الأخطر في التنظيمات الإخوانية هي أنها تستقطب الفرد وقد استوفى كل حالات المراهقات السياسية والتقلّبات المزاجية مع تضخم أزمته الوجودية فتتلقّفه "ثمرة يانعة".
رشيد (54 عاما)، والذي كنا قد تعرفنا إليه في دمشق منذ ما يزيد عن عشر سنوات، التقينا به، وبالمصادفة، في أحد أحياء مدينة إسطنبول التي يمتلك فيها مكتبا عقاريا لبيع وشراء واستئجار الشقق، ويتعامل معه السوريون اللاجئون كل يوم بالعشرات. رشيد مازال منذ عهدنا به في دمشق، غير متزوج، يعزف على آلة العود، ومحب لفن الخط وقد زين مكتبه بلوحات من رسمه. الخط الذي فتن به رشيد منذ صغره وأتقنه وبرع فيه وتمكن منه أكثر في سجن صيدنايا الشهير (30 كلم شمال دمشق)، أين قضى 6 سنوات بتهمة الانتماء إلى تنظيم حزب العمل الشيوعي المحظور.
بعد الإفراج عنه في منتصف التسعينات، عاش رشيد مع والدته المسنة في بيتهم بحي الروضة الدمشقي مدة عام ونصف، قضاها مدمنا على الكحول، حاد المزاج، نزق الطبع، يشتم الكثير من رفاق السجن الذين بدأ النظام بالإفراج عنهم على شكل دفعات، وبدأوا بدورهم يتراشقون الاتهامات في ما بينهم بالوشاية لصالح أجهزة المخابرات.
يستثمر الفكر الجهادي في الأزمات الشخصية لدى العناصر التي يودّ استقطابها، ويتحيّن لها الفرصة لكي يظهر في مظهر المجيب عن كل الأسئلة الوجودية، ويظهر هذا واضحا عند جماعة الإخوان أكثر من غيرها، ذلك أنها تعتمد استراتيجيات طويلة المدى وتوحي بأن سياستها ليّنة ذات بعد اجتماعي تضامني، وهو أمر يمكن رصده من خلال رصد السير الشخصية لأفرادها
وسط هذه الأجواء التي يخيّم عليها اليأس والشعور بالإحباط، بدأ رشيد يتجه وبصورة غريبة نحو تلك الكتب الصفراء المتعلقة بالسحر والشعوذة والاستدلال على الكنوز. ويستدرج زبائن الحانة لقراءة أكفهم حتى صار يمتهن هذه الهواية مقابل كأس أو كأسين من المشروبات الرخيصة في حانة “جوزيف” الشعبية الشهيرة والتي تعج بالمهمّشين واللصوص والمخبرين والمثقفين على حد سواء.
ولوحظ أيضا عن رشيد (شيوعي الأمس) هوسه بقراءة التراث الصوفي بعد أن استبدل الكحول بالحشيش وكذلك استبدل حانة “جوزيف” بـ”مقام الأربعين” المعروف عند جبل قاسيون في دمشق، أين يقضي معظم وقته. وبعد أن توفيت أمه، اضطر إلى تسليم البيت ذي الإيجار القديم إلى مالكيه الأصليين مقابل مبلغ مكّنه من العيش مع ابن عمه في حلب، مسقط رأس والده، حيث استمر رشيد في مزاولة بعض الأعمال اليدوية بصورة متقطعة من خط وديكور ونسخ للوحات استشراقية ذات صفة تجارية.
اليوم لا يخفي رشيد انتماءه للتنظيم السوري للإخوان المسلمين بل ويعتز بذلك واصفا حالته بأنها “ولادة جديدة”. ويلتقي بعناصر من القيادات الإخوانية في مكتبه العقاري بإسطنبول التي لجأ إليها مع ابن عمه منذ بداية اندلاع الأحداث سنة2011.
يرتشف رشيد الشاي ويتبادل ذكريات السجن مع عناصر من تنظيم الإخوان الذين كان يتقاسم معهم تلك الأعوام الدامية ومعاداتهم للنظام السوري رغم الاختلاف الأيديولوجي الحاد.
