على الرغم من أن الإرهاب، يضرب بقوة فى فرنسا، منذ 2015، إلا أن الهجمات التى نفذها تنظيم«داعش»، فى مدينتى «تريب» و«كاركاسون» فى جنوب غربى البلاد فى 23 مارس، كانت الأخطر من نوعها، سواء فيما يتعلق بتوقيتها، أو دلالاتها، بالإضافة إلى ما صاحبها من روايات متضاربة حول منفذها.
وزاد من صدمة الفرنسيين، أن الإجراءات الأمنية المشددة فى البلاد، لم تمنع مثل هذه الهجمات، لدرجة دفعت البعض للتساؤل، كيف تمكن منفذها من التنقل بحرية، وبحوزته أسلحة آلية؟ وما جدوى الحرب، التي تشنها فرنسا خارح حدودها، إذا كان التطرف يتغلغل في عقر دارها.
الجالية الإسلامية فريسة سهلة للتنظيم بسبب «التهميش»
مخاوف من هجمات جديدة في ظل الاحتجاجات الرافضة لاصلاحات «التوظيف والتفاعد»
ظاهرة الفرنسيين العائدين من ساحات القتال في سوريا تمثل الكابوس الأمني الخطير
ويبدو أن توقيت الهجمات الجديدة أظهر أيضا مدى إلمام التنظيمات الإرهابية بتعقيدات المشهد السياسى في فرنسا، ما أثار مخاوف واسعة من وقوع المزيد من الاعتداءات، في ضوء الاحتجاجات الواسعة، التى تشهدها البلاد، رفضا لإصلاحات حكومية تتعلق بنظام التوظيف والتقاعد، أبرزها إلغاء نظام العقود الخاصة لعمال السكك الحديدية، التى تضمن لهم امتيازات، بالإضافة إلى توجيه القضاء الفرنسى اتهاما للرئيس الأسبق نيكولا ساركوزى بالفساد، والتمويل غير القانونى لحملته الانتخابية عام ٢٠١٧، عبر الحصول على أموال من ليبيا، وهى القضية، التى أثارت غضبا شعبيا إزاء فساد النخبة السياسية.
يبدو أن أزمة تهميش الجالية العربية والمسلمة فى فرنسا، لم تكن غائبة هى الأخرى عن الجدل، الذى تفجر على خلفية هجمات «كاركاسون»، و«تريب»، إذ توجه اتهامات للحكومات الفرنسية المتعاقبة، بأنها أهملت إدماج هذه الفئة، التى تنحدر من أصول مغاربية وأفريقية، ما جعلها فريسة سهلة للتنظيمات الإرهابية.
ورغم أن هناك عددا من الأسباب الأخرى، التى يبرر بها الإرهابيون، استهداف فرنسا، أبرزها استعمارها فى السابق دولا عربية ومسلمة، ومشاركتها فى التحالف الدولى لمحاربة تنظيم «داعش» فى سوريا والعراق، وقرارها حظر النقاب فى الأماكن العامة، إلا أن عدم دمج المهاجرين العرب والمسلمين فى المجتمع الفرنسي، يبدو السبب الرئيسي، الذى ساعد التنظيمات الإرهابية فى اختراق هذه الدولة الأوروبية بشكل متكرر، خاصة أنها تضم أكبر جالية مسلمة فى أوروبا، تقدر بحوالى ستة ملايين، يتركز معظمها فى ضواحى باريس، وتعانى أوضاعا اجتماعية واقتصادية مزرية، منها انعدام السكن المناسب، وانتشار البطالة بين الشباب.
ولعل أعمال العنف، التى اندلعت فى ضواحى باريس فى خريف ٢٠٠٥، تم خلالها حرق سيارات وممتلكات، وتخللها اشتباكات مع الشرطة، دقت ناقوس الخطر فى هذا الصدد، لأنها أظهرت أن هناك بالفعل مشاكل فى الاندماج داخل المجتمع الفرنسي، وهذا هو المناخ المثالى لنمو الإرهاب وتزايد عدد المتطرفين، إلا أنه لم تحدث أى خطوات جدية على أرض الواقع لحل هذه الأزمة، وهو ما شجع تنظيم «داعش» على استباحة الأراضى الفرنسية.
