لا حدود للتشدد الديني في تقدمه على حساب الحريات الشخصية ومحاصرة كل صنوف الفنون والإبداع، إذ كلما أتيحت للتشدد الديني مساحات التوسع كلما قلّص من هامش الحرية وزاد من منسوب الانغلاق في الفهم وفي الممارسة. قضية غناء المنشد الأزهري إيهاب يونس، وبصرف النظر عن دلالاتها السياسية المتصلة بمن أطلق حملة الإدانة، فإنها كانت فرصة جديدة لمقارعة رؤيتين مختلفتين لقضية الدين والحرية، أو هل أن الدين من شأنه أن يحاصر التعبيرات الأخرى، كالفن والإبداع. اندلاع القضية في مصر كان في توقيت موسوم بتعالي المطالبة بتفعيل التجديد الديني ومحاصرة التطرف بدحض مبرراته الفكرية، إلا أن مسارعة جماعة الإخوان إلى نشر خبر غناء المنشد الأزهري واعتباره إهانة للأزهر، فضلا عن إيقاف المنشد عن الإمامة والخطابة، هي مؤشرات توحي بأن طريق التجديد الديني مازال محفوفا بالصعوبات، وأن التطرف نجح في التسرب اجتماعيا وفنيا وسياسيا.
القاهرة - أثار غناء المنشد الأزهري إيهاب يونس إحدى أغنيات المطربة المصرية الراحلة أم كلثوم حالة من الجدل بين مرحّب بتكامل العلاقة المتدهورة بين الفن والدين لفترة طويلة، ومعارض هاجم تصرف الشيخ الأزهري غير المسؤول الذي أساء لدينه وشيوخه.
عاد النقاش حول شكل العلاقة بين الدين والفن بقوة داخل المجتمع المصري بعد أن غنى شيخ يرتدى زي الأزهر، اشتهر بالإنشاد الديني، أغنية “لسه فاكر” الشهيرة لأم كلثوم، ليثير موجة من الغضب داخل الأزهر ووزارة الأوقاف المصرية التي أوقفت الرجل عن العمل وحوّلته إلى التحقيق.
واتهم مسؤولون بالأوقاف المنشد إيهاب يونس بتدنيس وازدراء الدين بالغناء الذي اعتبروه فعلا مشينا حين يصدر من رجل دين أزهري.
ويجد خبراء أن تغوّل الفكر السلفي المتشدد وسعي تيار الإسلام السياسي إلى فرض تصوّراته الخاصة التي تخدم مصالحه السياسية، مهما كانت درجة إضرارها بالعلاقة بين الدين والفضاء العام، هو ما خلق التنافر بين التدين والفن علاوة على كافة النشاطات الإنسانية والمجتمعية الأخرى.
وبسبب هذا الاستغلال صار إظهار التدين قرينا بالشعور بالذنب ومؤشرا للانسحاب من الحياة والانعزال عن مباهجها وفنونها، لخدمة تيار يسعى إلى تكريس تصوّراته الخاصة في كافة المناحي بوصفها البديل التطهري الشامل عما هو قائم.
وأدى التخبّط في المفاهيم وتضخيم الأحداث مثل حادثة المنشد إيهاب يونس إلى خلق ما يشبه العزلة بين الإسلام والفنون، وهو ما يؤدي في مرحلة من المراحل للزهد في التعاطي مع الدين بالشكل الإيجابي.
وأسهمت المنطلقات المنهجية الخاطئة في تكريس فريقين؛ أحدهما تيار ديني متشدد استطاع النفاذ إلى داخل المؤسسات الدينية التي نالت النصيب الأكبر من الاختراق طيلة العقود الماضية، وفريق ثان اخترق المشهد الفني للتربح التجاري، وهما لا تعنيهما تلك التكاملية المقاصدية حيث يبحثان عن مصالح فئوية ومادية ضيقة.
وتلقت النخبة المصرية غناء الشيخ إيهاب يونس للسيدة أم كلثوم بفرح وتفاؤل كمظهر يذكر بالنهضة الفنية من جانب، ودلالة على الحضور الإبداعي الذي يعطي بعض الأمل في التطوير والتجديد، ويسهم في تحجيم ظاهرة الفتاوى الشاذة والعكوف على الطرح التقليدي الجامد سواء من ناحية جوهر القضايا أو من جهة أسلوب طرحها.
الانسجام بين الفن والدين لا يتحقق بالوصاية عبر سلطة دينية تجعل الفنان خادما لأوامرها، إنما بمنح الفنان مجالا للحرية
وشدد مراقبون على أن تحرر الطرح الديني من القيود وانفتاح المتدينين وحفظة القرآن على المجتمع وبزوغ ظاهرة الشيخ الفنان قبل ظهور المدّ السلفي وصعود تيار الإسلام السياسي، هي حالة مصرية تعكس طبيعة الشخصية المصرية الخاصة، تأكيدا على أن إيهاب يونس ليس شذوذا، إنما امتداد لظاهرة راسخة في الثقافة المصرية تجسدت قديما في الشيوخ أبوالعلا محمد وسيد درويش وزكرياء أحمد وغيرهم من رموز الفن الكبار.
