بوابة الحركات الاسلامية : المفكر التونسي المنصف بن عبد الجليل : كل من حاولوا التجديد فى الإسلام خلطوا بين الدين والدّعوة (طباعة)
المفكر التونسي المنصف بن عبد الجليل : كل من حاولوا التجديد فى الإسلام خلطوا بين الدين والدّعوة
آخر تحديث: الأربعاء 11/10/2017 01:29 م
المفكر التونسي المنصف
اعتبر المفكر التونسي المنصف بن عبد الجليل  ان كل من حاولوا  التجديد فى الخطاب الدينى   قد وقعوا في هذا الخلط بين دراسة الدين بعدّه موضوعًا، والدّعوة إلى تأويل جديد للدين رسموا به اعتقادًا ظنّوه أصلح في وقتهم، وأنفع في موطنهم، وأبلغ بيانًا عن جوهر الرسالة المحمّديّة، وأذهب إلى أنّ جلّ علماء المسلمين، في القرنين التاسع عشر والعشرين خاصّة، قد فكّروا في مسألة التجديد الإسلامي اجتهادًا وتأسيس اعتقاد، فلا يخلو عملهم، مهما ظهرت علميّته، من نزعة إيمانيّة.
الكاتب التونسي  عيسى
الكاتب التونسي عيسى جابلي
وقال فى حواره مع الكاتب التونسي  عيسى جابلي  المراسل الصحفي الثقافي لدى صحيفة "ذوات"  الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلاحدود ،  والحاصل الأستاذية في اللغة والأدب والحضارة العربية بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس إنّ الفكرة الأساسيّة التي أسّست عليها هذه النخبة من المفكّرين نظرتها فى مفهوم "التجديد الديني"  تتمثّل، مرّة أخرى، في عدّ عدم وجود أيّ نصّ يتعالى على التّأويل، إذا عرضناه على أحوال النّاس الراهنة. أجل، كلّ النّصوص، بما في ذلك النصّ القرآنيّ، يجب أن تخضع إلى تأويل مغاير للتّأويلات السابقة، وإلى تجديد النظر، ولم تتردّد هذه الثلّة في ترسيخ مبدأ ثان، هو: إنّ العبرة في النصّ استقراء مقاصده وروحه، لا الوسائل التيّ توسّل بها لترجمة تلك الروح في عصور اقتضت ذهنيّاتها تلك الوسائل بالذّات.
 والى نص الحوار 
- يطرح مصطلح "التجديد الدّيني" إشكاليّات جمّة، أبرزها؛ إشكاليّة المفهوم، هلّا أنرتم هذا المصطلح؟ وما الفرق بينه وبين "تجديد الخطاب الدينيّ"؟
- في السّؤال قسمان: يتعلّق أوّلهما بإشكاليّة المفهوم، مفهوم "التجديد الديني" كما درج استعماله في الكثير من الدّراسات والمقالات ذات الصبغة التنظيريّة، ويجب، هنا، الحذر أمام الترجمات التي يرد فيها هذا المفهوم. وأعني، على وجه التمثيل، "تجديد التّفكير الدّيني في الإسلام" لمحمد إقبال، والحال أنّ العبارة الأصليّة باللغة الإنكليزيّة هي: (The Reconstruction of Religious Thought in Islam)، ويهمّ القسم الثاني من السّؤال تمييز الفرق بين التجديد الدّيني و"تجديد الخطاب الدّيني" مفهوميًّا، ونقترح أن نقدّم للإجابة عن القسمين بأن نلاحظ شيئًا من التّجاوز في استعمال المصطلح، ويتمثّل ذلك في نعت التجديد بالدّينيّ، وأهل الاستعمال يعنون الدّيانة الإسلاميّة، وبحكم اختصاصهم فالأدقّ أن يقولوا: "التجديد الإسلامي"، أو "تجديد الفكر الإسلاميّ"، وهكذا؛ لأنّهم لا يتطرّقون إلى غير الإسلام، من أديان كتابيّة أو شبه كتابيّة، أو صيغ تديّن أخرى منتشرة في بعض المواطن الإسلاميّة والعربيّة، كما نلاحظ في ذات السياق أنّ نعت التجديد بالدينيّ يمكن أن يوهم بشيء من الالتباس، يتمثّل في الخروج عن اتّخاذ الدين موضوع دراسة، ليتحوّل التجديد رسمًا آخر لعقيدة يدعو صاحب التجديد إليها.
وأظنّ أنّ الكثير ممّن طرقوا مسألة التجديد قد وقعوا في هذا الخلط بين دراسة الدين بعدّه موضوعًا، والدّعوة إلى تأويل جديد للدين رسموا به اعتقادًا ظنّوه أصلح في وقتهم، وأنفع في موطنهم، وأبلغ بيانًا عن جوهر الرسالة المحمّديّة، وأذهب إلى أنّ جلّ علماء المسلمين، في القرنين التاسع عشر والعشرين خاصّة، قد فكّروا في مسألة التجديد الإسلامي اجتهادًا وتأسيس اعتقاد، فلا يخلو عملهم، مهما ظهرت علميّته، من نزعة إيمانيّة.
- ماذا يعني "التّجديد الديني" على لسانهم، وإن قصدوا تجديد الفكر الإسلاميّ؟
يقف المرء على واحدة من الدّلالات التّراثيّة، اقتُطعت من حديث منسوب إلى الرّسول يعرف بـ"حديث التجديد"، وعبارته أنّ الله يبعث على رأس كلّ قرن (أو على رأس مائة عام) من يجدّد للأمّة أمر دينها، وهو حديث وضعه أهل الانتحال لتحقيق غرضين: معارضة الفكرة المهدويّة في التراث الشّيعيّ الإماميّ خاصّة، أوّلًا، والتّحايل على التلطيف من الدّلالات الزجريّة التي حملها مصطلح البدعة موصولًا بالإحداث والضّلالة، كما جاء في الحديث المنسوب إلى الرسول أيضًا، ثانيًا.
ويستعمل التجديد، أيضًا، بمعنى إحياء الدّين وتطهيره، كما جاء في عبارة وحيد خان في كتابه "تجديد علوم الدّين"؛ الذي حرّره بالأورديّة سنة 1978، ونقل إلى العربيّة سنة 1986، ويُظهر أنّ عددًا كبيرًا من علماء المسلمين في القرون السابقة واليوم قد تبنّوا هذا الفهم، وتعدّ المقالة الوهّابيّة أحد المسارات التي تتنزّل في هذا الأفق.
وعلى العكس من هذا المذهب؛ يتجلّى رأي آخر جدير بالتنويه، في مقال أمين الخولي المنشور في مجلّة الرسالة سنة 1933 تحت عنوان "التجديد في الدّين"؛ إذ أقبل الخولي على إعادة النّظر في النصّ القرآنيّ والمرويّ عن النبيّ تحت مجهر المعطيات الحديثة وضوابط الواقع المعاصر، وكأنّما تبنّى على أساس من التحليل المنطقيّ والنظرة الحصيفة، أنّ التجديد في التفكير الدينيّ؛ هو إعادة بناء منظومة فكريّة ذات معنى ووظيفة في واقعنا المعاصر حيث رؤية الحداثة وتبعاتها تلوّن عناصره الأساسيّة، كذلك فهم محمّد إقبال (1877 ـ 1938) مسألة "التجديد الديني" في الإسلام على أنّها إعادة بناء، أي استحداث، نظريّة جديدة.

إنّ هذا الموقع هو تمامًا موقع أهل "الإصلاحيّة الثانية" كما أشار إلى ذلك عبده الفيلالي الأنصاري عن صواب (Réformer l’islam? Paris, Editions la découverte, 2003, pp.238-241)، وهذه الإصلاحيّة لا تهتمّ باتّباع "السّلف الصّالح"، ولا ترى من مهمّتها تطهير الدين والعقائد ممّا أصابها من "بدع" وآفات تلوّثت بها روحها الناصعة؛ إنّما مهمّتها الفكريّة الجليلة أن تراجع السّنن الفكريّة التّي وطّد لها السّلف، مراجعة نقديّة صارمة، وأن تختطّ لنفسها طريقًا ليست بالمعبّدة ولا بالآمنة، إلى اكتشاف قيم الرسالة المحمّديّة في صيغتها القرآنيّة، وترجمة النبيّ لها ترجمة تاريخيّة تأخذ بالشّأن الآني، من ناحية، وبالبعد الإنسانيّ الكونيّ، من ناحية ثانيّة. وتستلهم بذلك مبادئ الديّن استلهامًا تاريخيًّا- أخلاقيّا، فلا يعيش الضمير الإسلامي الصّادق منشطرا إذا تحقّقت تلك المراجعة بإخلاص للعلم ووفاء للعصر.
إنّ التحوّل الأساسي في نظرة "الإصلاحيّة الثانية" يتجاوز الانشغال بمسألة الهويّة، حتّى عدّها أمثال ع. الشرفي مسألة زائفة (ع. الشّرفي، الوفاء المزدوج للدّين والحداثة، في قضايا إسلاميّة معاصرة، العددان 24 و25، 2003م، ص 74- 75)، ويتمثّل هذا التحوّل في الاعتياض عن بنية فقهيّة زجريّة للديّن إلى أخلاقيّة تحقّق به الرسالة غايتها الجوهريّة من الترقّي بالذّات البشريّة إلى أرقى طاقاتها الخلاّقة تحقيقًا للخير والسعادة.
في هذا الأفق الفكري والنظريّ تتنزّل مثل رؤية محمّد إقبال في مقالته في اكتمال النّبوّة، ومنها استلهم الشرفيّ رأيه حين صرّح لمحاوره في مجلّة قضايا إسلاميّة معاصرة: "فختم النبوّة معناه أن يتحمّل الإنسان مسؤوليّته كاملة، وبدون وصاية من طرف ما، أيًّا كانت الذّرائع التي يقدّمها" (قضايا إسلاميّة معاصرة، العددان 24- 25، صيف وخريف، 2003م، ص 68)، وكذلك الشأن عند مفكّر تونسيّ آخر هو محمّد الطّالبي (1923- 2017) حين كرّس جهدًا لافتًا للدّفاع عن "قراءة سهميّة" للقرآن، معبّرًا في أكثر من مناسبة عن أنّ صدق الضمير وانتحال الحرّيّة دينًا، وتمثّل مقاصد القرآن الأخلاقيّة والإنسانيّة هي أعظم وأخطر على المسلم من اتّباع السلف والتسنّن بمذاهبهم؛ بل لم يتردّد في الدّعوة إلى ترك الفقه جانبًا من أجل مراجعة تاريخيّة روحيّة لقيم القرآن الأصليّة، وهي نظرة تستبطن ما ساقه مفكّر باكستاني، فضل الرحمن (1919- 1988)، في "الإسلام والحداثة"، من ضرورة مباشرة النصّ القرآنيّ على أساس حركة مزدوجة الاتّجاه: أن يوصل النصّ بإطاره الذهنيّ والاجتماعيّ لاستقراء الدلالات الأصيلة لخطاب الرسالة، واستخراج القيم الأخلاقيّة العامّة من ناحية، ثمّ التحوّل إلى الواقع الرّاهن لترجمة تلك القيم بما يناسب انتظام النّاس في مجتمعات حديثة من ناحية أخرى، وإنّه من اللّافت أن يذهب فضل الرحمن إلى ذات الموقف من ضرورة الاستغناء عن المؤسّسة الفقهيّة وقيود المتكلّمين؛ لأنّها ضيّقت مقاصد الدّين بالضوابط التي استحدثتها.
