مؤشرات كثيرة تدل على أن تنظيم داعش الإرهابي بدأ يعلن إفلاسه بعد الهزائم التي مني بها في الفترة الأخيرة. وأوضحت هذه المؤشرات أن داعش بدأ يعلن مسؤوليته عن عمليات إرهابية لم يرتكبها وذلك للإبقاء على تلك الصورة الدموية المخيفة التي يحب أن يرهب بها محاربيه ويكسب من خلالها ثقة مناصريه ويضم مقاتلين جددا إلى صفوفه، لكن صورته التي جند لها آلة إعلامية عند بداية ظهوره قد انهارت فبدأ يحاول إنقاذها عبر التضليل الإعلامي الذي لم يعد ذا جدوى.
لم تكد سيارات الإسعاف تنهي نقل 59 قتيلا وأكثر من 400 جريح، سقطوا في هجوم مسلح في مدينة لاس فيغاس الأميركية إلى المستشفيات في الثاني من أكتوبر الجاري، حتى أعلن تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" تبنيه للحادثة كاشفا عبر ذراعه الإعلامية، وكالة أعماق، عن أن منفذ الهجوم الستيني الأميركي ستيفن بادوك قد اعتنق الإسلام قبل أشهر عدة وأن اسمه الحركي أبوعبدالبر الأميركي.
ولم يمض وقت طويل حتى أعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي أنه لا وجود لمؤشرات تربط بين العملية ومنفذها وبين التنظيم الإرهابي.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يسارع فيها التنظيم إلى تبني عمليات قام بها غيره. ففي يونيو 2017، أعلن داعش عن تبنيه لهجوم مسلح استهدف مجمعا ترفيهيا بالعاصمة الفلبينية مانيلا سقط خلاله أكثر من 35 قتيلا، لكن لم تكد تمضي ساعات قليلة حتى أعلن قائد شرطة مانيلا، أوسكار البايالدي، عن أن المجمع يعاني مشاكل مالية وأن السرقة كانت الدافع وراء الهجوم، نافيا أي صلة للمهاجمين بالتنظيمات الإرهابية.
وقبل ذلك وفي مارس من العام نفسه تبنى التنظيم هجوما بواسطة مركبة دفع رباعي دهست مجموعة من المارة على جسر وستمنستر، في ساحة البرلمان وسط لندن.
وقالت وكالة أعماق التابعة للتنظيم إن المهاجم خالد مسعود جندي للدولة الإسلامية نفذ الهجوم تلبية لدعوات سابقة باستهداف رعايا دول التحالف الدولي مع أن الأجهزة البريطانية لم تؤكد حتى الساعة أي علاقة بين المهاجم وبين التنظيم الإرهابي. وهو في أقصى الأحوال ذئب منفرد نفذ عمليته منفردا بلا روابط تنظيمية أو حركية مع داعش أو غيره من التنظيمات.
صورة التنظيم المخيفة والدامية، قد بدأت تتهاوى وتتبدد على وقع الهزائم التي يتعرض لها أخيرا في أغلب ساحات وجوده
فلماذا يسارع التنظيم إلى تبني عمليات لم يخطط لها ولم ينفذها وليست له بها أي صلة؟ ولماذا تواتر هذا التبني المضلل خلال الأشهر الماضية؟
بدا واضحا أن صورة التنظيم المخيفة والدامية، والتي حاول أن يبنيها خلال السنوات القليلة من عمره، من خلال أحدث التقنيات السمعية – البصرية ومن خلال الإمعان في الفتك بالخصوم، والتي ساهمت في بث الرعب في الأعداء وجذب المزيد من الأنصار، قد بدأت تتهاوى وتتبدد على وقع الهزائم التي يتعرض لها التنظيم في أغلب ساحات وجوده.
خسارة الموصل، المدينة الرمز لداعش، كانت قاسية ومريرة، والهزائم المتوالية في الساحة الشامية على يد كل الخصوم، نظاما ومعارضةً شكلت ضربة موجعة، والقضاء على التنظيم في الساحة الليبية نهائيا، بدد أملا داعشيا بالتمدد في بلاد المغرب، إلى جانب ما تتكبده خلاياه النائمة هنا وهناك في أغلب الأقطار العربية والمهاجر الأوروبية يوميا على يد الأجهزة الأمنية بالملاحقة والسجن والتفكيك.
فالتنظيم الإرهابي الغريق بات يتعلق بقش التضليل الإعلامي كي يحفظ ماء وجهه الشرير، ولو كلفه الأمر طريق الكذب، فالكذب كالقتل، جائز عند الضرورة.
