بوابة الحركات الاسلامية : هل يعيد الإسلام السياسي تشكيل العالم الإسلامي؟ (طباعة)
هل يعيد الإسلام السياسي تشكيل العالم الإسلامي؟
آخر تحديث: الإثنين 12/02/2018 06:42 م
هل يعيد الإسلام السياسي
يحاول جون اوين الرابع، استاذ العلوم السياسية في جامعة فرجينيا الإجابة على هذا السؤال من خلال كتابه (مواجهة الاسلام السياسي: ست دروس من الماضي الغربي) 2015، حيث  يؤكد أن الاسلام كدين ليس مسؤلاً عن كل هذا الارهاب الذي يجتاح العالم تحت مسميات مختلفة، بل هو خلاف عميق بين المسلمين حول الدرجة التي يجب أن يشكل الاسلام فيها القوانين ومؤسسات المجتمع. أغلبية المسلمين – اسلاميين و غيرهم- ليسوا بالطبع جهاديين ولا ثوريين ، لكن التنافس المستمر بينهم حول أي نظام مجتمع هو الصالح قد فرقهم . لقد خلق عداوات شرسة تقاوم أي مقاربة. والمحصلة هي عقدة مستعصية من المشاكل يفاقم بعضها الآخر.
وحسب جون اوين، جاهد المثقفون وصناع القرار في الغرب طويلا لفهم طبيعة الصراع لكن حتى الان لم تفلح هذه الجهود كثيرا. على الرغم من أن خبراء في الفقه الاسلامي والدين والتاريخ قدموا دراسات ثرية حول الاسلاموية، إلا أنهم يميلون لاعتبارها حالة فريدة من نوعها. والذي يتناسونه هو أن الاسلاموية ليست اسلامية فقط ، ولكنها مذهبية أيضًا . ما يعني أنها أيديولوجيا أو خطة لتنظيم الحياة العامة ، والتي يجب اخضاعها للتحليل كغيرها من الايديولوجيات الأخرى. لا يوجد جزء من العالم ولَد من المذاهب بقدر ما فعل الغرب نفسه، وللمساعدة في فهم واضح للشرق الاوسط المعاصر، من المفيد العودة للتاريخ الخاص بالغرب في صراع الأيديولوجيات. ومن هنا كان مدخل جون اوين لتتبع الصراعات الايديولوجية في الغرب لقراءة وتفكيك الحالة الاسلاموية. حيث ان أجزاء من عالم الاسلام اليوم يشبه شبها لا يصدق الشمال الغربي من أوروبا قبل 450 عام مضت اثناء ما يسمى بالحروب الدينية. كما هو الحال اليوم، اندلعت موجة من انتفاضة دينية عبر مناطق واسعة أشعلت دولا عدة وتهدد بتحطيم المزيد. فقط في ستينات القرن السادس عشر الميلادية 1560، واجهت كلا من فرنسا وهولندا واسكتلندا ثورات قادها أنصار الفرع الجديد من البروتستانتية تدعى بالكالفينية. ولم تكن كالفينيتهم مشيخية أسقفية كما هي في القرن الواحد والعشرين أو التاسع عشر. الكالفينية أوائل العصر الحديث كما هي الكاثوليكية أو اللوثرية أو أي مذهب مسيحي آخر، أيدولوجية سياسية بقدر ما هو مذهب عقائدي. ظهرت هذه الحركة في وقت كانت أوروبا بصدد صياغة قانون اجتماعي- اقتصادي من قبل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، فقدمت الكالفينية نفسها على أنها معارضة لهذا النظام . كان تبني هذه الأيديولوجيا التزاما سياسيا بقدر ما كان التزاما دينيا، لطالما كانت الحروب الدينية حروبا سياسية أيضا.