لا يذهبنّ بنا الظنّ في هذه الرؤية العامّة المنقطعة إلى المراجعة الجذريّة للدّين على أساس ابتكار تأويليّة جديدة، أمر خاصّ بالمنطقة العربيّة، أو بالمفكّرين الذين شكّلت عقولهم ثقافة المستشرقين، فليس الأمر كذلك البتّة؛ ففي الأفق الإيراني أمثلة كثيرة أصبحت الآن معروفة، مثل؛ الشّيخ محمّد مجتهد شبستري، وعبد الكريم سروش اللّذين، وإن اختلفا في التطبيقات والنتائج، فإنّهما لم ينكرا ضرورة البحث في المقاصد الأخلاقيّة للدّين وحتميّة المراجعة النقديّة لكلّ التراث الحاجب للنصّ باعتباره خطابًا حيًّا ذا معنى؛ ولا معنى لذلك النصّ إلّا إذا في تنزّل من جديد إطار الواقع الرّاهن، هكذا يعدّ كتاب شبستري، مثلًا، "هرمنيوطيقيا القرآن والسنّة"، الصّادر سنة 1996، كتابًا ذا دلالة بليغة بمعيار الثقافة الإيرانيّة الحاليّة خاصّة.
ويندرج في رؤية الإصلاحيّة الثانيّة بعض المفكّرين الأندونيسيين، وهم من وسموا، ربمّا عن حقّ، بمفكّري "الإسلام الليبرالي"، من بينهم: نور خالص مجيد، وعبد الرحمن وحيد، ومنسّق شبكة الإسلام الليبيرالي حاليًّا، أولي الأبصار عبد الله الذي أصدر عطية علي رئيس ندوة علماء أندونيسيا في شأنه فتوى بقتله إثر مقال نشره بصحيفة "Kompas Daily" الأندونيسيّة، في 18 نوفمبر 2002.
إنّ الفكرة الأساسيّة التي أسّست عليها هذه النخبة من المفكّرين نظرتها تتمثّل، مرّة أخرى، في عدّ عدم وجود أيّ نصّ يتعالى على التّأويل، إذا عرضناه على أحوال النّاس الراهنة. أجل، كلّ النّصوص، بما في ذلك النصّ القرآنيّ، يجب أن تخضع إلى تأويل مغاير للتّأويلات السابقة، وإلى تجديد النظر، ولم تتردّد هذه الثلّة في ترسيخ مبدأ ثان، هو: إنّ العبرة في النصّ استقراء مقاصده وروحه، لا الوسائل التيّ توسّل بها لترجمة تلك الروح في عصور اقتضت ذهنيّاتها تلك الوسائل بالذّات.
إنّ جوهر المهمّة التي يلتزم هؤلاء المفكّرون بأدائها هو المحافظة على المبادئ الإنسانيّة والكونيّة للنصّ وابتكار الوسائل العصريّة لتحقيق تلك المبادئ، لعلّ في ضرب بعض الأمثلة ما يشرح طرافة هذه الرؤية:
إنّ نور خالص مجيد، مثلًا، يرى أنّ الإسلام تعدّدي، ولا يمكن إلّا أن يكون كذلك؛ لأنّه يقبل التنوّع باعتباره واقعًا اجتماعيًّا حيًّا ومفيدًا للجميع، على هذا الأساس يقدّم نور خالص مجيد تأويلًا طريفًا للآية [3: 19]: {إنّ الدّين عند الله الإسلام}، على أنّ المقصود هو أنّ الديّن، أيّ دين، هو الإخلاص لله، والأديان كلّها سواء في ذلك: اليهوديّة، والمسيحيّة، والإسلام. ويسترسل قائلا: "إنّ كلّ مؤمن بالله، فاعل للخير، مستقيم النفس والخلق؛ هو مسلم روحًا، إضافة إلى اليهوديّ، والمسيحيّ، والمجوسيّ، فإنّ عبدة الأصنام في الهند، والصّين، واليابان هم أيضًا أهل كتب، يمكن للمسلمين التزوّج ببناتهم"، وإثر هذه الرؤية سار أولي الأبصار عبد الله، فرأى أنّ قيم الخير حيث كانت، هي قيم الإسلام، أي قيمة الطّاعة للّه وتقواه، والأديان كلّها في ذلك سواء؛ بل يضيف أولي الأبصار أنّ كلّ أشكال التمييز بين الناس على أساس الدين والمعتقد يجب أن تزول؛ إنّما منع زواج المسلمة من غير المسلم أمر لا معنى له، ويجب أن يزول أيضًا؛ لأنّ نظرة القرآن إلى النّاس هي نظرة المساواة بينهم جميعًا: كالأسرة الواحدة التيّ تنوّعت في أفرادها، ومشاربها، وطرق التماسها للخير وتحقيق مقاصده. 
إنّ اشتراك هؤلاء المفكّرين، أيًّا كانت مواطنهم من العالم الإسلاميّ، في قواسم أساسيّة من هذه الرؤية التاريخيةّ، النقديّة والتحرّريّة، من سلطان السّلف، ليدلّ على أنّ سؤال الإصلاح وأفق التجديد المشرع قد ارتبطا بمرجعيّة الحداثة، بعدّها مغامرة استكناهيّة لا تقف عند حدّ، وهذا نقيض البنية الكلاميّة التراثيّة لمفهوم الإيمان حين يصرّح في حديث منسوب إلى الرّسول: "المؤمن كالجمل الأنِف، إذا قيد انقاد"، ولعلّ أخطر النتائج التي قد ينفذ إليها البحث على أيدي هذه الثلّة التي ذكرنا وغيرها تتجلّى في المسائل التطبيقيّة التي انكبّ البعض على تدارسها في غير ما خشية: عارض محمّد الطّالبي الفهم العامّ لتأديب المرأة بالضّرب كما جاء منصوصًا في القرآن، نافرا من النظرة الدونيّة التي سنّها الفقهاء وشرّعوا لها، حتّى باتت من عوائق التنمية في العالم الإسلامي اليوم، وجاهر فضل الرحمن بمعارضته للعبوديّة واسترقاق النّاس، وإن كان القرآن قبله، والفقهاء رسّخوه بأحكام مجحفة ومخجلة أحيانًا، أمّا موقفه من ميراث المرأة؛ فقد ترك الباب مفتوحًا للمراجعة سدًّا لباب النقمة عليه، وإن لم يتحصّن منها. وأنكر مفكّر تونسيّ آخر هشام جعيّط أن يكون لقصّة الغار أيّ معنى، وأنّها من اختلاق القصّاص، وهو ما أثار نقمة البعض عليه. أمّا الشرفي فلم يتوان عن إعلان أنّ الصّوم ليس فرضًا إذا تيسّر للمسلمين الاعتياض عنه بإطعام المسكين، وهو ما يخالف صراحة مذاهب كلّ الفقهاء، والتديّن الشعبيّ الذي تستند إليه سلطة الفقيه والمفتي معًا، فضلًا عن سلطة السّائس أحيانًا كثيرة.
والظاهر من هذا العرض أنّ مفهوم التجديد موصول من خلال علاقته بمفهومين آخرين، هما؛ الإصلاح (أو الإصلاحيّة) من ناحية، والحداثة (أو التحديث) من ناحية أخرى، وإذا كان ما يسمّى بـ "التجديد الديني" لا ينصّ صراحة على مرجعيّة التفكير؛ فإنّ كلًّا من الإصلاح/ الإصلاحيّة، والحداثة/ التحديث، ينصّ على مرجعيّتين مختلفتين، تتمثّل مرجعية المصطلح الأوّل في البناء على ما "أبدع" التراث، وأسلمة كلّ حادث خارج الفكر الإسلامي وسنن تراثه، فهو، إذن، تجديد من داخل المنظومة الإسلاميّة ونسقها التفكير، أمّا مرجعيّة التحديث فمرجعيّة فكريّة أخرى تجمع كلّها في فلسفة الحداثة (الأروباويّة) المؤسّسة على قلب نمط السلطة من هرميّة المقدّس فما دونه، كما في الإصلاحيّة، إلى سلطة الأدنى فما فوقه، على التدريج، ومعناه أنّ المرجعيّة في هذا الباب مرجعيّة ثقافيّة، يمنحها الناس بإرادتهم واختيارهم وتفكيرهم في الأصلح البادي، لا مرجعيّة الإيمان بعقيدة يؤمن بها الناس ويرضون بتبعات من يمثّلها، لا على أساس اختيارهم؛ بل على أساس إيمانهم. والحاصل من هذا كلّه: أنّ مفهوم التجديد يجلّي إشكاليّة دقيقة هي حرج التباين بين ما ظنّ كافيًّا شافيًّا لازمًا وحاجيًّا لنهضة المجتمعات بالإسلام والحقيقة الربّانيّة، وفساد ما دون ذلك وخسرانه، من ناحية، ونهضة الأمم الأخرى بغير الإسلام، وسيادتها على العالم؛ بل احتلالها المسلمين، واستمرار أفولهم وتراجعهم من ناحية أخرى، والتفسير الذي تواتر على ألسنة المسلمين؛ هو سوء اتباع الدين في رسالته وأصل منابته، وما من حلّ سوى تجديد التفكير الإسلامي بالبعد عن البدع والإحداث، أو بالأخذ بأسباب النموّ بما يوافق الديانة، أو بالعودة إلى أصل الرسالة، وكلّها ذات غاية تجديديّة واحدة، أمّا غير المسلمين، وبعض من أهل الحضارة الإسلاميّة فظنّوا أنّ تراجع المسلمين وفساد أحوالهم يعودان إلى مقالات الدين نفسه، ورؤيته في الإنسان، ونوع التشريع لانتظامهم في العصر. التجديد هو: بحث في المواءمة بين ما يستصلح به الدين في عالم متغيّر، ويتحقّق من ذلك تحسّن أوضاع المسلمين، ولم يحدث ذلك منذ قرون من الزمن في العالم العربيّ، في حين ظهرت نهضة في غير العالم العربي من بقيّة العالم الإسلامي، مثل أنونيسيا، ولهذا تفسيره المهمّ، سنعود إليه لاحقًا.
ذاك ما يسعني بيانه في شأن إشكاليّة المفهوم والمصطلح.
