بوابة الحركات الاسلامية : ابن تيمية والسلفية الجهادية (طباعة)
ابن تيمية والسلفية الجهادية
آخر تحديث: الثلاثاء 13/03/2018 04:52 م
ابن تيمية والسلفية
العلاقة بين جماعات التطرف والتراث الفقهي وأعلامه لم تنل ما تستحقه من اهتمام في خطابنا المعاصر ومشاريعه الفكرية التي اهتمت بنقد التراث أو تثويره، أو استلهام وايجاد حوامل منه للتنوير والنزعة الانسانية والنهضة المعاصرة، وتم تناسي علاقة التراث بجماعات التطرف وقراءتها له وأدوات استنادها إليه رغم عظم خطره وتصاعده خلال العقدين الماضيين.
ولم يكن للمؤسسات الدينية الرسمية دور كبير في كشف هذه العلاقة وتحقيقها، حيث وقفت قراءة التراث الفقهي والعقدي لديها من  اعادة النشر والتحقيق، أو دفاعًا عن مواقفها التاريخية المذهبية أو الكلامية، ضد خصومها، دون ان تلتحم نقديا وبشكل كامل، بتأويلات هذا التراث الحركية العنيفة – القديمة والمعاصرة – على السواء، ودون ان تنحاز إلى الراهن والمستقبل وبقيت في زوايا قراءة التراث التقليدية والسكونية دون غيرها.
وحسب هاني نسيره في دراسته "فهم التراث ومشاكل الجهاديين" والمنشور في الفصل الرابع من كتاب مركز دراسات الوحدة العربية (73) وعنوانه "بين السلفية وارهاب التكفير.. أفكار من التفسير" والذي يؤكد فيه نسيرة على ان هناك فجوات فهم واضحة بين ما ندركه من تحديات وما نفهمه منها، حيث احتكرت هذه الجماعات كثيراً من ابواب التراث الفقهي والكلامي، وادعته سندا ومعينا خاصا لها، يتم توظيفه وتأويله من أجل غاياتها الحاكمية والامامية المعاصرة، وهو الاستدعاء الذي كان مهملاً ومنسيا من النظر النقدي الشرعي والعقلي، من خصومها إلا نادراً ولم يكتب له الاستمرار أو الانتشار.
ورغم دعوات محاربة ومكافحة الارهاب والتطرف فأغلب الاهتمام ظل محصوراً في التنظيمات دون التنظيرات، ومن القادة العمليين دون القادة الفكريين، والممارسات دون الخطابات، رغم ان الافكار وبنيتها، والتنظير خطابا وممارسة خطابية هو الأهم من قراءة وتحليل التطرف وعملياته وذهنياته، فعبره يتم التبرير وعبره يتم الانتشار والتجنيد وتتكون الكيانات والزعامات.
وحول مدى تأثير ابن تيمية يؤكد نسيرة أن تأثيره امتد منذ القرن الثامن الهجري ولا يزال حاضرًا حتى الأن، فقد ورد ذكر ابن تيمية من أول نص جهادي "الفريضة الغائبة" لمحمد عبدالسلام فرج 25 مرة، ورغم ما يثبته التحليل الاحصائي من كونه الاكثر وروداً وتكراراً في كتابات مرجعيتها الجماعات الجهادية منذ هذا النص الاول وصولاً إلى الجيل الحالي الذي يمثل الجيل الثالث من منظري السلفية الجهادية بتنظيماتها المختلفة، وأنه ركن وعلامة الاسناد السلفي الرئيس عند هذه التيارات فكراً وتنظيماً، فإن ابن تيمية لم يكن مرحباً ملهماً ومقلداً لدى السلفية الجهادية، بل كان موظفا لإلباسها الصيغة السلفية والتأصيلية، فتم تأويله وتفسيره وتحريفه بعيداً من دلالات خطابه الاصلية"
فقد تم استخدام ابن تيمية من قبل السلفية الجهادية في مرحلتين متناقضتين، الاولى حال تأسيسها والثانية حال المراجعات في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وقد اعتمدت السلفية الجهادية قراءة ابن تيمية معتمدة على شوارد اقتطفت خطأ بعيدًا عن النصوص الأصلية وبعيداً عن مجمل خطابه وقواعده الكلية، بصيغة انتقائية وتأويلية، كما أن ابن تيمية حاضر وبقوة في تيارين متعارضين من تيارات الاسلام السياسي أولهما الدعوات السلفية غير الجهادية، والثانية التنظيمات السلفية الجهادية، التي وظفته لتبرير الجهاد كمنهج للتغيير.

