التنظيم فشل فى تحقيق أهدافه ويتأهب للانقضاض على المدينة مجددًا
داعش نجح فى جذب بعض الموالين لنظام «القذافى» وتأليب المعارضين.. وعناصره تحاول لملمة شتاتها فى سرت
لمدينة سرت أهمية استراتيجية قصوى للإمساك بمفاتيح الحركة والسيطرة على ليبيا
500 ضربة جوية نفذتها أمريكا ضد مواقع التنظيم فى سرت
400 كلم هى أطول مسافة بالساحل الليبى فى سرت
69 ألف كلم مربع حواضر وأرياف مساحات تابعة للمدينة
رغم أن السلطات الليبية، وبمساعدة الضربات الجوية الأمريكية، نجحت نهاية 2016، فى تحرير مدينة سرت من قبضة تنظيم «داعش»، إلا أن المؤشرات تتزايد حول احتمال وقوعها مجددا فى أيدى الإرهابيين، بل وقد تكون أيضا نقطة الانطلاق لخلافتهم المزعومة، بعد سقوطها فى العراق وسوريا.
ولعل ما يضاعف المخاوف فى هذا الصدد، أن الظروف التى هيأت الفرصة للتنظيم للسيطرة على تلك المدينة الاستراتيجية فى 2015، ما زالت على حالها، فى ظل استمرار التناحر بين الفرقاء الليبيين، وتفاقم حالة الفوضى فى البلاد.
هذا بالإضافة، إلى أن سرت (500 كيلومتر شرق طرابلس) تشكل أهمية كبيرة فى استراتيجية داعش، بحكم موقعها الجغرافى، إذ تعتبر حلقة الوصل بين شرق ليبيا وغربها، وتقع أيضا بالقرب من المواقع النفطية، أو ما يعرف بـ«الهلال النفطي»، كما أنها تطل على البحر الأبيض المتوسط وقريبة من السواحل الإيطالية.
وتقع سرت أيضا فى منتصف المسافة بين طرابلس وبنغازي، أهم مدينتين فى ليبيا، وهى بحجم مدينة الرقة السورية، أى أنها يتوفر بها مقومات «عاصمة دولة الخلافة» من وجهة نظر داعش، ليس فقط باعتبارها ظهيرا اقتصاديا له، وإنما أيضا لأنها تساعده على التوسع فى ليبيا، وصولا إلى التمدد فى إفريقيا جنوب الصحراء، واستهداف أوروبا كذلك.
وأمام ما سبق، تصاعدت التحذيرات فى الفترة الأخيرة، من أن سرت قد تكون البديل أمام داعش، لتعويض خسائره، التى منى بها بالعراق وسوريا، لكون مناطق النفط تقع على مرمى حجر منها.
وقال معهد «واشنطن للدراسات»، إن السيطرة على سرت تعنى لداعش، التمدد على نطاق واسع فى ليبيا، وبالتالى إنشاء عاصمته الجديدة خارج سوريا والعراق.
وأشار المعهد إلى أنه توجد فى المدينة مواقع حيوية للغاية، مثل قاعدة القرضابية الجوية ومشروع «النهر الصناعى العظيم».
وتابع «سرت أولوية أساسية فى برنامج داعش لبناء نفسه فى ليبيا، وكان حاز فيها على دعم من المنشقين عن جماعة (أنصار الشريعة) الليبية منذ أكتوبر ٢٠١٤، لكنه لم ينشط علنًا فى المدينة حتى أوائل يناير ٢٠١٥، إذ قام بإعدام الرهائن المصريين المسيحيين الـ٢١ فى منتصف فبراير».
واستطرد المعهد «سرت تشكل البديل لداعش بعد سقوطه فى الموصل، إذ تبلغ مساحة ما يتبعها من حواضر وأرياف حوالى (٦٩) ألف كلم مربع، ويمكن اتخاذها قاعدة للانطلاق إلى الواحات، التى تقع إلى الشرق والجنوب».
وبدوره، قال الباحث الليبى ومدير مركز «أسطرلاب» للدراسات، عبدالسلام الراجحي، فى تصريحات لشبكة «سى إن إن» الإخبارية الأمريكية، إن خطر «داعش» لا يزال قائما، خاصة من قبل العناصر الفارة والخلايا النائمة وإمكانية عودتها من جديد للسيطرة على أراض، أو تنفيذ عمليات إرهابية.