أمّا أن نفرّق بين مصطلح "التجديد الديني" من ناحية، ومصطلح "تجديد الخطاب الدينيّ" من ناحية أخرى؛ فذلك ممّا يقف على صلة الأصل بالتابع المهمّ في الظاهر؛ لأنّه إذا كان يعنى بالتجديد على لسان المفكّرين والعلماء؛ معاودة استقراء القرآن والسنّة وما رسم على حاشيتيهما من الآثار من أجل صياغة فهم للأشياء الطارئة، والسنن الجارية، والأوضاع المتشكّلة لا تنقطع عن مسار عصرها، ولا عن مقام راهنها، ولا عن معارف جيلها، ولا عن ذهنيّة عالمها؛ فإنّ التجديد الدينيّ، على العموم، هو ابتكار الرؤى التي يكون بها المصدر والأثر ذوي معنى لم يسبق، ولا سبيل إلى ذلك إلّا بتأريخيّة تامّة ودقيقة، بما في ذلك ما عدّه المسلمون مقدّسًا؛ لأنّ ما يُعدّ مقدّسًا إذا تشكّل لغة ولسانًا، لا ينفصل عن السياق التاريخيّ والمقام التواصلي، ويضحي السامع والمخاطب، وهو متكلّم أصلًا، طرفًا في تشكّل الدلالة.
ذاك ما عنيناه بالأصل، أي معنى التجديد الديني وغرضه، أمّا التابع المهمّ؛ فهو أن يقتضي ذلك الابتكار في مضمون الرؤى، واستقراء القرآن والسنة والآثار صياغة خطاب يكشف بناؤه مقدّمات تلك الرؤى، ووجه الحجّة فيها، ونوع المقايسة المجراة، ومسافة الابتعاد عن القديم الراسخ، ويترجم ذلك كلّه في مفاهيم واصطلاحات لا عهد للناس بها، ولكلّ رؤية قديمة أو حديثة تشكّل في خطاب، وذاك جزء من جريانها، وجوابنا على المسألة المطروحة: أنّ التجديد الدينيّ، أو لنقل تجديد الفكر الإسلاميّ، يقتضي حتمًا تابعًا مهمًّا؛ هو تجديد الخطاب الإسلامي. -  ما جدوى هذا المفهوم في ظلّ الحديث عن "ثوابت دينيّة" و"مسلّمات" و"متّفق عليه" و"مجمَع عليه"؟
مسألة الثوابت الدينيّة والمسلّمات، والمتَّفق عليه، والمجمَع عليه، مقولات اعتباريّة وحجاجيّة لا يخلو منها خطاب، سواء نسب إلى الدين أو إلى غيره. أردت أن أقول: تلك مقولات من صنف بنية الحجاج المرسل في التأليف، سواء كان نصًّا مكتوبًا، أو تعبيرًا شفويًّا، وأريد، مع ذلك، أن أوضّح بعض الجوانب المساعدة على اقتناص الجواب عن السؤال: ما جدوى مفهوم التجديد الديني أمام القول بالثوابت والمسلّمات وما إليهما؟
الثوابت الدينيّة تُحمل، عادة وبالإجمال، على المحكَم والمنصوص والصريح والأصول، وتردّ - في الغالب - إلى المسائل الاعتقاديّة والأحكام التي لا التباس فيها، ولسنا نرى أفضل من مثال دعائم الإسلام وأركان الإسلام، وهل يشكّ مسلم اليوم في ثبوت هذه الأصول، وأنه لا اجتهاد فيها ولا استقراء ولا تأويل، ذاك ما أنشأته السّنيّة السنيّة، وأضافت إليه السنّيّة الشيعيّة مسألة الإمامة والولاية، وعدّتها أصلًا ثابتًا أيضًا، ولو كان الأمر على هذا الوجه من التبسيط والاختزال المخلّ، تُرى لماذا افترقت الأمّة على فرق شتّى تكفّر إحداها الأخرى، والكلّ محتجّ بالآية نفسها والثابت نفسه، جوابنا: إنّ الثابت، أو ما نعدّه ثابتًا، لا يقوم بذاته؛ إنّما بالكيفيّة التي يستقرؤه بها صاحب المقالة؛ لذاك نرى مقالة مثل مقالة الشهرستاني وجيهة، حين لاحظ أنّ المسلمين قد اختلفوا في الأصول، على خلاف ما قال كثرة الناس من أنّهم اتّفقوا في الأصول واختلفوا في الفروع. رأيي أنّه لا وجود لثابت مهما كان؛ لأنّ المسلمين قد احتجوا بثبوتيّته دفاعًا عن تأولهم لذاك المعتَبر ثابتًا، وقولهم فيه بمقالتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة. انظر إلى الحنبليّة؛ تر أنّها كفّرت من قال بخلق القرآن، ولم تأخذ بإيمانه القول بالأركان والدعائم، وكذا فعلت المعتزلة، ولم تخرج المرجئة عن هذا المذهب في التفكير، ولا القدريّة، ولا المتصوّفة، ولا أهل المقالات الشيعيّة، والحاصل أنّ الثوابت الدينيّة وهم واشتقاق للضرورة الحجاجيّة.
أمّا المسلّمات فأمرها أوضح؛ لأنّها محلّ اشتراك بين الجميع، وهل يخلو تفكير من مسلّمات اعتباريّة يُبنى بها النظر ويقوم عليها؟ ودور التجديد على النّحو الذي شرحنا أن يعرّي تلك المسلّمات، ويستبدلها بغيرها أكثر وجاهة، بما يقتضي تجديد الخطاب، ويعدّ نقد تلك المسلّمات، في كلّ الأحوال، جزءًا من تأسيس لرؤية غير التي سبقت، وتُعدّ المسلّمة الخطيرة القائلة بأسبقيّة الشرع على العقل، والدّين على الإنسانيّة، وأنّه لا أخلاق ولا استقامة إلّا بالدين، مسلّمات متهافتة بالمشهود الحيّ والأمثلة التاريخيّة الصريحة، وليعلم المسلمون اليوم أنّ مقوّمات الإنسانيّة هي أسبق وضعًا من التّديّن، ولا علاقة للأخلاق بالدين، وإلّا عدّ غير المسلم اليوم أبشع الخلق، والحجّة على العكس باهرة، وإلّا لما فرّ أهل التشدّد من المسلمين من ديارهم ليستقرّوا في بريطانيا وغيرها ممّا عدّوها هم أنفسهم دار الكفّار.

 ترى أنّ أمر المسلّمات، أيضًا، مسألة إيمانيّة حجاجيّة هي من باب التشريع لمقالة والبحث عن سيادة.
أمّا ما ذكر السّؤال من أمر المتّفَق عليه والمجمَع عليه؛ فمنه ما يخصّ الأحكام، ومنه ما يخصّ الأصول الاعتقاديّة، والكلّ راجع إلى حديث منسوب إلى النّبيّ: (أن الأمّة لا تجتمع على ضلالة)، ويعلم أهل الدراية بتاريخ الفكر الإسلاميّ أنّ مفهوم الإجماع والاتّفاق على الأصول والأحكام أمر اعتباريّ أيضًا، يستعمل للاحتجاج، ويكفي الدارس أن ينظر في اختلاف الأصوليين في مسألة الإجماع، هل تمّ فعلًا؟ ليقتنع بأنّه مسألة وهميّة؛ بل هل يوجد شيء إجرائيّ عمرانيّ يسمّى "الأمّة الإسلاميّة"، هذا الاصطلاح، مرّة أخرى، هو تركيب لنموذج سرعان ما تهاوى أمام الافتراق، ونشأة النحل والمقالات، ونعلم جيّدًا أنّ كلّ فرقة تدّعي أنّها الأمّة وأنّها الجماعة وأنّها الناجية، ولا أظهر من كون ذلك كلّه مسألة حجاجيّة، فالتاريخ والدراسة الأنثروبولوجيّة تعرّي هذا التخفّي بمفهوم الأمّة بغرض الدفاع عن الذات والتشريع للمقالة، وإنكار الغيريّة والحقّ في الاختلاف. رأيي؛ أنّه لا وجود لـ"مجمَع عليه"، ولا لـ"متَّفق عليه"، وهو ما يفسّر إلغاء الفكر الإسلاميّ التقليديّ والحديث مفهومَ الغيريّة والتوابع لهذا الرؤية صريحة اليوم في حاضرنا البائس، لا تتجلّى في التشتّت والتناحر؛ بل في القتل على وجه النحر الذي يرافقه التكبير باسم الله.
- منذ قرنين من الزمن، تقريبًا، والعالم العربي الإسلامي يتحدّث عن تجديد دينيّ، ما تقييمكم لما توصّل إليه الدارسون في هذا المجال نظريًّا؟ هل تمكّنت الدراسات الدّينيّة من المنشود نظريًّا؟ وما مدى فاعليّة هذا المنجز النظريّ في الواقع العربيّ الإسلاميّ في نظركم؟

- يمكن أن ننطلق في الإجابة من رأي ساقه رضوان السيد، على مخالفتنا له في بعض التقدير.أشار في كتابه "الصراع على الإسلام" إلى موقفين جديرين بالتنويه:
- يقول في الأوّل منهما: "لم يفشل مشروع الإصلاح الإسلامي كليًّا، لكنّه مضى وانقضى، وتحقّقت بعض مطالبه وتطلّعاته، ولم يتحقّق البعض الآخر، لكنّ البارز - كما قلت - أنّ الأصوليّة الإسلاميّة أحبطت اندفاعاته، وانصرفت لافتراس التقليد الإسلامي والحلول محلّه، وأريد هنا أن ألاحظ أنّه لا علاقة بين الإصلاح الديني والإصلاح السياسي، إنّها حيلة السلطات والليبراليين الجدد"[1].
- ويقول في الثاني: "... إننا لا نملك في الفكر العربي والإسلامي المعاصر رؤية للعالم، لا بالمعنى النظريّ، ولا بالمعنى الإستراتيجي/ السياسي، وإذا شكّل ذلك جانبًا من جوانب الأزمة في علاقة بالعالم، فإنّه، من جهة أخرى، ينمّ عن قصور معرفي شديد يقع في أصل الأزمة المتفجرة، ويشمل الوعي بالعالم والتعبير عنه"[2].
لا نرى في شأن الموقف الأوّل إمكان الفصل بين إصلاح الفكر الدينيّ والإصلاح السياسيّ؛ لأنّ المعضلة هي إصلاح الفكر والنظر أصلًا، ولا يُتَوهّمن أحد أنّ الإصلاح السياسي شأن حاصل بمجرّد استحداث الضوابط التشريعيّة والقوانين التقدّميّة؛ إنّما ذلك حاصل في الناس برسوخ ملكة الحريّة والقدرة على المواطنة والمدنيّة والتفكير ضمن رؤية تعدّديّة تكون الغيريّة ناظمًا شاملًا لطبائع الأفراد ومقارباتهم في فهم الأشياء، ولا نحسب هذا متأتّيًا عاجلًا، ولا بقرار إلّا أن تُربَّى النفوس عليه، وتُنشَّأ الأجيال في المدارس والجامعات والمؤسّسات على وقعه، وهل التفكير الدينيّ إلّا جزء محدود من الرؤى التي يحملها الإنسان ويواجه بها حياته في كلّ آن.
إنّ موقف المفكّر رضوان السيّد مازال متشبّثًا بتقديره لمنـزلة الدين من المجتمع والفكر الديني، خصوصًا، من الرؤية الفلسفيّة العامّة التي يتفهّم الإنسان الوجود من خلالها، وهنا نذهب إلى عكس مقالته تمامًا، دون اعتبار ذلك حيلة من السائس أو الليبيراليين الجدد!