كذلك يؤكد جون أوين في هذا الكتاب الذي ترجم جزء منه كدراسة منفصلة بواسطة لولوه الشدوخي وتم نشره على موقع الحكمة تحت عنوان "من كالفين إلى الخلافة: حروب أوروبا الدينية والشرق الاوسط الحديث" أن الإسلام السياسي اجتذب - مثل كثير من الأيديولوجيات الصاعدة في الماضي- قوة جديدة من الصراع الإقليمي الذي ساعد على تذكيته وهو محكوم بالبقاء. أضف إلى أن هذا النوع من التنافس الأيديولوجي الدائر في الشرق الاوسط لا ينتهي غالبا على طريقة الرابح الأكبر، بل يحتدم حتى تتطور المذاهب المتنافسة أو تتقارب. يحدث هذا فقط إذا تورطت جهات خارجية وأعادت تشكيل النظام في المنطقة. هذه الدروس لا تقدم حلا سحريا لتحديات الشرق الاوسط اليوم ، ولكنها على الأقل تظهر أن مشاكل المنطقة ليست فريدة من نوعها، وأنه باستطاعة القادة والدول أن يخطوا خطوة باتجاه تحجيم العنف وخلق ظروف أكثر موائمة للازدهار البشري.
على الرغم من أن صعود الاسلام السياسي ظاهرة فريدة من نوعها ، إلا أن الطريق الذي سلكه والأزمات التي فجرها تحاكي أجزاء من تاريخ الغرب. ما بدى كتنافس بسيط بين الاسلام السياسي والعلمانية في العالم الإسلامي، تحول الى صراع معقد. والسؤال الاساسي هو ما هي أو لمن تكون السيادة في المجتمع؟ وكانت شرارة البدء عن مصدر و محتوى القانون. يصر الاسلاميون على أنها الشريعة، ما يعني أنها يجب أن تستمد من النص المقدس للإسلام : الوحي المباشر من الله لمحمد والتي تمثل القرآن مع أقوال الرسول (الحديث). بينما يرى العلمانيون أن القانون يجب أن يستمد من العقل البشري والتجربة الانسانية وليس من الاسلام . أما العلمانيون المعتدلون فيرون أنه ليس من الاسلام وحده تستمد القوانين.
         وإن كان لتاريخ أوروبا في الصراع الأيديولوجي من شأنه أن يقدم أي درس جوهري للشرق الاوسط فهو كالآتي: أن لا تستهينوا بالاسلاموية. إن تاريخ أوروبا في الحروب الدينية يوضح لماذا الاستهانة بالأيديولوجيات التي عفا عليها الزمن يعد أمراً خطيراً للغاية. في مراحل كثيرة خلال تلك الحروب، بدا أن المنطق والتقدم ترسم حدا للعداوات ، بينما كان التنافس بين البروتستانتية  والكاثوليكية  يلقي بظلاله على السكان والاقتصاد. في مراحل عدة – شملت عام 1555 عندما أقر الولاة الألمان حق تقرير المصير الديني وفي 1590 عندما انتهت الحروب الدينية الفرنسية ، وعندما ضمنت الجمهورية البروتستانتية الهولندية استقلالها عن مملكة اسبانيا الكاثوليكية – بدا وكأن الازمة قد انتهت . بدأ الأمراء و النبلاء و المستشارون و رعاياهم يستقرون إلى سلام فعلي. و بدأت العقلية السياسية النفعية تسود مجدداً . حاملةً معها آمالا بأوروبا جديدة تعتني فيها الدول بمصالحها المادية وليست المذهبية.
         لكن أوروبا لم تنتهي بعد من العنف الأيديولوجي، ذلك لأن أزمة الشرعية والتي تغذي هذا العنف لم تحل بعد. ضل كثير من الأوروبيين مؤمنين أن الاستقرار السياسي يحتاج إلى اتحاد مذهبي . و ما داموا على اعتقادهم هذا ، كانت أدنى شرارة تعيد استقطابهم الى جماعات راديكالية متعارضة. وهذا ما حصل بالضبط عندما زجت الثورة البروتستانتية في بوهيميا بأوروبا في حرب الثلاثين عاما سنة 1618 .إلى أن فصل  الأوروبيون الاسئلة السياسية عن تلك الدينية نهاية القرن. عندها فقَدَ الدوغمائيون المتدينون سلطتهم الحارقة.