كما نسبت وكالة «رويترز» للناطق باسم قوات «البنيان المرصوص»، التابعة لحكومة طرابلس، محمد الغصري، قوله: «إنه جرى رصد تحركات عناصر من داعش فى جنوب مدينة سرت، تحاول أن تلملم نفسها، وتحاول أن تخترق قواتنا من الجهة الجنوبية». وتابع «قوات كبيرة من تنظيم داعش، تزحف قادمة من الجنوب والشرق، باتجاه سرت»، فيما كشف شهود عيان أن فلول «داعش»، لا تزال تنتقل فى جنوب وجنوب غرب سرت بحرية تامة، مستفيدة من امتدادها الصحراوي، إذ ينتشر عناصر من التنظيم فى جنوب ليبيا.
وكانت مصادر ليبية كشفت أيضا فى يناير ٢٠١٧، عن رصد تحركات لداعش من سرت إلى الجنوب الليبي، وفى فبراير ٢٠١٧، أشارت تقارير صحفية ليبية إلى لجوء هذه العناصر، إلى الجبال والأودية الضيقة، لإعادة ترتيب صفوفهم مرة أخرى، للهجوم على العاصمة طرابلس ومدينة سرت.
وبدوره، قال قائد القوات الأمريكية فى أفريقيا (إفريكوم) توماس والدهاوسر فى مارس ٢٠١٧، إن تنظيم داعش يعيد تجميع صفوفه، للهجوم مجددا على سرت.
وفى جلسة أمام لجنة الخدمات المسلحة فى مجلس الشيوخ الأمريكي، أضاف والدهاوسر «داعش لم يعد يسيطر على سرت، لكننا نعلم أنه يحاول إعادة تجميع صفوفه».
وكان داعش سيطر على سرت، فى فبراير ٢٠١٥، مستغلا الفوضى السياسية والأمنية فى ليبيا، وبعد أشهر معدودة من ذلك، استولى على نحو ٢٩٠ كلم من ساحل البحر الأبيض المتوسط، بما فيه من حقول النفط والمصافى، وقام بنشر معسكرات تدريب هناك. وفى مايو ٢٠١٦، شنت قوات «البنيان المرصوص» هجوما على سرت بهدف استعادتها، مستعينة بالقصف الأمريكى لمواقع التنظيم. وفى ١٧ ديسمبر ٢٠١٦، تم الإعلان رسميا عن تحرير المدينة.
خيارات المواجهة
ويبدو أن هناك شعورا بالقلق لدى المسئولين الليبيين من احتمال نجاح داعش فى السيطرة مجددا على سرت، إذ طلب، رئيس حكومة الوفاق الوطنى فايز السراج فى ٣٠ نوفمبر، من واشنطن رفع حظر الأسلحة المفروض على بلاده من قبل الأمم المتحدة.
وللحكومة الليبية أن تستورد أسلحة ومعدات مرتبطة بها بموافقة لجنة تابعة لمجلس الأمن الدولى تشرف على الحظر الذى تقرر عام ٢٠١١.
وفى بداية اجتماع بالبنتاجون مع وزير الدفاع الأمريكى جيم ماتيس، أكد السراج أن ليبيا تواجه العديد من التحديات المتعلقة بالتطرف والإرهاب.
وأضاف «لكن هناك تحديا آخر نواجهه وهو الافتقار إلى القدرات والوسائل، بالإضافة إلى حظر الأسلحة»، فى إشارة منه إلى الحظر الذى فرضته الأمم المتحدة عام ٢٠١١ فى أعقاب الإطاحة بنظام العقيد الراحل معمر القذافى.
وجاءت زيارة السراج لواشنطن فى وقت تعيش فيه ليبيا تحت ضغط مشكلة المهاجرين واللاجئين وتداعيات تقرير تليفزيونى عن سوق لبيع الرقيق فى ليبيا، كما جاءت فى وقت تتواصل فيه المفاوضات بين الأطراف الليبية المتناحرة للخروج من الأزمة السياسية فى البلاد.
ورغم تركيز السراج على موضوع رفع حظر السلاح لمواجهة الإرهابيين، إلا أن الباحث فى المجلس الأوروبى للعلاقات الخارجية ماتيا توالدو يرى أن الحل العسكرى وحده لن يمنع سقوط سرت مجددا فى قبضة «داعش»، ولن يحل الأزمات المتفاقمة فى ليبيا، داعيًا الإدارة الأمريكية وأوروبا إلى العمل على استراتيجية سياسية موازية لإنهاء الأزمة هناك.