أمّا الرأي الثاني؛ فنراه مهمّا للغاية. نعم! إنّ السبب في فشل المشروعات الإصلاحيّة والتحديثيّة هو فقدان رؤية للعالم، لكنّنا نعني رؤية أصيلة مجذّرة في حياة الإنسانيّة المعاصرة بكلّ طبائعها ومعارفها وتحدّياتها، أمّا الحديث عن فقدان رؤية للعالم بإجمال فليس التقدير صحيحًا، وقد حمل كلّ المفكّرين المسلمين رؤية للعالم، ورضوان السيّد نفسه يصدر رأيه عن رؤية ذكيّة وطريفة للعالم والشأن الإسلامي فيه، لكنّ المشكلة أنّ السبب في بقاء تلك الرؤى (ونستثني رؤية ر. السيد) بلا مجيب أنّها رؤى متوتّرة لا تعي الحياة المعاصرة، بعد أن شكّلت الحداثةُ أَوَدَها وخالطت نسغها.
إنّ ذلك التوتّر هو الذي دعا بعض المفكّرين ليعاودوا الكرّة، ومنهم رضوان السيّد، دون أدنى شكّ[3]، إنّه لمن اللّافت أن تظهر مثل هذه الثلّة في الآفاق المتباعدة من العالم الإسلاميّ، نذكر منهم، على سبيل الإرشاد والتمثيل، تلك الكوكبة التي أفرد لها عبده الفيلالي الأنصاري، وكذلك رشيد بن زين كتابين[4]، ولا يسع أن نغفل الأعلام الذين ساهموا مساهمة طريفة وجليلة في مجلة "الاجتهاد" البيروتية، ولا شكّ في أنّ حصيلة الأعمال التي أنجزها رضوان السيد والفضل شلق تحتاج اليوم إلى تقييم جديّ من جهة الدلالة على رؤية للعالم، تحقّق غرض التحديث الفكري والحضاري، ونظن أنّ المؤلَّفات التي وضعها باحثون، مثل الباحث سيد محمد أحمد سيد[5]، والمقالات التي نُشرت إثر لقاء مع المفكر الباكستاني إقبال أحمد (المتوفَّى في 11 مايو 1999 في إسلام آباد)، لجديرة بالاهتمام في هذا الصدد[6].
وإذا ركّزنا على العالم العربي؛ تبدو الحصيلة - مع ذلك - هزيلة! نعم عرف القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ما سمّاه عبده فيلالي الأنصاري "الإصلاحيّة الأولى"، وعرفت الفترة اللاحقة محاولات أصحاب الإصلاحيّة الثانية، ويجب التمييز بين مقالات عبده والأفغاني، ورشيد رضا والكواكبي ومن سار على نهجهم، وكانت غايتهم أن يجدوا معنى لما كان يحدث في وقتهم من تقدّم الأمم (الأوروباويّة) وضمور السيادة الإسلاميّة، أو أفول ما ظنّوه مستقيمًا في الإسلام، ووجدوا بأمّ العين والممارسة عكس ذلك تمامًا، فكانت تأمّلاتهم تصوّب نحو الاقتراض، والاقتراض دون رؤية صانعة للأصل معضلة كبرى.
أمّا الجيل أهل الإصلاحيّة الثانيّة، وإن صوّبوا أيضًا نحو الحداثة؛ فقد كانوا في الصميم أهل توفيق أو تحديث الإسلام، يقصدون تحديث الفكر الإسلامي، وبلغ الحدّ بفريق اقتفى أثر المفكّر الفلسطيني المقيم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة إسماعيل راجي الفاروقي (المتوفّى في 27 مايو 1986 في بنسلفاينيا) القائل بأسلمة المعرفة تحديثا للفكر الإسلاميّ، وإنشاءً لرؤية حداثيّة للعالم من صلب الخطاب القرآني والسيرة النبويّة، والأثر على حاشيتيهما، والنتيجة أنّ بقي العالم العربيّ عاجزًا عن استيعاب الفكر الحداثي، متجنّيًا على الحضارة الأوروباويّة، وما شاكلها من الصيغ الأخرى في المواطن غير الأوروباويّة، والحاصل أنّ الارتداد إلى التراث يقرأ ويستحضر على علاّته وعواهنه، أكاد أقول: إنّ الحصيلة، من حيث الأثر في المجتمع والفكر والتّدبير السياسيّ كانت ضئيلة، ومازالت، ويمكن أن يُلاحَظ أمران بارزان لا يحتاجان إلى كبير تدبّر: أوّلهما: تضخّم الذّات الإسلاميّة، واستمرار الإيقان بمرجعيّتها وأهميّتها بين الحضارات الإنسانيّة، يدلّ على ذلك الجدل الوهميّ حول الهويّة، وحرص الدّساتير على التّشريع للحكم بها، والثّاني: اندراج الفكر الإسلامي في العالم العربيّ ضمن أفق الوثوقيّة، والتكبّل باستحضار الماضي، والتوقّف عن الجرأة على الحاضر، وخوض مغامرة البحث والمراجعة، والتّرجمة العمليّة لهذا السلوك المعرفيّ احتقار العلوم الإنسانيّة ضمن مشروعات التربية والتعليم، وهجر الفلسفة أصلًا، إلّا لمامًا، والعمد إلى اقتصاد الخدمات بما يحقّق سدّ الرمق اليومي، والقصد إلى التدبير السياسي بالاستبداد، ظنًّا بأنّ من حكم سلطان قدّره الله، ولو لم يره الله أهلًا لذلك، ما تركه وإيّاه. التدبير السياسي على غير شرعيّته من سيادة الناس ورضاهم به، ومغالطة الرعيّة بشرعيّة وهميّة، وإنكار حقوق الحريّة، والعدل، والمساواة؛ بل إنكار الغيريّة وأصالتها، إنّما يمثّل ذلك كلّه تعبيرات ملموسة عن مأزق تجديد الفكر الإسلامي في الأفق العربي، فهي سلفيّة تحيا في غير مواطنها، وبغير روحها التي نشأت عليها، وخارج موطنها التي ظهرت فيها، وفي هذا الاستحياء - على وجه الاستحضار - تجنّ على ما مضى بسوء استقرائه، وغيابه عن الحادث بالفزع إلى غير ذهنيّته، والعمل بغير معارفه، ذاك ما أنتجته الإصلاحيّتان الأولى والثانية، رغم ادّعاء الكثير من الحداثيين ابتكار رؤى نقديّة تعدّ منعرجًا في تأسيس حضارة الإبداع، لا استمرارًا لسنّة الاتّباع.
إنّ نظريّة تطهير العقيدة ممّا أصابها من البدع، وتخليص الأحكام من خروجها عن المقصد الإلهي؛ بل نظريّة المقاصد كلّها، إنّ كلّ ذلك ليس سوى تخريج سقيم يمنح الفكر الإسلاميّ التقليديّ قدرة على الاستمرار والتأثير في مواطن فقد دلالته الأصليّة فيها، ومن الغريب أن يدّعي أيّ مفكّر اليوم درايته الدقيقة بالمقاصد، وهو يستقرئ نصوصًا عويصة العلاقة بمحيطها، ومن الغريب - أيضًا - أن يدّعي أيّ مفكّر فهم الرسالة المحمّديّة في أصليّتها ومنابتها، والنصّ القرآني مازال في حاجة إلى ترتيب خطابه، وضبط آياته، وفهم منابته، فضلًا عن مزيد التثبّت من صفة لغته، وعليها نقاش شديد، ويستنتج بعض المفكّرين اليوم قيم الحداثة من أصل الرسالة، عندما يظنّون أن الأصل في الزواج - مثلًا - الأحديّة لا التعدّد، غريب هذا الاستنتاج، وغريب قولهم في العدل، وغريب قولهم في المساواة، وغريب قولهم في حقوق المرأة؛ لأنّهم يمسخون سلطة الثقافة وذهنيّة النّاس على النص؛ بل النصّ جزء من تلك الذهنيّة، والحجّة القاصمة على ما يقولون: أنّ التجربة التاريخيّة وأخبار الأثر والمناقب، وما إليها تكشف غير ما يقولون، مقاصد الرسالة هي ما فهمه معاصرو النّبيّ، وتعبّدت به الأجيال من بعدهم، وقبله ضميرهم، وقنّننته سلطة الفقهاء بالأحكام، كان ذاك هو الإسلام كما فهموه. وأزعم أنّ الشيء كما أجراه الناس وترجموه، بمن فيهم النبيّ، وأنّ الشيء في ذاته يبقى تمثّلًا نظريًّا تدعو إليه حاجة التشريع لمقالة عند الاقتضاء.
 نظريّة المقاصد حيلة أخرى من حيل التلفيق، ليبقى القرآن والسنّة والأثر مؤهّلة للاستمرار ومسايرة أحوال الناس، يستلهمون منها ما شاؤوا على وجه الاستحضار والائتمار والائتساء، لا على وجه الاقتضاء.
إنّ جوابي عن حصيلة الدراسات التي ألّفها أهل الإصلاحية الأولى وأهل الإصلاحية الثانية؛ أنّها لم تُجْدِ نفعًا، ولم تؤثّر في انتظام الناس، ولا في معارفهم، ولم تتحوّل إلى ثقافة مبنيّة على مبدأ الغيريّة، والسبب أنّها جميعها، وإن اختلفت صيغها، إصلاحيّة المنزع، والإصلاحيّة تمنح النصّ الدّينيّ سلطة فوق ما يقتضيه دوره وتحمله طبيعته. إنّ إدراج الإنسان في القداسة يكبّل أداءه، ليصبح كـ "الجَمَلِ الأَنِفِ حيثما قِيدَ انْقَادَ"[7]، وكذا أمر الفكر الإسلامي اليوم في العالم العربي.

- ما أسس التجديد الدّيني من وجهة نظر الأستاذ المنصف بن عبد الجليل؟ وكيف يمكن بلوغ هذا المرام؟ من داخل الدين نفسه أم من خارجه؟ ثمّ إلى من توكَل هذه المهمّة في نظركم؟
- ذكرت في أكثر من مناسبة، ونشرت في أكثر من مقال؛ أنّ المنهجيّة التي اقترحها فضل الرحمن - المفكّر والباحث الباكستاني في كتابه الإسلام والحداثة (لا الإسلام وضرورة التحديث، كما ترجم إلى العربيّة)، واستلهمها كلّ من المرحوم محمد الطالبي وعبد المجيد الشرفي، منهجيّة غير مجدية؛ لأنّ الحركة المزدوجة (The double-movement approach)، وإن راعت الجدليّة التاريخيّة التي نتعلّق بتطبيقها، تحوّلت في النهاية إلى منهجيّة معياريّة؛ بل أبانت بالوضوح الكافي أنّها منهجيّة إيمانيّة، تتجلّى محدوديّتها في عدّ الحداثة إلحاديّة على حدّ قوله في الكتاب نفسه، وأوصله التحليل إلى مأزق النمذجة، نمذجة العهد النبويّ، والرؤية التوحيديّة للعالم والإنسان التي تبقى رؤية اعتباريّة، وهنا محلّ الخلاف معه، نعتقد - على عكس الرجل وكلّ المفكّرين مثله - أنّ النصّ القرآنيّ، وحتّى نصوص السيرة كما وصلتنا اليوم؛ إنّما هي محاورات، لا يظهر فيها الخصم أو المحاور أو السائل إلّا ما سمحت به سلطة القرآن أن يظهر، وكما شاء القرآن نفسه، والسّبب في ظهور صوت الآخر في القرآن؛ هو جزء من تبكيت الخصم والدعوة إلى غير مقالته، وكذا أمر الأحكام، وكذا أمر القيم، فمكوّنات الخطاب تتمحّض للشفويّة على أساس ما قال معاصرو محمد من الحاضرين أو حتى الغائبين؛ لهذا لا يمكن الاستناد إلى نصّ الآيات القرآنيّة وحدها لبناء عالم القرآن وذهنيّة حامليه، فضلا عن عقليّة سامعيه ومحاوريه؛ ولهذا يبقى تحليل فضل الرحمن، وما قاله عن الرؤية القرآنيّة للعالم رؤية إيمانيّة تمجيديّة، أو هي من أتباع السنّية التي ارتضاها الضمير الإسلامي.