يتناقش المجتمعون مع رشيد في المكتب الذي تتصدره صورة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في المستجدات الراهنة والتطورات الإقليمية فيلمح أحدهم في ممازحة استفزازية يتعرض فيها إلى ماضي رشيد الشيوعي المتطرف وذلك بسخريته من “بيان حزب العمل الشيوعي السوري الأخير، والذي يندّد فيه بالتدخل التركي في عفرين، والمجازر التي ارتكبت في حق الأكراد” فيشاركهم رشيد السخرية من الحزب وقياداته معلقا بأن تلك السنوات التي قضاها في سجن صيدنايا كانت “اقتطاعا مجانيا من سنوات شبابه”، شاكرا الله بأنه سوف يقضي باقي سنوات عمره وهو على “الجادة الصحيحة والصراط المستقيم”.
الحقيقة أن رشيد لم يفقد الكثير من روح النكتة التي عرف بها رغم جديته الطاغية، فهو يمضي في تذكّر تلك الأيام الخوالي بسجن صيدنايا مع نزلاء آخرين من الإسلاميين وغيرهم ممن استقر بهم المقام في إسطنبول كلاجئين أو متهيئين للعبور إلى أوروبا. ويتحدث الجميع عن هذا السجن بالكثير من الرهبة التي تصل حد الغرابة المفزعة.
ويعد سجن صيدنايا من أكبر سجون البلاد وأفظعها وأسوئها سمعة. عُرف منذ تشييده عام 1987 بأنه سجن عسكري يضم الآلاف من الجنود والضباط المتهمين بمخالفة القوانين العسكرية، لكنه في الواقع كان معتقلا للمئات من السياسيين السوريين والعرب أغلبيتهم الساحقة من الإسلاميين.
نظرة سريعة ومتفحّصة على مكتب السمسرة العقارية الذي يديره رشيد في أحد أحياء إسطنبول المكتظة، من شأنها أن تكشف ربما حلقات كانت ضائعة في سيرة إخواني اليوم ماركسي الأمس، ذي السلوك المضطرب أحيانا، وتضيء جوانب ما يمكن تسميته بـ”السمسرة السياسية”، كما وصفه أحد الأصدقاء المشتركين.
بالإضافة إلى باب خلفي يفضي إلى ممرات داخلية، ومكتب سكرتيرة محجّبة تتولى الرد على المكالمات وتكلف شابا بمرافقة الزبائن، فإن أبرز ما يمكن أن تقع عليه العين في مكتب رشيد، هو ورقة تحت بلور الطاولة الخشبية الأنيقة، كان قد كتب عليها وبخط ذهبي وقور، مقولة ليوسف القرضاوي قالها سنة 2014 وهو يبارك أردوغان، خليفة للمسلمين في العالم، وجاء نصها على النحو التالي “الرجل الذي صنع تركيا هذه هو رجب طيب أردوغان، إنه الزعيم الذي يعرف إلهه الذي يعرف نفسه، الذي يعرف شعبه يعرف الأمة، الذي يعرف العالم.. عليكم واجب تقديم الدعم له وأن تقولوا له بكل فخر واعتزاز: امض قدما.. أتنبّأ بأنه سوف ينجح، بعون الله، لأنّ الله معه، وكذلك الملاك جبرائيل، ولأنه أمير المؤمنين”.
طلب منا رشيد إبداء الرأي في المقولة التي خطها بأنامل يده، اكتفى صديقي بالصمت، أما أنا فأجبته بأن “خطه الديواني في تحسن مستمر”، ابتسم رشيد ثم عقب بجدية قائلا إن إسطنبول تبقى العاصمة الأبدية لفن الخط والفن الصوفي في العالم دون منازع.