وقال توالدو، فى مقال نشره موقع «ميدل إيست آي» البريطاني، إن الحراك المحلى من أفضل محركات السلام فى ليبيا، ولهذا فإن تقوية المجالس البلدية والممثلين المحليين، مفتاح تحقيق الاستقرار والتنسيق بين السلطات المحلية والمركزية.
وتابع «رغم الجهود الدبلوماسية المكثفة من غير المحتمل أن يوافق قائد الجيش الليبى المشير خليفة حفتر على العمل تحت قيادة حكومة مدنية، ولن يقبل داعموه- مصر والإمارات- أى حكومة ليبية تضم إسلاميين، مما يعنى أنه لن يكون هناك حكومة موحدة تعمل من داخل طرابلس».
واستطرد توالدو «على أوروبا وواشنطن التأكد من وقف حدة التصعيد العسكرى فى مختلف المدن والمناطق الليبية، والدفع نحو تحقيق وساطات محلية واتفاقات لوقف إطلاق النار والأعمال العدائية بين القبائل والفصائل المسلحة، مقابل توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية».
وأضاف «كان من المفروض عقب تحرير سرت من قبضة داعش، تسليمها إلى السلطات المحلية لإدارتها، ومعالجة مظالم السكان والشعور بالتهميش المتنامى داخل المدينة، من أجل تفويت الفرصة على التنظيم للعودة إليها».
ولفت توالدو أيضا إلى ضرورة وجود اتفاق أمنى شامل لتأمين سرت، إلى جانب مواصلة الجهود الدبلوماسية والسياسية المكثفة لتحقيق الاستقرار، على أن تركز تلك الجهود بشكل أكبر على المستوى المحلى للتخلص من العنف والنزعة المسلحة.
وبدوره، قال الباحث بجامعة «كامبريدج» البريطانية جيسون باك فى مقال نشره موقع معهد «أتلانتيك كاونسيل» الأمريكى، إن القوات الليبية الموالية لحكومة الوفاق الوطنى استطاعت خلال ٨ أشهر من المعارك ضد داعش، استعادة سرت بمساعدة حملة جوية أمريكية نفذت ما يقرب من ٥٠٠ ضربة جوية ضد مواقع وقيادات التنظيم.
وأضاف باك، أنه مع انتهاء العمليات العسكرية ضد داعش فى سرت، كان هناك ثلاثة دروس استراتيجية للتجربة هناك، منها أن داعش فى ليبيا نجح فى جذب بعض من الموالين لنظام معمر القذافى وبعض المعارضين له على حد السواء، لأنه استخدم شعارات رنانة مثل «استكمال الثورة وتطهير بقايا نظام القذافى» للفوز بدعم المجموعات المحلية.
وتابع «لم يتم إدماج سرت ودرنة أيضا بشكل مناسب وفعال فى هياكل الحكومة فى مرحلة ما بعد القذافى، ولم تمثل أيضا فى الانتخابات التى أُجريت، مثل انتخابات المؤتمر الوطنى العام العام ٢٠١٢، وانتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور العام ٢٠١٤، والانتخابات البرلمانية فى يونيو من العام نفسه، وذلك لأسباب أمنية وإدارية».
واستطرد «داعش نجح أيضا فى جذب عدد من الموالين لنظام القذافى، إذ تم تهميش الدوائر الانتخابية المعروفة تاريخيًا بدعمها للعقيد الراحل، بالإضافة إلى قانون العزل السياسى فى مايو العام ٢٠١٣ الذى حرم جميع مسئولى النظام السابق من الوظائف العامة».
وأشار الباحث بجامعة «كامبردج» البريطانية أيضا، إلى أن داعش كون أيضا تحالفات فى سرت مع عناصر قبلية من المقارحة وورفلة وفرجان والقذاذفة، والتى شعرت بالسخط لتهميشها، فيما هجرت حكومات ما بعد القذافى مدينة سرت، حتى تحولت إلى «مسرح للقتال بين المجموعات المتنافسة»، وهو ما خدم داعش كثيرا.