ونرى أنّ أوّل مرحلة يبدأ بها تجديد الفكر الإسلامي؛ هي البحث في ما قبليّة النصّ القرآني نفسه، وتشمل - بصفة ملموسة وعلميّة - تحقيق النصّ تحقيقًا تاريخيًّا نقديًّا يقارن فيه بين النصّ الإمام المعتمَد رسميًّا عند فرقاء المسلمين جميعهم، من سنّة وشيعة اثنا عشريّة وإباضيّة وغيرهم من الجماعات الأخرى، والنصوص القرآنيّة المخطوطة، وخاصّة ما تمّ اكتشافه في صنعاء سنة 1972 على يد فريق الباحثين الآثاريين الألمان بقيادة ألبريشت نوت، ثمّ بعد وفاته بقيادة جرد بوين، ويتمثّل التحقيق في تقليب جوانب أساسيّة تسمح باستقراء أفق النصّ الدلالي، وبنية الخطاب فيه، والذهنيّة التي كان يحاورها صاحب الدعوة والقلّة من أتباعه. يهمّ الجانب الأوّل الصياغة اللغويّة والعبارة القرآنيّة، وتمكّن المقارنة بين النصوص في نهاية المطاف من تحقيق الاستعمال اللغوي في القرآن، ويوجّه إلى دراسة ما يسمّى بالعربيّة القرآنيّة؛ بل يساعد الباحث على مراجعة الاستعمال القرآنيّ على ضوء الدّراسات السريانيّة والآراميّة التي خصّصتها كوكبة من الباحثين، مثل: مينغانا ولوكسمبرج، لمراجعة الدلالة القرآنيّة وما صيغ منها من رؤية عقديّة وتشريعيّة وأخلاقيّة، كما يهمّ التحقيق جانبًا آخر؛ هو انتظام النصّ، وتعالق الآيات، فضلًا عن ترتيبها، ولئن كنّا واعين أنّ الترتيب التاريخي هو من أعوص المسائل وأدقّها؛ فإنّ مراجعة النصّ بالمادّة التاريخيّة، والضوابط اللغويّة، وألوان الخطاب يسهّل صياغة الافتراضات الوجيهة في رسم تاريخيّة تكوّن نصّ المصحف.
أمّا المرحلة الثانيّة؛ فتتمثل في تنزيل مقالات النصّ القرآني ضمن المحاورات المعلنة والصامتة؛ حيث لا يظهر متكلّم أو مسائِل، وتكفي الإحالة في هذا الباب، والمراجعات الكثيرة التي قد يفيدها مثل التكرار، والغاية من ذاك التنزيل ليس البحث عن مناسبات أو أسباب النزول، فتلك من المسائل المفتعلة، لكنّ الغاية هي تركيب سياقات الآيات، إن أمكن وبكثير من الحذر، مقام الخطاب، ويركّز في تركيب السياقات والمقامات على المحضن المعادي للدعوة والدين الجديد، ولا شكّ في أنّ الذين ادّعوا النبوّة، وما يشبه النبوّة أيام محمد، يعدّون من أهمّ العناصر التي يجب استقراء أثرها ضمن تحليل الخطاب القرآني.
وتمثّل المرحلة الثالثة مرحلة البحث في الذهنيّة المعاصرة لمحمّد من خلال رؤية النصّ القرآني كما تحقّق، والذهنيّة هي العالم الإنسي الذي يعدّ القرآن جزءًا منه، تشمل تلك الذهنيّة ترجمة لطريقة التفكير، وألوان الانتظام المجتمعي والعمراني، ووجوه التعبير عن القيم المعتبرة حاجيّة وأساسيّة لبناء الإنسان الكامل، ومعنى كينونة الإنسان في سياق ما يسمّى بالأعمال والمآثر، وهو ما سيطلق عليه لاحقًا بالتاريخ.
وتلي هذه المرحلة من الاستقراء مرحلة رابعة؛ هي مرحلة النظر في تقبّل الأجيال المتعاقبة للنواة القرآني ورؤيته، يظهر ذاك التقبل في مسائل الفقه والأصول، والعقائد، والأخلاق، والمعارف الوسائل، والمعارف العلميّة والفنيّة، ويستخرج من ذلك كلّه ما هو وثيق الصلة بالنصّ، وما هو غير ذلك، ويسمح ذاك الاستقراء بفهم سيرة النصّ بين الناس، وسيرة النّاس بلا نصّ، يسترشدون بأعرافهم، ومقوّمات عمرانهم، وأسباب الحياة اللازمة لهم، ولا ندّعي - مع ذلك - أنّ المراحل السابقة تشخّص كنه الرسالة المحمّديّة وماهيّتها، مثلما لا ندّعي أنّنا قادرون في المرحلتين الأولى والثانية على ضبط القرآن البدئيّ أو القرآن الأصلي، كما ذهب إلى ذلك لولنج (Gunter Lüling) في كتابه "مقالة عن القرآن البدئي" (Über den Ur-Koran)، وعلى عكس فضل الرحمن؛ لا نعدّ المدوّنة التراثيّة بكل صنوفها والمجالات التي طرقتها تأليفًا على هامش الحقيقة القرآنيّة؛ إنّما نرى أنّها جزءًا منها، وهو ما يثبت راهنيّتها في كلّ عصر يسمُها وتَسِمه، ولكلّ من تلك الحقائق المتعدّدة والمباحث المتجدّدة وظيفتها في محلّها وعند أصحابها، ونريد أن نؤكّد، في هذا السياق بالذات، أنّنا أبعد من نكون عن النظرة الماهويّة إلى الحقيقة القرآنيّة؛ إذ لا ندّعي تشخيص الرسالة المحمّديّة في محضنها الأصلي، بحيث يكون التراث التاريخي انحرافًا عنها، ولا نزعم أنّ الرؤية القرآنيّة في سياقها الأصيل والأوّلي هي ما نحقّقه دون سوانا، وكلّ ما حرّره المسلمون لاحقًا في أصول الدين، وأصول الفقه والتشريع، والأخلاق، والتصوّف؛ إنّما هو كذلك غير ما قصدته تلك الرؤية، ونعيدها مرّة أخرى، ترجمة بأوضاع الأجيال وشواغلهم وذهنيّاتهم لما حسبوه رؤية قرآنيّة صميمة، وهنا - بالذات - تتجلّى أهميّة المرحلة الأخيرة من مقوّمات تجديد الفكر الإسلاميّ.
وتتمثّل المرحلة الخامسة في التنصيص بلا مواربة ولا خوف عن أنثروبولوجيّة الرؤية القرآنيّة، وما صاغه العلماء على التدريج على حاشية القرآن، والمنسوب إلى النبيّ من أفعال وأقوال وسيرة عمومًا.
 أنثروبولوجيّة القرآن والدعوة الإسلاميّة في محضنها جزء لا يتجزّأ من ذهنيّة معاصري محمّد، وطموحاتهم، وحضارتهم، وعلاقاتهم بالمجتمعات الأوسع المجاورة والمنافسة، وشاغل الاستقرار والإقناع والسيادة والاستمرار شاغل حيوي، يقتضي عوامل فاعلة من أجل التحقّق، وجهادًا دائمًا ومتواصلًا ليترجم حدثيًّا وفكريًّا وسياسيًّا، وتدبيرًا وتصوّريًّا في السياقات التاريخيّة الكثيرة، وطبيعي أن يقف الباحث اليوم على تبدّل الأوضاع، ويحسّ إحساسًا لا وهم فيه بتبدّل السنن وطبيعة التواصل البشريّ، ودور الدين في المجالات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة، فضلًا عن المعرفيّة والعلميّة، وهذا الوعي وذاك الإحساس، والوفاء أيضًا للنصّ. إنّ كلّ ذلك سيدفع إلى القول: إنّ في الرّؤية القرآنيّة ما لم يعد مناسبًا للحياة الحديثة، وانتهت الذهنيّة التي كانت تحضنه وتتقبّله، ولم يعد بالإمكان قبول الرقّ ولا الاستعباد، ولم يعد بالإمكان الحديث عن الاستخلاف، ولم يعد بالإمكان اعتبار الرّجل قوّامًا بنوع الجنس على المرأة؛ لأنّها اليوم وفي جلّ الأحوال أصلح منه، ولم يعد بالإمكان الحديث عن تعدّد الزواج، ولم يعد بالإمكان الحديث عن أسبقيّة الدين على الإنسانيّة، ومن ثمّ لم يعد باب الأخلاق موصولًا حتمًا بالتديّن، أمّا المسائل العلميّة التي كشفها التقدّم في مجال الكونيّات والعالميّات وحتى علم الحياة، فالرؤية القرآنيّة باتت جزءًا من المتخيّل والمعلوم في العصور القديمة، ومثل هذه المراجعات الحيويّة وحداثة الانتظام الإنسانيّ اليوم تقتضي أن تكون الرؤية القرآنيّة، ليكون لها معنى ورؤية تاريخيّة، جذورها وتشكّلها وتوظيفها هي من مقوّمات مجتمع وهيئة عمرانيّة ولّت، وكذلك من مثّلها، وساهم في صياغتها.
والمشهود اليوم أنّ المجتمعات تنتظم بمقوّمات أخرى، تنتظم بسلطة الحقيقة المتغيّرة (أو يقول الفلاسفة "في صيرورة")، وسيادة التمثيل والتدبير بالانتخاب وبمشاركة كلّ الناس، وأنّ الدولة التي تتولّى إنشاء المؤسّسات، وابتكار المشاريع بعلاقاتها مع الأمم الأخرى، إنّما تفعل ذلك بمرجعيّة مدنيّة لا دينيّة، وبهذا لا تفسّر الأشياء، ولا العوالم، ولا استصلاح الشؤون بالدين، وأقوال السلف؛ إنّما يبطل ذلك بالعيان، والصّالح المدنيّ وما يفيد الناس والوطن، هما من صلب الجهد الجماعي، وجودة الترتيب بين الممكن من أوضاع الناس، والذكاء في تدبير الشأن السياسي على ضوء المواثيق الدوليّة والاستقرار الجغرافي والسياسي.