منذ ٢٠١٥، تشهد فرنسا، العديد من الهجمات الدامية، من قبل الذئاب المنفردة والخلايا النائمة التابعة لداعش، التى اتبعت أوامر زعيم التنظيم أبوبكر البغدادي، وأبومحمد العدنانى المتحدث السابق باسمه.
ففى وصية للمتحدث الرسمى السابق للتنظيم، أبومحمد العدناني، المقتول فى أغسطس ٢٠١٦، إثر غارة جوية نفذتها قوات التحالف الدولى بمدينة حلب السورية، قال مخاطبا ذئابه المنفردة فى تسجيل صوتى فى ٢٠١٤ «ابذل جهدك فى قتل أى أمريكى أو فرنسي، فإن عجزت عن العبوة أو الرصاصة، فانحره بسكين، أو اقذفه من شاهق، أو ادهسه بسيارة».
ولم يتأخر تنفيذ الوصية السابقة، إذ شهدت فرنسا، وعاصمتها باريس، التى يطلق عليها «عاصمة النور»، هجمات كثيرة من أشهرها، تلك التى وقعت فى ١٣ نوفمبر عام ٢٠١٥، واليوم الدامى الذى عاشته باريس حينها، عندما استهدفت عدة هجمات متزامنة ستة أماكن حيوية فى العاصمة الفرنسية وضواحيها، بما فيها ملعب «استاد دو فرانس» لكرة القدم، ومسرح «الباتاكلان»، ما أسفر عن مقتل ١٣٠ شخصا، وجرح ٣٦٨ آخرين، وهى الأحداث الأكثر دموية فى تاريخ فرنسا.
وفى الفترة الأخيرة، شكلت ظاهرة الفرنسيين الدواعش، العائدين من ساحات القتال فى سوريا والعراق، الكابوس الأمنى الخطير، الذى يؤرق مراكز القرار السياسى فى فرنسا، حيث تنتشر مخاوف واسعة من أن يقوموا بتنفيذ عمليات إرهابية أكثر وحشية من سابقاتها، للانتقام من الهزائم العسكرية، التى تلقاها داعش فى مختلف المناطق، التى كان يسيطر عليها، إضافة إلى خشية الحكومة الفرنسية من أن تساهم هذه العناصر، فى زرع خلايا نائمة جديدة فى المجتمع الفرنسي.
ولعل ما يزيد من احتمال وقوع هجمات جديدة فى فرنسا، أن «داعش» كثف مؤخرا من نشر الإرشادات لذئابه المنفردة حول كيفية تنفيذ عمليات إرهابية فى القارة الأوروبية، كما نشر فى فبراير الماضى مقطع فيديو جديدا بعنوان «ونراه قريبًا.. فتح باريس»، يتضمن مشاهد وهمية لاقتحام باريس، وبرج إيفل، أشهر معالمها السياحية.
وقام التنظيم فى فيديو «ونراه قريبًا.. فتح باريس»، والذى نشرته «مؤسسة العبد الفقير» الإعلامية التابعة له بموقع «التليجرام»، بتركيب مشاهد حربية، بالإضافة إلى مشاهد وهمية، منها «سقوط برج إيفل».
واستعان التنظيم أيضا فى الفيديو بكلمة المتحدث الإعلامى السابق باسمه، أبومحمد العدناني، فى أبريل ٢٠١٦، قال فيها، قبل مقتله فى سوريا: «إننا نريد باريس قبل روما وقبل الأندلس».
وبالنظر إلى أن هجمات «كاركاسون»، و«تريب» جاءت فى أعقاب الفيديو السابق، فإن مخاوف واسعة تنتشر بين الفرنسيين، من أن يكون ما حدث مجرد البداية فى سلسلة جديدة من الهجمات الإرهابية الدموية.
