القول بأن الإخوان المسلمين يستعملون الدين في مآربهم السياسية، قول معتاد لا يحتاج إلى تذكير أو برهنة، لكن ما هو جدير بالملاحظة هو الإنسان الذي تعمل الجماعة على خلقه. تحويل المواطن إلى مريد، والدولة إلى خلافة والقانون إلى شريعة كلها مفاصل من تديين الوجود الذي تسعى الجماعة على فرضه، وبالتالي خلق مسلم حزين لا يمتلك غير إسقاط الماضي على الحاضر والتحسر على ماضي الخلافة، والقطع مع الآخر وتحويله إلى عدو محتمل، وكلها مقدمات لصنع الفرد المتطرف والمجتمع المعزول على واقعه.
تعمل جماعة الإخوان المسلمين منذ العشرات من السنين على جعل المسلمين لا يملكون دينا بل الدين هو الذي يتملكهم، الدين كما تتصوره هي، بمعنى ذلك الفهم الشمولي للدين الذي يُبنى عليه كل وجود الناس الرمزي بحيث تصبح القيم الأخلاقية الجماعية الواحدة هي السائدة على حساب قيم الفرد والمواطن الحر. يحاول أحفاد حسن البنا إغراق “الأنا الذاتية” في “النحن الديني” من أجل تطويق الفرد من كل جانب لتأبيد إقامته في معتقلهم.
تسوّق الجماعة الإخوانية منذ نشأتها لهوية دينية معلّبة مضادة لحرية الفرد واستقلاليته بغية إبعاده عن أي فلسفة أو ميتافيزيقا أو أيديولوجيا قد تغير نظرته إلى خطاب زعمائها ومرشديها وما يدّعون. كما يعمل الإخوان على جعل المؤمن يخاف من ظله محاولين إقناعه من خلال دروسهم وحلقاتهم الليلية السرية والعلنية بأن في كل مكان من مجتمعه “الجاهلي الجديد” ذنبا يتربص به بل يحاولون إيهامه بأن العقوبة هي التي تتربص وتتحين فرصة الإيقاع بالمعصية.
يرهبون المؤمنين بأكاذيب غيبية لا تنتهي لتحقيق أهداف دنيوية بحتة على رأسها الوصول إلى سدة الحكم والاستمتاع بمزاياه كما رأينا مع صعودهم في مصر وكيف انتبه الشعب المصري وطردهم حينما أدرك خطرهم.
يخترع هؤلاء اللاهوتيون الجدد أساليب مختلفة خادعة لـ”تديين” الوجود، إذ يقدمون وصفة سريعة جاهزة للحياة ويضغطون على المؤمن للأخذ بها كما يفعل مع وصفة الطبيب، وكأنهم رسل جدد جاؤوا بحل لكل داء. وفي حقيقة الأمر لا تعدو بدائلهم أن تكون سوى عبارة عن تهويمات لفظية غارقة في السذاجة أغلبها مخل بالمنطق وقيم الحضارة التي نعيش فيها.
يريدون خلق مسلم حزين يحترف التأسف على ما مضى باختلاقهم لتاريخ مثالي يمنون التابعين والمضحوك عليهم باسترجاعه مع أنه لم يوجد سوى في أذهانهم المعتلة والمتربصة.
كيف يمكن أن تطمئن نفس مهما غرقت في الطقوس الدينية إذا رسخت في أعماقها فكرة أن العالم كله يتآمر عليها
يدس الإخوان وبأساليب ماكرة في نفوس مرتادي نواديهم المختلفة صغارا وكبارا حقدا على المجتمع والدولة والغرب، ولا يتمنى بعض هؤلاء بعد سنين من ذاك التخدير المتواصل سوى تفريغ ذلك الحنق في أول فرصة سانحة، وهو ما يستغله الإرهابيون في الوقت المناسب، كما حدث في بلدان كثيرة منها الجزائر خلال عشرية كاملة عرفت فيها تفجرا للحقد العنيف لم يخطر ببال أحد.
وعلى عكس ما تدعي التفسيرات التي تزعم التسلح بعلوم الاقتصاد والسياسة وغيرها فقد كان ذلك العنف نتيجة مباشرة لخطاب إسلامي عمل كل ما في وسعه ودون مراقبة على تسييس عقيدة الناس وتوصل إلى فعل فعلته المشينة في المدارس الجزائرية والمساجد والمصليات التي كان يسيطر عليها الأصوليون.