      نوع آخر من الاستهانة بالأيديولوجيات حدثت في فترة حديثة نسبيا، خلال التنافس العالمي بين الشيوعية والليبرالية   في القرن العشرين. عام 1913 اقنعت متاعب الكساد العظيم كثيرا من القادة المثقفين في الغرب بفكرة ان الديمقراطية الليبرالية قد تجاوزها الزمن. لفترة وجيزة بدت الدول المركزية ذات الأنظمة القسرية أكثر تسلحا للتعامل مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة ، مما حدى ببعض المفكرين لتبني الشيوعية. القليل منهم زار الاتحاد السوفيتي وعبر عن اعجابه صراحة. تحت حكم جوزيف ستالين كانت الصناعة تسير على قدم وساق ولم يلجأ العمال للإضراب أبدا .هذا الشعور نرصده في جملة الصحفي الامريكي لينكون ستيفينز عندما قال ” لقد اطلعت على المستقبل ، وأراها  فكرة ناجحة” يقصد الشيوعية ، بالنهاية طبعا انتعشت الديمقراطية الليبرالية وانتصرت.
         ليست الفكرة هنا أن الاسلاموية بالضرورة سوف تنتصر في الشرق الاوسط لكن حتى الاذكياء من الناس يستخفون بجدوى الانظمة السياسية البديلة. والنتائج بالفعل مؤلمة أحيانا.
         سر من أسرار بقاء الاسلام السياسي طويلا أن غير المنتمين للتنظيم قد استخفوا به كثيرا، التاريخ يخبرنا أيضا أن حياة أي أيديولوجية قد تمتد إذا توافر لها دول ترعاها. كما حدث مع الديموقراطية الليبرالية عام1930 و كما يحدث اليوم مع الإسلاموية. و بعيدا عن كونها انحرفت عن مسارها ، الا أن الاسلاموية قد تتنفس الصعداء.
  إن الاسلام السياسي كغيره من الأيديولوجيات المتنافسة في القدم ليس على نسق واحد . رغم اشتراك الاسلاميين في تفانيهم للشريعة , إلا انهم على مشارب عدة : السنة والشيعة ,المتطرفون والمعتدلون, القوميون والعالميون. هذا النوع من التباين أدى لمناظرة في الغرب : هل يجب على الولايات المتحدة وحلفاؤها احتواء الاسلاميين الواقعيين المعتدلين في المناطق التي تنافس  فيها أمريكا حركات اكثر تطرفا ؟ الذين يقولون لا يتصورون ان الاسلاموية حركة موحدة بكرهها للغرب. والذين يقولون نعم يصورون الاسلام السياسي على انه منقسم من الداخل. هذا الجدل ليس بالجديد أبدا . فالمعارضون لأيديولوجية ما غالبا ما يحاولون توظيف الانشقاقات الأيدولوجية لصالحهم . عبر التاريخ في الغرب , حاولت القوى الخارجية باستمرار استخدام تكتيكات من قبيل فرق تسد  وقد أعطت نتائج متضاربة  ,  وأحيانا  تنتهي هذه الجهود بنتائج عكسية.
    لا تحتاج القوى المتدخلة أن يكون لها مصالح دينية في الصراع، يكفي أن تكون المصلحة مادية. أحيانا أخرى , تجتمع الحسابات الأيدولوجية مع المادية ليحدث تدخلا. على سبيل المثال، خلال ثورات الربيع العربي في عام 2011، أرسلت المملكة العربية السعودية ذات الغالبية السنية قوات الى البحرين لوقف التمرد الشيعي وبالتالي احتواء الامرين تمدد الاسلام الشيعي و نفوذ ايران ذات الغالبية الشيعية .بعدها بقليل تدخلت ايران في سوريا لدعم نظام الاسد ضد المتمردين السنة واللذين يحتمل أن يتحالفوا مع السعودية فيما لو انتصروا. تطورات كهذه صعدت المخاوف بأن منطقة الشرق الاوسط سوف تشهد بازدياد دولا متهورة منطلقة من أيديولوجيات عازمة على تغيير النظام الاقليمي . بعض المراقبين قلقين فيما لو مثلا حازت ايران على اسلحة نووية أنها لربما تستعملها في زعزعة التوازن في الشرق الاوسط أو حتى تحرض على نهاية العالم.