وقال الفنان المصري إيمان البحر درويش إن “ما يلتقيان فعليا هما الفن الراقي وصحيح الدين والفقه، والنفور بينهما لا يتحقق إلا بحرف الدين عن مقاصده ورسالته أو بالهبوط بالفن بعيدا عن وظيفته ومهامه السامية”.
وأوضح درويش لـ”العرب” أن “وظيفة الفنان هي توطيد العلاقة بين المبدع والمتلقي ودمجهما في كيان واحد، حتى يرى المتلقي صورته وأحلامه ومشاعره وآلامه وطموحاته في المبدع الذي يعبر عن كل ذلك بالكلمات والألحان”.
وشدد على أن “الفن يلتقي مع الدين في أنه يبحث عن الجمال ويسعى إلى خلق صوره وأشكاله ونقل مظاهره لأعين المتلقي والإسهام في ترقية السلوك الإنساني بالوصول إلى أعلى درجات الشعور بالجمال والتخلق به، سواء جمال المشاعر أو جمال الأخلاق أو جمال الجوهر والمظهر”.
ونظر مفكرون لارتباط الدين والفن من جهة أن كليهما يتعامل مع الرمزي في الحياة وما وراء الظاهر والواقع، وبالتالي فكلاهما تجسيد للثقافي والتركيبي عند الإنسان، وابتعاد عن الغرائزي والمادي والطبيعي.
ويرى متابعون أن الدين والفن يبحثان داخل الإنسان عن الخير والحرية والمحبة والسلام، وكلاهما تجربتان متفردتان تتطلبان الإخلاص والصدق ووهج الروح وإحساسها العميق بالمعنى.
ويجد خبراء أن الانسجام لا يتحقق بالوصاية عبر سلطة دينية تجعل الفنان خادما لأوامرها ومسخّرا لأغراضها، حيث لا اختيار له إلا أن يفعل ما أمر به، إنما بمنح الفنان مجالا واسعا للحرية والاختيار.
ولم يمنع الإسلام سوى جزئيات بعينها تتعلق باستخدام الفن كمطية لتحقيق أهداف تنحرف به عن رسالته ودوره في الحياة، وما سوى ذلك فللمبدع الحرية في القيام بالبدائل الأخرى.
ويربط البعض من المراقبين بين الاهتمام بالفن ومواجهة الفكر المتشدد والمتطرف مدللين بأن الخصومة التاريخية بين الفقه والفن كان يذكيها غياب روح الاجتهاد لدى الفقهاء وانحراف بعض الممارسات الفنية.
يرى خبراء أن تحديث الفكر الإسلامي من شأنه أن يكون العنصر الفعّال في التخلص من هذا الوضع الذي يعتبر اجتماع الدين والفن تجسيدا للعار وجالبا للفضيحة، والضحية هو المسلم العادي الذي يشعر بأن إيمانه مهدد ووقاره ضائع بمجرد تعاطيه مع لون من ألوان الفن سواء كان مؤديا أو في موقع المتلقي.
ويضع مختصون الفن في مكانة متقدمة في سياق مشروع التنوير والتجديد الديني، ويراهنون على قدرته السحرية في التأثير لتحرير الإنسان وزيادة وعيه الثقافي والمعرفي ليصبح واعيا ومشاركا في تدعيم مناعة مجتمعه في مواجهة هجمات الأحقاد والكراهية والعنف والغلو والجريمة.
وفي هذا الإطار قالت رئيسة الإدارة المركزية لرعاية الطلاب بقطاع المعاهد الأزهرية نوال حسني أن “المهمة التي هم بصددها عبر إحياء المسرح المدرسي وتشجيع النشاط الفني بإقامة المسابقات بين الأعمال المسرحية وتعميم فكرة صالون الأزهر الثقافي، هي تدريب خرّيجي الأزهر على التعاطي مع ميدان الفن وتوظيف أدواته وتحصيل المعارف والقدرات التي تصلهم بجمهور الفن العريض”.
وأضافت لـ”العرب” أن “هناك صورة سلبية منتشرة عن الأزهر ومؤسساته كونه يخاصم الفن”، مشددة على أن “ما يحدث داخل المعاهد الأزهرية بمثابة نقلة تراعي ما بين الفن والدين من تكامل، وتتجاوز الطرح الوعظي التقليدي الخاص بجمهور المساجد، إلى الجمهور العام الذي تتم مخاطبته بلغة مختلفة وبطرح إنساني شامل نظرا إلى تنوعه العقدي والفكري”.
(العرب اللندنية)