تعرف السلفية الجهادية على ابن تيمية:

تعرف السلفية الجهادية
يؤكد هاني نسيرة في هذا البحث على أن بداية تعرف الجهاديين على ابن تيمية كانت مصادفة، وليس تأسيساً عبر فتواه في التتار وأهل ماردين، وهو ما يمكن التأريخ له حسب الرواية الأشهر بعام 1958 مع تأسيس أول مجموعة جهادية مصرية على يد شاب مصري عشريني يدعى نبيل البرعي حين وجد على سور الأزبكية في مصر كتيباً صغيراً يضم فتاوى جهادية لابن تيمية منها هذه الفتوى، فرأى في ابن تيمية جهادياً لا سلفياً فقط، كما ترى الدعوات السلفية التي كانت شائعة في مصر حينها، وطار بها مؤسسا أولى هذه المجموعات، التي توالت وظلت مجموعات متفرقة لم تنظم في تنظيم واحد إلا مرتين أولاهما 1979 مع محمد عبدالسلام فرج وقتل السادات.
والثانية مع أيمن الظواهري وقيادته لتنظيم الجهاد منذ أواسط الثمانينيات حتى انضمامه للقاعدة 1997. وقف الاستدعاء الاول لابن تيمية عند محمد عبدالسلام فرج على آراء متناثرة ومتفرقة في وصف التتار، وموالاتهم غير المسلمين، اسقاطاً على الحالة المصرية بعد معاهدة السلام مع اسرائيل 1978، وكذلك غيرها من النصوص التي تنص على تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله، واحكام الديار وهي الدولة بمفهومنا المعاصر والحديث، وقتال الباغين والخارجين عن شرع الله، اعتمادًا على فتوى التتار التي لم ينتبه لوصل الدار المركبة فيها، كما واصل خطأ من نقلها وقع فيه ناشر الفتاوى فرج الله الكردي 1909، يحقق محل الفتوى فيها، ولا مجموع أراء ابن تيمية بشكل كامل في هذه المسألة.
هكذا استخدم محمد عبدالسلام فرج، وغيره، من منظري السلفية الجهادية هذه الفتوى من اسقاطاته على الحالة المعاصرة من المحاور الثلاثة التي نظمت الفكر الجهادي والسلفي الجهادي كله وهي: حكم الدار حسب غلبة الأحكام عليها، حكم الحاكم بغير ما أنزل الله، التوحيد الكامل هو الجهاد، لإقامة الدولة الإسلامية، وينتهي محمد عبدالسلام فرج إلى اسقاط كل ذلك على حكم الرئيس الراحل السادات وجواز حربه وقتله، ولو قتل بعض المسلمين تترساً.
ويلاحظ نسيرة في هذا الاستناد إلى فتوى التتار عدداً من الأخطاء حددها في:
1) الانفصال عن مجمل خطاب ابن تيمية ومفاهيمه.
2) خطأ نص الفتوى المعتمد عند الجهاديين.
3) غياب تحقيق محل الفتوى وهو تتار ماردين.

الامامة والحكم عند ابن تيمية.

الامامة والحكم عند
رغم كثرة مؤلفات ابن تيمية وتنوعها، لم يؤلف في مسألة الامامة أو الخلافة أو الاحكام السلطانية، شيئا، باستثناء السياسة الشرعية التي تهتم بسياسة المحتسب وادارة المجتمعات وكذلك رسالته المظالم المشتركة، وتركز اهتمامه على باب العقائد والأصول. وهو ما يؤكد أنه رغم تجلي هاجس الخوف والتحذير من اختراق الأخر، عقيديا وفكريا، للمنظمة الاسلامية من العديد من كتابات ابن تيمية، وخاصة في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أهل الجحيم" وغيره من الكتب التي كتبها ضد الجهمية والباطنية وتناول فيها الفلاسفة العرب واليونان، في أجزاء متفرقة، إلا أنه في هذا الكتاب ركز على الاعتقاد والعبادة ولم يحذر من التشبه بهم في مسائل الحكومة والحكم وانماطه ولم يتشبث بنمط الخلافة منه.
وحسب نسيرة، يرى ابن تيمية ان نمط الخلافة يمكن ان يشوبه الملك، وقد شاب النبوة عند داود وسليمان، وكان يدرك أنه أثر من العهد الأول عن وصف الخلافة الأموية بالهرقلية والكسروية، بعد ان صارت ملكاً، أو النقد الناصح الذي كاله بعض الزهاد والعلماء لأبي جعفر المنصور حين رأى أبهة ملكه، وعاب عليه التشبه بملوك الفرس، وجاء تركيزه في هذا الكتاب ومن غيره على البدع العقدية والمذهبية، فخصص الجزء الأكبر منه للصوفية وعلى تهمة الحلولية ورد على مقولتهم في الولاية، كما بحث جزء كبير منه مسألة المغالاة في الأئمة وآل البيت، وغير هذه المسائل.
ويرفض ابن تيمية ربط البعض بين الامام أو القائد أو الدولة. كما هو ربط الجهاديين المعاصرين وبين حفظ الشرع والدين والايمان وما شابه، وان النبي كان مطاعاً كونه حاكماً وغير ذلك من حجج انصار الامامة والحكم من طرق عديدة، مؤكداً ومفصلاً أن الأمة وليس الامام والفرد هي حافظة وحارسة الشرع، وان ثبوت الامامة وأي ولاية انما هي بموافقة أهل الشوكة وحاصلها القدرة والسلطان، لكنه يرى أن الخروج ليس حلاً على جور الأئمة، بل هو مثار الفتن وتفتت وانهيار القوة، ويشدد على الضد وهو أن الصبر على جور الأئمة من اعتقاد أهل السنة والجماعة، وان الخروج كان مذهباً قديماً لبعض أهل الحديث ثم عادوا عنه، وهو ما يضاد منطق الخروج المعاصر، فيقول ابن تيمية في باب "الصبر على جور الأئمة" قياساً على المصلحة والمفسدة من هذا الأمر: «ولهذا أمر النبي صل الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ونهى عن قتالهم، ما أقاموا الصلاة، وقال: أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم» وهو ما نجده في قوله كذلك من رسالتيه المظالم المشتركة والسياسة الشرعية، وجعل ابن تيمية من أصول اهل السنة والجماعة، لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة.