ولا ننكر، مع ذلك، وظيفة النصّ القرآني والنصّ الدينيّ على العموم، هي وظيفة روحيّة، تتعلّق بالفرد وشخصه، ولا تتجاوز ذلك إلى التدبير العامّ لما حدث من تغيّر نوعيّ وحيويّ في حياة الناس وترقّيهم الحضاريّ، أمّا الدعاة إلى إحياء الدين، والعمل بمقتضاه، والمنازعة في تشكيل الحياة بأقوال السلف الدينيّة، والتشبّث بالمراجع التي لم يضعها الخلف ولا ابتكروها؛ إنّما هي من المواقف التي تبحث عن الشرعيّة خارج إطارها وسياقها، ومن فقد شرعيّة من إرادة الناس له، وانتزع من نفسه البعد الغيريّ، فإنّه يستحضر من مضى ليخاصم به، ويعاند في أمر لا حجّة عليه، ويشعل العواطف على غير أساس من تطوّر البشريّة، وكلّ هذه الأعمال المنكرة للمواطنة وطبيعة الدولة المدنيّة والحداثة الفكريّة آيلة إلى التهافت، وإن تعلّق بها الكثرة من الناس في بعض الآفاق بسبب الاستبداد، وإنكار الحريّات الذي مارسته أنظمة هي أبعد ما تكون عن حضارة الحداثة.
تتمثّل المرحلة الخامسة، إذن، في فهم الرؤية القرآنيّة في سياقها حتمًا، والقطع بانتهاء الكثير من مقالاتها، وتحوّل النصّ برؤيته الجنينيّة والتراث الضخم على حاشيته، من نصّ سائد على كلّ الحياة إلى نصّ تعبّدي، لا يخرج عن حيّز الفرد، وحياته الشخصيّة التي تعنيه، وأدّعي أنّ الأجيال القادمة ستشهد تدرّجًا نحو هذا الأفق، وستشهد البلاد الإسلاميّة دساتير ستتحصّن من الشائك الدينيّ في إدارة الشأن العام بالمدنيّة الطبيعيّة، والمعرفة العلميّة، والتناسق مع سائر الأمم بالغيريّة اللازمة للترقّي والاندراج في منطق العصر، وإذا ظهر خلل الحداثة في مجال التطبيق، مثل: استبداد الدول الكبرى، وإقامة الحروب، والفتك بالبشريّة، وتعميم الفقر واللامساواة في الكثير من الأمصار، فليس بالعودة إلى الدين والسلف "الصالح" ستحلّ قضايا المجتمعات التي في طريق النموّ، إنّما بإقبالها على الاجتهاد في العمل، وترجمة إنسانيّتها الخلاقة، وتوظيف ذكاء كفاءاتها في تحسين هيئتها.
إنّ أهمّ ما يقبل عليه المفكّر اليوم في تجديد الفكر الدينيّ؛ هو أن يبيّن جدواه في الحيّز الفردي والشخصي، ويعرّي تلاعب "رجال الدين" بالتمويه عن الناس، فوزًا بالشرعيّة السياسيّة، والحقوق المدنيّة، واستئثارًا بالسلطة، وهو ما نشهده اليوم عيانًا، وفي أكثر من بلد، ولو كان لي أن أقارن بين ما يحدث في الأفق العربي كلّه، وما يجري في مثل أندونيسيا، لظهر السرّ في تدرّج المجتمع الأندونيسي نحو ما بيّنت، وما فلسفة البانشاسيلا (Pancasila) التي يسّرت ديمقراطيّة فريدة في مجتمع يعدّ قرابة 261 مليون نسمة، منهم 218 مليون مسلم، مازالوا واعين بأنّ الانتخابات لا تكون على أساس الانتماء الديني، لكن على أساس الكفاءة العالية، والمسلم ينتخب المسيحي إن ارتآه الأصلح، وكذلك الهندوسي.
 إذن، المرحلة الخامسة هي؛ علمنة النصّ الدينيّ، على غير ما قال عبد الكريم سوروش، هي الفصل بين مقالات الرؤية القرآنيّة كما ظهرت في عصرها، وترجمت في العصور اللاحقة وشرحها التراث وقعّدها، من ناحيّة، والحياة المدنيّة بكلّ مقوّماتها، تأسيسًا للمواطنة بالدستور وللغيريّة من ناحية أخرى.
- ألا ترون أنّ الحديث، لمدّة قرنين من الزمن تقريبًا، عن ضرورة التجديد الدينيّ، وإن اختلفت وجهات النظر في كيفياته وغاياته، هو اتّهام ضمنيّ للدين بأنّه السبب الرئيس في تخلّف العالم الإسلامي، والعائق الأبرز بينه وبين التقدّم والحداثة المنشودين؟

- إجابتي المباشرة عن هذا السؤال: أنّ الدين ليس السبب الرئيس، ولا هو بالعائق الأبرز؛ إنّما فهم الدين من ناحية، واستعمال الدين وإجراؤه من ناحية أخرى، وإذا أردنا التمثيل للجانب الأوّل، فهم الدّين، رأينا فترات من تاريخ المسلمين، كان فهم الدين فيها حافزًا، وعامل توحّد، ونهضة علميّة مفيدة للغاية، وتحقّق بالفعل غرض التحسّن، أو ما سمّاه مفكّرو المسلمين بالتقدّم، وأكاد أجزم بأنّ السرّ في ذاك الترقّي والتقدّم؛ فهم الدين في تفاعل مع محيطه الثقافيّ الذي صادف أن استوطنه المسلمون وأهل الهجرة منهم، أو الإقامة بعد الجيل الأوّل، وذاك الاختلاط قد ازداد على التدريج حتّى تشكّلت للمسلمين ثقافة لا تنغلق على حدودها اللسانيّة والعرقيّة والدينيّة؛ إنّما تستوعب منها وتنهل، مثلما تعطي غيرها من الثقافات والحضارات، وذاك المزيج المؤسّس على التفاعل اقتضى سبيل الترجمة، وهو ما حدث، ولكن اقتضى بصفة أرجح وأنفع اختلاطًا يوميًّا مع أفكار العصر، وتقاليده وأعرافه، ورؤاه، وكان فهم الدين ومباشرة القضايا الحيويّة التي يثيرها، مجالًا لا يردّد فيه كلام السّلف بقدر ما يعالج بآلة العصر وممكناته.
سرّ التّقدّم، إذن، فهم الدين ضمن ثقافات العصر الحاضنة، والاختلاط على أساس التفاعل لا السيطرة، وإن ادّعى المسلمون سيادة سياسيّة، ولا يكون ذاك الاختلاط ممكنًا إلّا إذا توفّر شرط الحريّة، حريّة التفكير والإقدام على المعارف، وابتكار الحاجيّ لما فيه من المنافع اللّازمة لاستقرار المجتمع ورقيّه، فالاختلاط ليس لازمة الأخذ عن الغير والاقتراض دون تسديد، إنّما تداخل بين المسلمين وغيرهم من الأجناس وأهل الديانات الأخرى، على أساس التثاقف والتداول على المعارف والعلوم، فضلًا عمّا يتبع ذلك من الرّؤى وتصوّر الأسباب الموصلة إلى الرخاء، وأكاد أجزم - أخيرًا - أنّ السبب في ترقّي المسلمين أيام نهضتهم، إنّما كان فهم الدين ضمن أعراف الناس أيّا كان المصر، من ناحية، وضمن مطالب الناس المتجدّدة والتنافس على الرقيّ بين الأمم، من ناحية أخرى. وكأنّي أستنتتج أنّ فهم الدين، وقد تحوّل إلى ثقافة في تكوّن أو تحوّل مستمرّين، قد كان قادحًا، نشأت بعده طريقة في إدارة الشأن السياسي، وتمصير الأمصار، وترتيب الاقتصاد، وتنظيم المعاهدات في السلم والحرب، وإنشاء العلاقات مع الأمم غير الإسلاميّة، فضلًا عن تسخير العلوم لسيادة العالم، ولئن ظنّ الناس أنّ ذلك كلّه بالدين، فإنّه ليس من الدّين في شيء؛ إنّما بقي فهم الدين من الحياة وشؤون تطوّرها حيث يمنح الفرد استقراره النفسي، وعمقه الروحي، ليكون بعد ذلك جزءًا خلّاقًا في مجتمع له سننه، وأعرافه، وحاجياته المدنيّة.
أمّا استعمال الدّين وإجراؤه؛ فهو جزء من حالة المسلمين في البحث عن الشرعيّة، والخروج من الصعوبات، ومجابهة الرهانات التي تعترضهم، ويعلم مؤرّخو العهود الإسلاميّة أنّ مسألة الخلافة تبقى مسألة اعتباريّة، تذكر أصولها، ويحتجّ كلّ مدّعيها، بمن فيهم ابن الزبير وهو يخاصم فرقاء المسلمين المعارضين لسلطته، وحتّى المماليك الذين ظهروا في العهد الوسيط، تذكر الخلافة تشريعًا لسيادة، لا توصيفًا لحال استتباع سياسيّ واستحقاق سياديّ.
 لم تجري الخلافة الحكم المثالي والنموذجي الذي نصّ عليه القرآن، وصاغت الأحاديث المنسوبة إلى النبي شكلًا في التدبّر؛ فكلّ دعوة، أمس واليوم وغدًا في أمر الخلافة، إنّما هي دعوة متهافتة من حيث إسلاميّتها، وشرعيّتها الحكميّة، ومرجعيّتها الدينيّة، واستعمال الدين من أجل سيادة الناس، والتدبير السياسي؛ إنّما هو حيلة تروم القفز على سلطة الناس وحقوقهم المدنيّة والدينيّة على حدّ سواء. إنّ السبب، إذن، في انعدام التجديد الفكريّ يشمل، فيما يشمل، استعمال الدّين في المجال السياسيّ، ويمكن عرض أمثلة كثيرة أخرى على استعمال الدين وإجرائه، من ذلك؛ الفقه، والآثار في النظرة إلى المرأة والرجل، ومسألة الميراث، وأحكام اللباس والمأكل، والآداب، إلخ. ويكفي أن نلاحظ بطلان الرقّ، وانتشار الاختلاط بين الرجل والمرأة، وحرص الناس على التعليم خارج المجال الشرعي، والسفر والانتقال بلا قيود المحارم، ويكفي أن نلاحظ - أيضًا - اعتياض الدولة الحديثة عن الخطط الشرعيّة بالخطط المدنيّة، وتراجع سلطة الفقهاء وأهل الإفتاء أمام سلطة العلماء النظاميين، ويكفي - كذلك - أن نرى زوال بعض الخطط المثيرة؛ كخطّة الحسبة، وتنظيم السوق، وتعميم كلّ الإجراءات المدنيّة الجديدة في شأن الزواج، والطلاق، والبنوّة، والكفالة، إلخ. لنقف على مبدأ هو: على قدر الحرّية يكون انتظام الناس بأصل المدنيّة، ومن ذلك تكون شرعيّة السائس، وعلى قدر المدنيّة يكون الدين شأنًا شخصيًّا، وعندها يظهر أفق التجديد الدينيّ.