الصديق الذي رافقني لزيارة رشيد في مكتبه بإسطنبول، مهتم بالدراسات السيكولوجية والسوسيولوجية التي عادة ما تتابع سير هؤلاء الأشخاص المتقلبين والمنتقلين بين الأفكار والأيديولوجيات التي تنتهج الحدة والتعصب، وتقف على طرف نقيضها بعضها البعض، سألني إن كانت لرشيد أزمة أسرية حادة ذات بعد أخلاقي قد تعرض لها بين الطفولة والمراهقة. قلت له إن رشيد قد أخبرني يوما في دمشق بأنّ أباه ذا الأصول التركية، قد أودعه كتّابا لتحفيظ القرآن في عطلة الصيف، وأن المعلّم قد تحرش به جنسيا وتكررت معه الحالة أيضا عند دكان الخياط في الحي الذي يسكنه، وأن الأمر شكل له عقدة بدأت تتنامى وتكبر بالتزامن مع ما يشاع عن سيرة والدته بعد وفاة والده المتقاعد من سلك الشرطة، والذي كان يكبرها بفارق عمري شاسع.
نظرة فاحصة إلى مكتب السمسرة العقارية الذي يديره رشيد الإخواني تضيء جوانب مما يمكن تسميته بـ"السمسرة السياسية"
أذكر أن رشيد قد قال لي إن هذه القصة لا يعلمها إلا أنت و”سلوى”. سلوى هنا هي ـ وحسب ما علمت منه فيما بعد ـ الفتاة الوحيدة التي تعرف إليها، رافقها وأخلص إليها منذ مراهقته وشبابه. خففت عنه هذه الفتاة المسيحية الكثير من المعاناة، صارا صديقين حميمين وانتسبا معا إلى تنظيم رابطة العمل الشيوعي آنذاك بفضل خال سلوى، مدرس الرياضيات في إحدى المدارس الثانوية، والذي هرب إلى بيروت، تخفّى في كنيسة ثم انتهى به الأمر إلى راهب، حسب ما جاء في رواية رشيد.
سألت رشيد عن مصير رفيقته سلوى التي اعتقلت معه فأجاب بأنه قد أفرج عنها بعد عام موعزا ذلك إلى تمييز نظام الأسد للمسيحيين ومعاملته الخاصة لهم. وقال إنها انتسبت إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي (تأسس سنة 1932على يد أنطون سعادة)، وهو حزب راديكالي يؤمن بالأمة السورية، يتهمه البعض بالفاشستية ومعظم قياداته وقواعده من المسيحيين والأقليات غير السنية عادة. وفسر رشيد هذا السلوك بأنه “عودة إلى جذورها الحاقدة”، معقبا بالقول “أن الشيوعية لم تكن إلا مرحلة تقية”، على حد تعبيره.
عدة نقاط وزوايا حادة تلفت الانتباه في سيرة رشيد الإخواني هذا، وتشكل مفاتيح قد تبدو نافعة في تشخيص مثل هذه الحالات، أهمها أن البيئات المنغلقة في المدن ذات الأغلبية السنية المسلمة، يمكن لها أن تكون حاضنة للفكر المتطرف يمينا أو يسارا، وذلك بسبب أنماط منغلقة من التربية تؤدي إلى سلوكيات صادمة تنتج بدورها ردات فعل متطرفة.
أما الملاحظة الأكثر تشابها عند مسح ورصد سلوك التنظيمات الإخوانية، فهي أن هذه الجماعات تستثمر في الأزمات الفردية عند مرحلة الاستقطاب، وتركز على الأزمات الجماعية عند بدء العمل والتحرك. وما تأخذه بعين الاعتبار دائما هو التفكير في اختيار التوقيت كوسيلة للحسم والانقضاض على الأهداف رغم أنها كثيرا ما تفشل في ذلك كما يدل عليها وضعها الراهن.
الأخطر من ذلك كله في التنظيمات الإخوانية ـ وعلى عكس غيرها من الجماعات الإسلامية ـ هي أنها تستقطب الفرد وقد استوفى كل حالات المراهقات السياسية والتقلّبات المزاجية مع تضخم أزمته الوجودية فتتلقّفه “ثمرة يانعة” توحي بالاستواء والحكمة والصواب في اتخاذ القرارات.
(العرب اللندنية)