حول مفهوم الحاكمية

حول مفهوم الحاكمية
هناك ثمة مشكلاً كبيراً حسب نسيرة يتمثل في اسقاط أو اقتطاع فتاوى ابن تيمية على الواقع المعاصر، الذي يحتفظ بتصورات وتحديات خاصة تختلف من تلك التي كانت في عصر ابن تيمية أو عصور الخلافة الأولى، وهي ان عصر ابن تيمية لم تكن أزمته مع تصورات الحكم والشريعة وتطبيقها، كماهي الأزمة في العصر الحديث وسقوط الخلافة التي ظهرت بعدها كرد فعل على سقوطها تيارات الاسلام السياسي المعاصرة، فكانت استعادتها هدفا لبعض هذه الحركات ذات الطابع الأممي، وكذلك تطبيق الشريعة وأسلمة القوانين للحركات ذات الطابع الوطني والاصلاحي الاسلامي، وهي قضايا تختلف عن تلك التي كانت في عصر ابن تيمية وأولوياته.
فلم يرد ذكر تعبير (الحاكمية) في تراث ومجمل مؤلفات ابن تيمية، ولم يرد لها ذكر في التراث الفقهي سوى مرة واحدة عند كاتب مجهول لا يزال نصه مخطوطاً لم ينشر، وهو طوغان شيخ المحمدي (المقدمات السلطانية في السياسة الشرعية) وهو ما يؤكد هامشية وعدم اصالة المفهوم (الحاكمية) على العكس مما يؤكد أن المودودي وقطب هما أول من اصطك المصطلح.
ويتضح في الاخير ان منظرو السلفية الجهادية تجاهلوا واقعية ومقاصدية ابن تيمية في الشأن العام. وتبعهم في ذلك خصومهم، وعبره اتهم ابن تيمية بعضهم، بينما نلاحظ واقعيته فيما يتعلق بالشأن العام ويعتمد النهج والمدخل المقاصدي الذي يؤمن بضرورات الشريعة ومقاصدها وفقه الموازنات، كما ضبط ابن تيمية موقفه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بفقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، وقد اختزلت السلفية الجهادية وتنظيماتها، من الجهادية القطرية إلى القاعدة إلى داعش. ابن تيمية في فتوى التتار دون تحقيق، واثيرت اراءه في النقد الموضوعي لمخالفيه، وخلطت بين نقد وتكفير المقولات ونقد وتكفير المعينين الذين قد يعذرون بالتأويل أو الجهل أو غير هذا فيؤكد أنه لم يقل بتكفير معين، ويلح على تكفير المقولة وتكفير صاحبها قائلاً "لا يلزم اذا كان القول كفراً أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الأخرة من حقه وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه واذا لم يكونوا في نفس الأمر كفاراً لم يكونوا منافقين فيكونون من المؤمنين فيستغفر لهم ويترحم عليهم».
وهذه المقولة لابن تيمية تكشف مشكلات تأويل التطرف السلفي الجهادي لابن تيمية في مرحلته الاولى، رغم مراجعات بعضهم، واستثماره وخطأ متابعة الخطاب المعاصر لهم من ترديد صحة العلاقة بين خطاب ابن تيمية في القرن الثامن الهجري وبين هذه الجماعات المعاصرة، التي أساءت الفهم ولم تحسن النقل، وتتحرك بخطابه توظيفاً وتأويلا لغايتها الحاكمية وان تنكرت لذلك.