيت وتفريق الكيانات الموحَّدة.
4-قامت المؤسَّسة الدينيَّة لدى الشيعية منذ البداية -حسب مرتضى مطهري- على أساس التضادّ والمعارضة مع السُّلْطة، والتحمت اجتماعيًّا مع الناس. وإذا صحّت هذه القراءة لمطهري فهي تؤكّد ذلك التحوُّل الذي أحدثه الخمينيّ في الحوزة والمرجعية بتأميمها وتحويلها إلى جزء من كيان الدولة وأداة من أدوات النِّظام السياسيّ، ففقدت الحوزة استقلالها التامّ أو جزءًا كبيرًا منه على الوجه المستقرّ تاريخيًّا.
5- بروز الشخصانية وعوامل المزاج النفسي وتقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة في النِّظام الإيرانيّ، أدَّى إلى غياب مفاهيم القواعد الحاكمة، والاستفادة من الثراء العلمي والمعارفي للمخالفين سياسيًّا واجتهاديًّا للنظام، وأدَّى إلى تحكُّم الاستقطابات الآيديولوجية والهُوِيَّاتية.
6-بين القراءة الخُمينيَّة وقراءة بقية المراجع، على اختلاف مدارسهم، خلافات تأسيسية، فالقراءة الخُمينيَّة لا تأبه بمركزية الشعب في اختيار الحاكم، لأن الفقيه يستمدّ شرعيته من الله لا من الشعب، وكذلك مسألة محدودية ولاية الفقيه، فالقراءة الخُمينيَّة لا تعترف بمحدودية ولاية الفقيه داخل بلده، بل تمتدّ لتشمل المقلّدين والفقهاء كافَّةً في العالَم.
7-يرى الباحث أنه تحت الإقصاء السياسيّ والحوزوي المستمر لرجال الدين الإصلاحيين وتغييبهم عن الساحة ومجابهتهم بالعنصر الأمني والسلطوي -لا بالفكر والحوار والحِجَاج- ستزيد قواعدهم الشعبية من الفئات الشبابية والنسائية والمطالبين بحقوق مدنية عادلة، ويُسهِم ذلك في تشويه صورة النِّظام الراهن، وقد يؤدِّي على المدى البعيد إلى حلحلة الوضع السياسيّ الوحدوي، إن لم يؤدِّ إلى إزالته بالكُليَّة، علاوة على أن أطروحات رجال الدين المعارضين لخطّ الدولة هي إصلاحية ومتوائمة مع الحداثة والدولة الحديثة إلى حدّ كبير، في حين أنّ الخطاب الدينيّ التابع لمؤسَّسة الوليّ الفقيه خطاب راديكالي فقهيًّا وسياسيًّا، مِمَّا يؤدِّي إلى نبذ القواعد الشعبية له، وحتى إن لم تُترجم إلى إزاحة تامة للنظام فقد تؤدِّي إلى تعديل سلوكه وتطوير فلسفته وأفكاره جذريًّا ليتلاءم مع العصر، أو سيؤدي على المدى البعيد إلى حلحلة تقود إلى سيناريوهات دراماتيكية لا يمكن التنبُّؤ بتبعاتها على الدولة والإقليم، بخاصَّة مع زيادة العبء الأخلاقيّ على النِّظام السياسيّ بحكم تخليه عن المفردات الأخلاقية السياسيَّة التي صُدّرت في بداية الثورة، أو كانت حتى سببًا رئيسيًّا في نشوب الثورة والتفاف الشعب الإيراني خلفها.
8-وأخيرًا فإنّ الحوزة وإن أُمِّمَت لصالح مؤسَّسة الولي الفقيه، فإن قوة رجال الدين الإصلاحيين لا تزالت موجودة في أحشاء المجتمع الإيرانيّ، لأنها هي المنسجمة مع الطبيعة والسيكولوجية والمكونات النفسية للشعب والجمهور الإيرانيّ، فحتى لو غابت عن الدوائر الرسميَّة والإعلامية للنظام -هرم السُّلْطة- فإنها موجودة في قاعدة الهرم، وبقوة، وهذا كفيل بإحداث التوزان الاجتماعي المطلوب، وكفيل بديمومة جماعات الضغط الإصلاحية لتعديل مسارات النِّظام.