- ألا ترون أنّ مبحث الدراسات القرآنيّة يحتاج إلى تفهّم أنثروبولوجي جديد في الأفق الإسلاميّ المعاصر؟
- أشرت إلى شيء من هذا في ما سبق، وخاصّة في المرحلة الخامسة من مراحل النظر في النصّ القرآنيّ، وأريد أن أؤكّد رأيَين يخصّان المباحث القرآنيّة؛ يتعلّق الأوّل بمبحث تكوّن النصّ أو المصحف. وهذا مهمّ للغاية للوقوف على علاقة تشكّل النصّ، وتوظيف ما أقدم عليه سياسيو المسلمين بتكوّن مشروع الأمّة، أو ما سمّوه أمّة المسلمين، وفي أفق البحث عن تاريخ المصحف بالآلة التاريخيّة النقديّة والأثريّة، استنادًا - خاصّة - إلى مخطوطات صنعاء وغيرها ممّا اكتشف في المنطقة الشماليّة من اليمن، يتنزّل ما طالبنا به من تحقيق النصّ القرآني تحقيقًا تاريخيًّا نقديًّا، وليراجع ما قلناه في المرحلة الأولى من السّؤال عن تجديد الفكر الدينيّ.
أمّا الرأي الثاني الذي نريد تأكيده؛ فيخصّ مُحاوَر القرآن في عهد محمّد، حتّى يفهم الخطاب في سياقه، وإن أمكن مقامه. الدراسة الأنثروبولوجيّة للقرآن، كما يتجلّى في المصحف الإمام بالرسم العثماني، وهو المعتمد اليوم بلا جدال بين سنّة وشيعة، وإن ادّعت الشيعة قرآنًا شيعيًّا، قال عنه الكليني فيما روى عن الأئمّة: إنّه يفوق ما بأيدي العوام (يعني السنة) حجمًا وسورًا، قلنا: الدراسة الأنثروبولوجيّة من خلال مقالات المحاوَر، تردّ النظر إلى ذهنيّة الناس أيّام محمّد، وتفاعل الرؤية القرآنيّة معها، ومن ثمّ تكون العبارة، والصورة، والتركيب ونحو الكلام قبل التقعيد، ذات عمق فكريّ، يجلّي طبيعة تفكير الناس، وتغيّر تلك الطبيعة على مرّ أجيال المتقبّلين لاحقًا، فالوقوف على الرؤية الأنثروبوبلوجيّة القرآنيّة هو ذات الوقوف على الحدود الفاصلة بين العهد القديم، وذهنيّة العصر الحديث: وتتضح، للتمثيل، أربع قضايا حيويّة؛ أولاها: قضيّة تفهّم الحقيقة وتأسيسها، والثانيّة: قضيّة الشرعيّة، والثالثة: قضيّة الفعل التاريخي، والرابعة: مسألة الأخلاق خارج الدين، ويمكن اختزال الكلّ في أنّ الرؤية القرآنيّة رؤية من أجل مشروع ربّاني ذي أفق ارتدادي، تكون فيه النجاة لكلّ حاث بالعودة إلى "الأصل"، في حين تكون الرؤية الحديثة رؤية إنسانيّة ذات أفق تطوّري نحو الأرقى والأفضل، بالغيريّة والقدرة على الاختلاف والتعدّد، وهذا التمييز يقرّره البحث الأنثروبولوجي اللازم اليوم في الدراسات القرآنيّة المعاصرة، ويشمل مداخل متعدّدة منها؛ تشكّل مفاهيم الألوهيّة، والنبوّة، والإمامة، والعبادة، والأهمّ من هذه المداخل القضايا اللسانيّة، وتاريخ النصّ، وإشكاليّة المحاوَر، ومشكلة المخالف، وأمر الحرب والسلم، ومصير الإنسان، وجلّ ما يتقوّم به العمران، على أن يكون ذلك على أساس المقارنة بالتقاليد التوحيديّة الأخرى، وغيرها من العقائد المختلفة التي ردّها القرآن نفسه، وتنصّ على أنّه ختمها جميعها بما هو أشملها وأرقاها، تلك المقارنة هي التي توجّه النظر الأنثروبولوجي في القرآن إلى إشكاليّة التعدّديّة، فضلًا عن التنوّع، ولعلّ الناظر يبلغ ما بلغنا في بعض دروسنا والمقالات التي نشرناها من أنّ النبي والكاهن والشاعر والرائي، كغيرهم من أصناف المراجع قبل الإسلام؛ إنّما هم جهات علم من طبيعتها التنافس على الحقيقة والسيادة.
إنّ العصر الحديث قلب هذا النظام رأسًا على عقب بتأسيس سلطات أخرى، وانسياق عموم الناس إلى أتباعها، والأخذ بها لجدواها ونفعها الظاهر؛ لذا نقول في غير ما تودّد أو نفاق: إنّ أجلّ ما يواجهه النصّ الدّينيّ والقرآنيّ: هو العلمنة المحرجة، وتاريخ الناس وأوضاعهم المجتمعيّة المعقّدة يتّجه نحو ذاك الفصل اليوميّ بين مطالب ما يسمّى بالشرعيات، ومطالب الناس الحيويّة التي يعيشون بها ومن أجلها، والأنثروبولجيا، من هذا الباب، تكشف سرّ الإنسان من طريقة تفكيره، بداية، إلى صناعة عمرانه الأشمل، وليست الإصلاحيّة التي ينادي بها مفكّرو المسلمين سوى مدّ في أنفاس المحتضر.
- ما أثر اكتشاف "مصحف صنعاء" في الدراسات القرآنيّة المعاصرة؟ وهل ساهم في تطوير هذا المجال البحثي المهمّ؟
- أشرنا إلى طرف ممّا يخصّ هذا السّؤال في ما سبق، ونذكّر هنا بأنّ مجموعة مخطوطات صنعاء قد اكتشفها فريق من الباحثين الأثريين الذي قدموا إلى صنعاء سنة 1972 لترميم الجامع الكبير بصنعاء، ووجدوا - على وجه الصدفة - مجموعة من الرقوق؛ منها مخطوطات قرآنيّة، ومنها مخطوطات للكتاب المقدّس، وقد اهتمّ الفريق - لمدّة سنوات كثيرة - بترميم المجموعة، وكان للفريق الفضل في الفهرسة وتوصيف الرقوق، ويبلغ عدد الأوراق حوالي 40 ألف ورقة؛ منها 12 ألف رقّ قرآنيّ رُمِّمت ونُظِّفت وعولجت، وفي المكتبة المحاذية بالجهة الغربيّة من الجامع يحفظ مصحف مخطوط ينسب إلى علي بن أبي طالب، يعدّ في التصنيف بالجامع الكبير بصنعاء مصحف علي بن أبي طالب، وقد تكوّن فريق تونسيّ تولّى تنسيقه السيد عبد المجيد الشرفي؛ من السيدة نائلة السيليني، والمرحوم عبد القادر المهيري، إضافة إلى محرّر هذه الأجوبة، وزار الفريق التونسيّ صنعاء، وقضى فيها شهرًا من الزّمن في دراسة المجموعتين القرآنيتين المحفوظتين بالمكتبتين بالجامع الكبير بصنعاء، كما زار الفريق مكتبة الأحقاف بمدينة تريم بوادي حضرموت للاطّلاع على المخطوطات القرآنيّة المحفوظة بالمكتبة، وقد اتّجه الفريق بعد العودة إلى تأليف كتاب صدر، رُتّب في الأصل على أن يكون تحقيقًا نقديًّا للنّصّ القرآنيّ، لكن استبدل المشروع بالكتاب المتداول اليوم، "المصحف وقراءاته"، في 5 أجزاء، عن مؤسّسة مؤمنون بلا حدود. وقد ساعد الفريق في إنجاز هذا العمل مجموعة من الشبان الباحثين؛ منهم من كان في مرحلة الدكتوراه، ولم يتمكّن محرّر هذه الفقرات من المشاركة في إنجاز كلّ العمل لالتزامات مهنيّة طارئة، انتقل بموجبها للتدريس بلندن.
يلاحظ المطّلع على المخطوطات أنّ الفريق الألمانيّ متكتّم جدًّا على المجموعة، وبقيت المقالات المنشورة عن الموضوع نادرة وضنينة بالمعلومات، أمّا الاطّلاع والنفاذ إلى المخطوطات لم يكونا من الأمور الهيّنة لولا مساعدة المشرفين اليمنيين على دائرة المخطوطات، والظاهر أنّ تحقيق النصوص القرآنيّة لم يكتمل، ثمّ إنّ المجموعة المتبقّية مازالت في حاجة إلى معالجة، وتعدّ من المسائل الأمنيّة عند اليمنيين، ورغم دعم الجهد العلميّ؛ فإنّ الفريق التونسيّ لم يتمكّن من الاطّلاع إلّا على نزر قليل، لا يكفي للشروع في إنجاز تحقيق نقدي للقرآني. وقد تيسّر لاحقا لكاتب هذه الأسطر أن يزور إحدى القرى بشمال اليمن؛ حيث السلطة الحوثيّة، واطّلع في مخزن صغير على صندوقين كبيرين؛ يحوي الأوّل مومياء يمنيّة، يقتضي اكتشافها مراجعة تاريخ التحنيط، وسرّ المومياء المصريّة، وتمثّل طريقة التحنيط، وألوان لباسها جوانب رائعة، تبشّر بمراجعات علميّة وبحثيّة جدّية في قابل الأعوام، أمّا الصندوق الكبير الثاني؛ فيحوي عددًا كبيرًا من الرقوق القرآنيّة الشبيهة برقوق صنعاء القرآنيّة، ومازالت إلى اليوم في حاجة ماسّة إلى التنظيف والترميم، وسيكون الاطّلاع عليها مادّة غنيّة مؤثّرة حتمًا في تحقيق النصّ القرآنيّ.
واطّلعنا، عمومًا، على ما توفّر لنا بصنعاء، واستقرأنا نتيجتين قدّمناهما في ورشة عمل بيروت بإشراف مؤسّسة كونراد أدنآور الألمانيّة، وهما؛ أنّه لا وجود لمصحف كامل ضمن مصاحف صنعاء، إنّما توجد أجزاء متفاوتة الحجم، وتعود هذه الأجزاء والسور إلى تواريخ مختلفة، وفي هذه المجموعة يظهر ترتيب السور مشاكلًا للترتيب العثماني، ولا خلاف. ولكن لا يوجد الفصل بين السور في بعض الرقوق، كما لا توجد أحيانًا الفواصل بين الآيات، وفي بعض الرقوق فصل بين عشر آيات، وأحيانًا بين كلّ خمسين آية، أمّا أسماء السور؛ ففيها اختلافات، وهو ما يدلّ على أنّ الأخبار التي أوردها ابن أبي داود السجستاني حول أسماء السور، ومكان نزولها، وتحديد آياتها، أخبار صحيحة.