خلق الإخوان في معظم البلدان العربية جو ريبة يدفع بالمؤمن إلى التساؤل حتى عن البديهيات من أمور الحياة فيصبح يتحرك في محيط شبه موبوء بالفتاوى، يعطل عقله وينزل به إلى منزلة التلميذ أو المريد الذي لا يحسن إلا الإنصات والطاعة طمعا في حصد الحسنات وحسن العاقبة، ويسلم نفسه طواعية إلى كل من هب ودب ليملي عليه “كاتالوغ” السلوكيات الحسنة والمستحسنة، وآخر لما يجب تجنبه من الأفعال المستهجنة.
وهكذا يضيق التدين وبدلا من أن يكون استقلالا وواحة روحية تتفتح فيها الذوات وتتحرر يغدو معتقلا تسجن فيه الروح والبدن. فكيف يمكن أن تطمئن نفس ناشئة مهما غرقت في الطقوس الدينية إذا رسخت في أعماقها فكرة أن العالم كله يتآمر عليها ويدس لها الدسائس، فقط لأنها مسلمة.
لأسباب متعلقة بالشرعية وتوازن القوى داخل كل مجتمع عربي ولتقاطع مصالح معينة بين الطرفين فسحت السلطات لجماعة الإخوان العمل على أسلمة حياة الإنسان العربي من مهده إلى لحده، والهدف تكوين مؤمن مرعوب من عذاب القبر يحاول بكل الوسائل تفادي سعير جهنم بدل مواطن يطالب بحقوقه الاقتصادية والسياسية والحقوقية.
الهدف تكوين مؤمن مرعوب من عذاب القبر يحاول بكل الوسائل تفادي سعير جهنم بدل مواطن يطالب بحقوقه
لخدمة مشروع دولة الشريعة الذي عطلوا به ظهور حياة سياسية حديثة في مجتمعات المنطقة، ضرب الإخوان شرعية الدولة الوطنية بتكوين ذهنيات تعير الاهتمام للشرع قبل القانون، فتتساءل عن إسلامية الأمور وتوافقها مع الشريعة الملقنة من لدنهم قبل تساؤلها عن قانونيتها وتطابقها مع قوانين الدولة القائمة.
وقد استغل الإخوان المسلمون في الغرب الحرية التي تضمنها العلمانية التي يحاربون في العالم العربي لدفع الشاب المنحدر من الثقافة الإسلامية إلى أن يشعر بأنه مسلم أولا وقبل كل شيء ومواطن ثانيا وفي أحسن الأحوال الإخوانية، ألا يعتبر نفسه مواطنا أوروبيا أو أميركيا على الإطلاق، وأن يقتنع في قرارة نفسه أن موطنه هو “الإسلام”.
كلما حدثت موجة عنف وشبه انتفاضات بضواحي المدن الفرنسية الكبرى المأهولة من قبل ذوي الأصول الإسلامية، لا نرى زعماء الجمعيات الإسلامية المنضوية تحت لواء الإخوان يطلبون الهدوء أو التنديد بالعنف والأعمال التهديمية باسم دولة القانون أو مبادئ الجمهورية الفرنسية التي ينعمون تحت ظلالها، وإنما باسم الشريعة، وهكذا يغرسون في كل مناسبة في عقول الناشئة مصطلح “الخطيئة ” بدل “المخالفة القانونية”.
مع تغوّل الإخوان اعتلّت الصحة الروحية ولم يعد يلبي التدين الجماهيري المؤدلج في الكثير من البلدان العربية أدنى حاجة ميتافيزيقية أو روحانية بل أصبح أقرب إلى النفعية السياسية والخشية والاستسلام للجماعة.
لم يؤد استثمارهم الماكر في تديّن الناس العفوي سوى إلى انتشار شعبوية دينية تشجع على التطرف، إذ أن كل دواء انتهت مدة صلاحيته، يتحول مفعوله إلى علل حتما ويصب الماء في طاحونة الإرهابيين. لا يستقر مجتمع ولا يتطور إذا لم يقطع نهائيا مع جماعة الإخوان.
(العرب اللندنية)