فالظاهر أن التنظيم ينتهج سياسة المسارعة بتبني أي عملية قتل أو دهس أو إطلاق نار في أي بقعة من جهات الأرض الأربع، معولا على هلاك المهاجم وأن الحقيقة ستذهب معه إلى المجهول، وبذلك يرسل أكثر من رسالة.
رسالة أولى موجهة إلى الأعداء، وخاصة الدول الأعضاء في التحالف الدولي لمجابهة الإرهاب، بأن “لا تغرنكم قوتكم ولا خسائر الميدان في سوريا والعراق، فنحن قادرون على ضربكم في عقر داركم، في أعرق ساحاتكم ومتاحفكم، وقادرون على بث الرعب في مواطنيكم وقتلهم بجريرتكم وضرب سياحتكم”.
رسالة ثانية إلى الأنصار، تطمئنهم على بقاء التنظيم حيا، رغم الهزائم، وعلى أنه مازال قويا وتبعث فيهم أملا بـ“فجر داعشي جديد”، لكنه ومن خلال الوضع الراهن لن يكون الأمر كذلك فلقد بدأ يأخذ طريقه نحو الاندثار.
لكن هذه السياسة الإعلامية الجديدة من داعش تكشف أيضا تخبطا واضحا في إدارة الأزمة التي يتعرض لها التنظيم، ويبدو أنها توحي بتفكك القيادة، أو حتى غيابها في ظل تواتر الأخبار بمقتل زعيمه أبوبكر البغدادي أو إصابته وتأكيدات بمقتل العشرات من قادة الصف الأول خلال العمليات العسكرية الجارية منذ أكثر من سنة في سوريا والعراق.
الأمر يذكر بخريف التنظيمات اليسارية في التسعينات، عندما كانت تسارع بتبني أي عملية خطف أو قتل في أوروبا
فالنظام الصارم والقوة الإعلامية، وخاصة البصرية ذات البصمات الهوليوودية المؤثرة التي ظهر بها التنظيم في سنته الأولى، أصبحت مفقودة تماما، ما يشي بأن هواة يسيرون الدفة الإعلامية في المركب الداعشي المشرف على الغرق.
ففي البدايات كان التنظيم يحيط عملياته الداخلية في مواقع سيطرته أو الخارجية بهالة كبيرة تحيل إلى وجود جهاز دعائي ضخم. وكانت العمليات توثق بشكل دقيق صورة وصوتا وحتى الهجمات الخارجية تدعم بمقاطع للمهاجمين يرددون فيها نص البيعة للخليفة البغدادي، ما يعطي الكثير من الصدقية لما يعلنه التنظيم من مسؤوليات عن عمليات هنا وهناك.
أما اليوم فبات قليلا جدا الإعلان عن عمليات إرهابية موثقة، حيث يكتفي “الإعلاميون الدواعش” بنص خبر صغير على موقع وكالة “أعماق” يعلن عن أن “أحد جنود الدولة الإسلامية قام بهجوم تنفيذاً لدعوات القادة باستهداف رعايا دول التحالف الدولي ضد الإرهاب”.
بات واضحا أن الحرب الوجودية التي يخوضها التنظيم على أثر من جبهة والهزائم التي يتعرض لها قد أنهكت هياكله القيادية، وجعلت آلته الإعلامية التي طالما تباهى بها واعتبرها أحد أمضى أسلحته، تستجير بسرقة “جهود الغير” الإرهابية كي يبقى التنظيم حاضرا في مشهد الدم.
وهو وضع يحيل إلى خريف التنظيمات الثورية اليسارية في تسعينات القرن الماضي، عندما كانت تسارع بتبني أي عملية خطف أو قتل في العواصم الغربية كي تقنع حفنة من أنصارها أنها مازالت قوية وقادرة على ضرب المعسكر الرأسمالي.
حتى أن تنظيما ثوريا، كان يعيش حالة من السبات منذ نهاية الحرب الباردة، استفاق فجأة عندما كانت طائرات القاعدة ترتطم بأبراج التجارة في نيويورك صباح الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتبنى الهجوم، لكن الوقائع كانت غير ذلك.
فداعش، أصبح مستعدا لارتكاب كبائر الإثم، وفقا للشريعة الإسلامية، كي يبقى محط الأنظار. ولا يخشى في ذلك أن ينفض من حوله أنصاره وداعموه، لأنه يعي تماما أنهم منقادون إليه بقوة الجذب العقائدي الدوغمائي، وتسليمهم الساذج بصدق كل ما يصدر عنه. ففي هذه البيئة الفاقدة للوعي النقدي تحيا أفكار التنظيم السطحية وتنمو وتكبر، وتتحول إلى آلة مرعبة، لا تسرق عمليات الغير فقط، بل تسرق أرواح البشر.
(العرب اللندنية)