أمّا النتيجة الثانية؛ فتخصّ ما صنّف أنّه مصحف عليّ بن أبي طالب، وقد قلّبناه، فلم نجده كاملًا في المخطوطة الصنعانيّة، ولا هو بالموافق لترتيب السور الذي ذكره القدامى، خاصّة منهم ابن أبي النديم، وقد ذكر أنّه رآه في عهده، ووقفنا - على عكس ذلك - على أنّ بعض القراءات توافق تمامًا قراءة ابن مسعود، وقدّمنا فرضيّة مازالت تحتاج إلى إثبات؛ هي أنّ ذاك المصف المنسوب إلى علي بن أبي طالب قد يكون صيغة من صيغ مصحف ابن مسعود، وهو ما سيثبته أو ينقضه الباحثون بعدنا.
مازلنا نعتقد أنّ اكتشاف المخطوطات الصنعانيّة أمر مهمّ للغاية، لأكثر من سبب يمتّ إلى تجديد النظر في النصّ القرآني الذي بأيدي المسلمين اليوم؛ أوّل تلك الأسباب: أنّ أيّ تحقيق تاريخيّ نقديّ لا يمكن إتمامه، ولا ادّعاؤه، دون الاطلاع المتأنّي والدقيق والعالم على هذه المخطوطات كلّها، والاكتفاء بجزء منها سيكون عملًا ناقصًا ومختلًّا، والسبب الثاني: أنّ اكتشاف مخطوطات صنعاء قد يسّر استثمارها من الباحثين مثل الباحث الشاب الإيراني ديبنها مصاديغي، في جامعة ستانفورد بالولايات المتّحدة الأمريكيّة، في تحليله لإحدى المخطوطات الصنعانيّة، ونشره مقالًا مطوّلًا في مجلّة أرابيكا، والفائدة من اكتشاف مخطوطات صنعاء: أن أدّى إلى نقض نظريّة المدرسة الأنقلوسكسونيّة التي أنكرت أن يكون النصّ القرآنيّ متنًا يعود إلى العهد المحمّدي نقض الاكتشاف، وبحث صاديغي نظريّة وانسبرو، وباتريسيا كرون، ومايكل كوك، ويبدو أنّ مايكل كوك - وهو الوحيد الذي بقي على قيد الحياة - قد راجع موقفه. والسبب الثالث: أنّ هذا الاكتشاف سيسمح، بعد الدراسة والتدقيق، بتأريخ النصّ واستقراء تكوّنه على ضوء مشاغل الأجيال الأولى من المسلمين، وأكاد أجزم بأنّي أتوقّع ازدهارًا مقبلًا للدّراسات القرآنيّة، نصًّا وتفسيرًا، بعد اهتمام العرب والمسلمين بهذه المخطوطات، ولئن اضطلعت السلطة اليمنيّة اليوم بالتكتّم الشديد، وهذا مفهومٌ منعًا "للفتنة"، ويكفي ما يعاني منه اليمن راهنًا، فإنّ الأمر سيكون على غير هذه الحال بعد الهدوء، واستقرار الأوضاع، وعزم اليمنيين أنفسهم بكفاءاتهم العالية الجودة، على النهوض بهذه المهمّة العلميّة اللازمة والحاجيّة، ولست أشكّ، مع ذلك، بما أعلم على بساطته، في أنّ الفريق الألماني يحوز اليوم جلّ المخطوطات القرآنيّة، وسيتولّى الباحثون الألمان نشر بحوثهم القرآنيّة، عندما يقضي الله أمرًا كان محتومًا.
 أريد أن أقول: إنّ الدراسات القرآنيّة بأثر من تحقيق المخطوطات اليمنيّة، ستعرف ازدهارًا كبيرًا، ولنعدّ شبابنا الباحثين لهذه المهمّة البحثيّة والعلميّة بشتّى الوسائل الأكاديميّة الممكنة، حتى يسايروا ما سيظهر من النتائج، وحتّى لا يردّوا على البحوث الألمانيّة عن القرآن بسلفيّة مجحفة، وجهل لا يليق بجامعاتنا، ولا بجهودنا.
- كيف يستشرف الأستاذ ابن عبد الجليل مستقبل التجديد الدينيّ في ظلّ ما يسمّيه "سنّيات إسلاميّة" مازالت تراوح بين الطائفيّة والتعصّب والاقتتال؟
- نشهد اليوم آثار السنّيات التي أفردنا لها بحثًا امتدّ على سنوات طويلة ومضنية، لنستنتج خمسة قوانين أظنّها مازالت صالحة: أوّلها: "على قدر الاستبداد تنشأ الفرق الهامشيّة، مقاومة للسنّيّة السائدة"، والثاني: "من جنس مقاومة السنّية لغيرها من الفرق تكون مقاومة الهامشيّ للسنيّة"، والثالث: "تبتكر كلّ فرقة ما تشرّع به لذاتها من وحي مواز، وكتاب، وتشريع، وانتظام اجتماعي، تقويضا للسنّية"، والرابع: "السنّيّة، شيعيّة أو سنّية، هو المشترك العقديّ الذي ينشأ بجهود الجميع، حتى تقوّضه سنّيّة ناشئة، قد تكون من صلب الهامش"، والخامس: "إنّ الهامش قلب لا يزول أبدًا، وإنّما يسود بالتخفّي، حتّى يحين موعد الظهور بالشوكة، عندها يستعمل كلّ الأساليب الممكنة، فيتحوّل الهامشيّ سنّيّة مركزيّة، وهكذا"، وإذا صحّت هذه القوانين؛ فإنّه لا يطمئنّ المرء إلى ثبات الوضع على حاله، وليعلم أهل كلّ سنّية أنّهم سائدون إلى حين، وأرى في القابل من العصور، وفي ما يخصّ العالم الإسلاميّ؛ أنّ مستقبل التجديد الدينيّ سيكون رهين الشروط الآتية، وليس ذلك من باب التنبّؤ السّمج والفجّ:
1- لا مناص من استيعاب السنّيّة السنيّة مقالات السنيّة الشيعيّة، وكذا العكس، حتّى يكون بين العالمين الشّيعي الإثنا عشري والسنّيّ اشتراك في النظر المقارن في العقيدتين، وما يتبعهما من تراث مثقل بالشأن السياسي، وهاجس الثأر للماضي. والواقع؛ أنْ لا الشيعة قرأت تراثها خارج نوازعه، ولا السنّة المركّبة راجعت تراثها بتأريخيّة نقديّة صميمة، لذلك كلّ ما يقال عن التقارب السنّي الشيعيّ، إنّما هو محض سياسة فاسدة النيّة، وتعدّ الجامعة، بغير منزع لاهوتيّ، هي المحلّ الوحيد الذي ينظر فيه العقل بغير هاجس الإيمان والبحث عن السيادة، ولنتذكّر ما فعله المرحوم آية الله الخميني عندما أراد التقريب بين الفرقتين حتّى يبشّر بفوائد الثورة الإيرانيّة، فرسم على أحد الطوابع البريديّة الإيرانيّة صورة سيد قطب، ولم يدم هذا الإغراء حتّى عادت النكبة الحسينيّة إلى سابق أثرها السّلبي، ورجعت السنّة إلى الشتم. يكمن الحلّ الوحيد في المراجعة التاريخيّة النقديّة، وما أعسرها، فالاستثمار في تخريج جيل من الباحثين ينظر بالوازع الأكاديمي في متون التراث المثقل بالهموم السياسيّة، وهو من الحلول الممكنة لتجديد الفكر الإسلامي من حيث طبيعته، وتغير وظائفه، وتشكّل رمزياته، والانحسار ضمن رؤية الحداثة في مجاله الروحي والشخصي؛ إذ لم يعد من المقبول أن ينفق المعاصر حياته على الثأر لمن مضى على أفعال لم يسأل في شأنها، ولم يعشها أصلًا.
أنا أرفض، أيّا كانت السنيّة، أن يرتهن الحاضر والمستقبل؛ بل أن يرتهن الضمير الإسلامي بقضايا الماضي، مازالت صورتها هلاميّة، وليس الأمر بمختلف في المجال الإباضي، ألم يطالب إباضيّة تونس بعد الثورة بهويّتهم، وبأن يكونوا ضمن المجتمع التونسيّ، وربّما غيره أصحاب مقالة ورؤية مستقلّتين، وربّما أصحاب مشاركة تمثيليّة في إدارة الشأن العامّ؟ فلننتبه إلى أنّ هذا التناحر المفزع؛ هو عبارة البحث عن شرعيّة مستندة إلى مرجع دينيّ، لا سبيل إلى حلّه إلّا إذا تغيّر موقع الدّينيّ أصلًا من الانتظام المجتمعيّ، وهنا مربط الفكرة الثانية التي نقترحها في استشراف التّجديد الدينيّ.
2- يتمثّل تغيير موقع الدّين داخل الانتظام المجتمعي من موقع المركز الذي تردّ إليه حقائق الأشياء، وسلطة السائس، وشرعيّة القائم على أحوال الناس، إلى موقع آخر نعتبره مهمًّا، هو موقع المجال الشخصيّ، ولا سواه، لكنّ هذا التغيير الجذري والبنيويّ لن يكون أمرًا ممكنًا ولا يسيرًا، حتّى تدرس الظاهرة الدينيّة باعتبارها موضوعًا وحالة ومثالًا، لا باعتبارها شأنًا إيمانيًّا أو عقديًّا يلتبس فيه النظر بمصير الناظر ووجوده، والدرس الذي نعنيه يوصل إلى إدراك مسائل الاختلاف والاتًفاق بين العقائد والأديان كلّها، وممكنات التعدّد الحادث في التاريخ، وتعرية أسباب الاقتتال من كونها أسبابا دينيّة خالصة لوجه الله أيّا كانت العقيدة والفرقة، إلى كونها أسبابًا سياسيّة - أو شبه سياسيّة - بغيتها تحقيق المنافع والاستئثار والسيادة والاستبداد، والحاصل من هذه الطريقة في البحث والتفكير أن يفكّك التفكير الفرقيّ، ويتحوّل الرأي إلى استقراء ما تبني به التعدّديّة نظرةً وموقفًا، ويستخرج من ذلك مفهوم مهمّ: هو مفهوم الغيريّة، وبدل أن تُكفّر كلّ جماعة مخالفيها، تستعيض عن التكفير بمفهوم المشاركة في الحقّ في الحياة، والمخالفة في الرأي والمقالة.
3- ثلاثيّة أراها ضروريّة لاستئصال آثار السنّيات في المجتمع، وتآكل الفرق بحجّة التكفير والخروج عن الملّة: علمنة الدين، بحيث لا يشمل أيّ شأن من الشؤون العامّة، ولا يتجاوز أثره وتطبيقه حيّز الفرد شخصيًّا، ودسترة الحقوق المدنيّة، بحيث يتألّف الناس حول قيمة المواطنة التي تُبنى على التدريج، كما شاءت القوانين والمعاهدات والعلاقات الدوليّة؛ وتأسيس السيادة على الحريّة التي يعبّر بها الأفراد عن إرادتهم الشخصيّة والجماعيّة، في هذا الأفق من النظر تتنزّل إمكانيّة التجديد، لكن مازلنا دون ذلك، والطّريق أبعد ما تكون عن المسلك المعبّد.