     لا يقدم التاريخ حكما مبسطا عن مثل هذه المخاوف، لكنه يظهر لنا أنه من الممكن أن تكون الدولة عقلانية وأيديولوجية في آن معا. ربما كانت للنظام الذي يحكمه قادة مؤدلجون غاياتٍ إيديولوجية. كالتغيير التعسفي لنظام الاقليمي . ولتحقيق هذه الغايات ربما وظفت طرقا عقلانية . كالانسحاب مثلا عندما يصبح العدوان مكلفا جدا . لكنها أحيانا تتصرف بطريقة تناقض منطق المصالح والمفاسد في أعراف الجغرافية السياسية.
وكما هو الحال مع كثير من الأيديولوجيات المتصارعة من ذي قبل، فقد قادت الأزمة في الشرق الأوسط المراقبين إلى التساؤل عما اذا كانت الأيديولوجيات بالفعل هي السبب الجذري للأزمة ؟ نقاد كثر تتبعوا الصراع وعللوه بشيء آخر تماما: إنها الإمبريالية الغربية ، كانت أوروبية في السابق و هي اليوم أمريكية  .لقد أذلت المسلمين و حدت كثيرا من مقدرتهم على تقرير مستقبلهم على مستوى الأفراد و الجماعات. من هذا المنطلق، فإن الوجود العسكري للولايات المتحدة في المنطقة ودعمها لإسرائيل هو المسؤول عن العنف المتزايد. لكن جدلا من هذا النوع يتجاهل حقيقة أساسية وهي أن العالم مليء بالأشخاص والمجتمعات العاجزة المحطمة ، و الهيمنة الامريكية هي عالمية تقريبا. لكن عقدة المشكلات الغريبة المثيرة  للاضطرابات في الشرق الأوسط ومسلسل القمع والإرهاب والوحشية و استجلاب التدخلات الخارجية المتكررة بالكاد يمكن أن يوجد في أي مكان آخر.
البعض الآخر يلقي باللائمة على الفقر. فلو كان للمسلمين مزيدا من ثروة أو فرص فإن الأزمة سوف تنحسر. لكن هذه الحجة داحضة أيضا إذا ما قارننا عديد من المجتمعات الفقيرة في العالم بدول الشرق الاوسط نجد أن تلك المجتمعات الفقيرة استطاعت تجنب الفوضى. لو كان الفقر هو العامل الأهم إذن فأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى كانت ستشهد المزيد من الأعمال الإرهابية، والموجات الثورية، والتدخلات الأجنبية . وهكذا فإن الأدلة تعطي استنتاجا مختلفا: على الرغم من اعتبار الفقر والعجز عوامل مهمة لتفسير الخلل الذي الحاصل في الشرق الاوسط ، إلا أنه لا بد من أن نربط الأمر بأزمة الشرعية الممتدة في المنطقة .
         المبهج في الأمر أن الولايات المتحدة قد تشجع مباحثات أكثر استقرارا على المدى البعيد عن طريق دعم الدول والأحزاب التي تمثل نظام حكومة معتدل حتى و ان فشل هذا النظام أن يكون علمانيا خالصا.
أما السيء في الأمر أن هذا أقصى ما يمكن أن نتأمله, حتى القوة العظمى للولايات المتحدة لا تستطيع حل كل مشاكل المنطقة , فكل الأطراف سوف تعتبره بلا شك تدخلا متحيزا. يجب أن تحمي أمريكا مصالحها بالطبع وهذه مهمة تتطلب القوة أحيانا . لكن حتى الامبراطورية العثمانية القوة العظمى للمسلمين آن ذاك لم تتمكن من حل  النزاع بين المسيحيين زمن الحروب الدينية إبان القرن السادس عشر. لا يوجد فاعل خارجي يستطيع تهدئة الوضع في الشرق الاوسط. المسلمون وحدهم قادرون بأنفسهم على إنهاء حروبهم المذهبية.