وتابع «ظهور داعش وغيره من الجماعات الإرهابية فى ليبيا، كان سببه الرئيس، فشل حكومات ما بعد القذافى، ما تسبب فى انهيار حكم القانون والأمن وانتشار الفساد والركود الاقتصادى وتهميش عدد من القبائل والمجتمعات، وتمكين المجموعات المسلحة، وتوسيع دائرة عدم الاستقرار».
واستطرد الباحث، قائلا: «إن داعش لم يكن التنظيم الأكثر تجذرا أو الأقوى فى ليبيا، إلا أنه دخل سرت بسهولة عقب خروج تنظيم (أنصار الشريعة) منها، على يد قوات ليبية من الشرق، واستخدم الأساليب الوحشية لإحكام قبضته على المدينة، ربما كان أبرزها سحقه لتمرد قبيلة الفرجان ضده، بعد مقتل أحد أفرادها».
عمق استراتيجى وتاريخى
تتوسط سرت الساحل الليبى على البحر المتوسط، على بعد ٤٥٠ كلم شرق العاصمة طرابلس، واسم سرت الكبرى ارتبط بالمنطقة الممتدة من بلدة العقيلة شرقًا، وحتى الهيشة غربًا، وهى بذلك تسيطر على أطول مسافة بالساحل الليبى تبلغ ما يزيد على ٤٠٠ كلم، وبفضل تموضعها على الخليج الذى يحمل اسمها اكتسبت عمقًا استراتيجيًا يجعلها ترتبط بالجنوب الليبى والأفريقى بشبكة طرق، ومسالك تاريخية عبر الواحات.
وعرفت سرت بأسماء عدة على مر تاريخها منها ماكمدوس، إيفورانتا. وتحتوى المدينة على آثار تعود إلى ما قبل التاريخ كالنقوش والرسومات التى عثر عليها فى عدة أنحاء منها، إضافة للمعالم الأثرية الفينيقية والرومانية والإسلامية.
وترتبط المدينة بأهم شبكة طرق بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، حيث تتميز بموقعها الاستراتيجى الذى جعلها محطة رئيسية عبر العصور أمام حركة التجارة، وازدادت أهميتها بعد اكتشاف النفط باعتبارها تقع فى إحدى المناطق الغنية بالنفط بين حوضى حقول سرت ومرادة وزلة، وهى تعتبر أهم وأكبر مدينة يقع فى محيطها ما يعرف بالهلال النفطى الليبى الذى يحتوى على أكبر تجمع لإنتاج وتكرير وتصدير النفط فى ليبيا.
ومدينة سرت الحالية تعد مركزًا لما يعرف بسرت الكبرى، وهى التى تشمل عددا من البلدات والقرى والمناطق المحيطة بها، والمنتشرة من الحدود الإدارية لمصراتة، وبنى وليد غربًا، وحدود إجدابيا شرقًا، والجفرة جنوبًا، فيما يحدها البحر المتوسط شمالًا.
كما أن المدينة بها من المقومات الأساسية التى تجعلها تستطيع أن تكون حلقة وصل بالعالم الخارجى أيضًا، فهى تحتوى على مطار القرضابية الدولى الذى يستطيع استقبال الطائرات بجميع أنواعها وأحجامها، وبها أيضًا ميناء تجاري، وإن لم تكتمل منشآته ومرافقه، إلا أنه قادر على استقبال أضخم بواخر وسفن العالم، وإلى جانب ذلك تشتمل المدينة على قاعدة القرضابية الجوية التى تعد من أكبر وأهم القواعد الجوية الليبية لما تحويه من إمكانات وما تتميز به من موقع يعتبر الأقرب لكل مناطق البلاد.
وفى ضوء ما سبق، فإن لمدينة سرت أهمية استراتيجية قصوى للإمساك بمفاتيح الحركة والسيطرة على ليبيا.
ويرى مراقبون أنه على النقيض من العراق وسوريا، لا تتوافر فى ليبيا بعض الظروف الأساسية، التى سمحت لداعش بتحقيق مكاسب سريعة، فالتنظيم يفتقر هناك إلى الروابط الراسخة مع القبائل والمجموعات الاجتماعية الليبية النافذة، كما أنه لا وجود لانقسام مذهبى قوى فى ليبيا أو لعدو مشترك يمكن حشد الدعم ضده، لذلك يركز التنظيم على الظروف، التى من شأنها أن تتيح له ترسيخ نفوذه هناك، وتحديدا عبر سرت.
(البوابة نيوز)