ويزيد من مخاوف الفرنسيين، أن منفذ عملية «تريب»، كان مصمما على إيقاع أكبر عدد من الخسائر، إذ نفذ هجومه على ثلاث مراحل، بدأ بسرقة سيارة فى مدينة كاركاسون فى جنوب فرنسا، بعد إطلاقه النار على سائقها، وقيامه بقتل راكبها، ثم فى مكان غير بعيد، أطلق النار على شرطى خارج دوام عمله، وأصابه بجروح، ثم دخل متجرا فى تريب على بعد نحو ١٠ كلم من كاركاسون، حيث احتجز رهائن هناك.
وقال الشرطى الفرنسى السابق، كريستيان جيلبير، الذى كان فى المتجر وقت الهجوم لـ«فرانس برس»، إنه «رأى شخصًا موتورًا يحمل مسدسًا، وسكينًا، يصرخ الله أكبر، ثم أطلق خمس أو ست رصاصات»، فيما قال حارس المتجر، الذى طلب عدم ذكر اسمه: «كنت على بعد خمسة أمتار. وأطلق باتجاهى رصاصتين، لم يكن يحسن التصويب»، موضحا أنه تمكن من إخراج عدد من الأشخاص المتواجدين فى المتجر من الباب الخلفي.
ومع وصول الشرطة، عرض الضابط أرنو بلترام، على المهاجم أن يأخذه رهينة، مقابل الإفراج عن باقى المحتجزين، وترك هاتفه مفتوحا على طاولة، فأتاح لزملائه معرفة ما يجرى فى داخل المتجر، وبعد ذلك، فتح المهاجم النار على الضابط وطعنه عدة طعنات فأصابه بجروح خطيرة، وعندها تدخلت وحدة من قوات النخبة الفرنسية، واقتحمت المتجر، وقتلت المهاجم.
وحسب السلطات الفرنسية، فإن العملية الإرهابية فى جنوب فرنسا، أسفرت عن مقتل أربعة أشخاص، وإصابة ١٥ آخرين، ونفذها فرنسى من أصل مغربى فى الخامسة والعشرين من عمره، يدعى رضوان لقديم، وتردد أنه قال إنه يريد «الموت من أجل سوريا»، ودعا إلى إطلاق سراح صلاح عبدالسلام، أحد منفذى اعتداءات ١٣ نوفمبر ٢٠١٥، والمسجون قرب باريس.
ورغم إعلان وزير الداخلية الفرنسى جيرار كولومب، فى البداية، أن «لقديم» تصرف بمفرده فى كاركاسون وتريب، إلا أنه سرعان ما أعلن تنظيم «داعش»، عبر أداته الدعائية «أعماق»، أن منفذ الهجوم فى جنوب فرنسا فى ٢٣ مارس، هو «جندى فى الدولة الاسلامية، وأنه استجاب لنداء التنظيم لمهاجمة الدول الأعضاء فى التحالف الدولي، الذى يقصف مواقعه فى سوريا والعراق»، حسب زعمه.
ويبدو أن سرعة تبنى داعش للعملية، وضعت السلطات الفرنسية فى حرج، إذ قالت فى البداية، إن «لقديم» كان معروفا لها بسجله فى تعاطى المخدرات، إلا أنه لم يلاحظ عليه ما يشير إلى اعتناق التطرف، أو أنه يمكن أن ينتقل إلى تنفيذ اعتداء، فيما نسبت وسائل إعلام فرنسية لمصادر أمنية، قولها، إن «لقديم»، كان حكم عليه فى مايو ٢٠١١ بالسجن شهر مع وقف التنفيذ «لحمل سلاح ممنوع»، ثم قضى شهرا فى السجن فى أغسطس ٢٠١٦، بعد إدانته بتعاطى المخدرات.
وبعد ساعات من الرواية السابقة، وعلى إثر بيان داعش، خرج النائب العام الفرنسى فرنسوا مولانس، بتصريحات قال فيها، إن أجهزة الاستخبارات كانت تراقب «لقديم»، وبأنه اعتبر متشددا، نظرا لعلاقاته بـ«الأوساط السلفية».
وبدوره، أدان الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، ما سماه «هجوما إرهابيا إسلاميا»، وأشاد «ببسالة الضابط أرنو بلترام، الذى تطوع للحلول محل رهائن آخرين، وأصيب بجروح خطرة، توفى على إثرها»، قائلا: «إن بلترام أنقذ حياة آخرين وشرف سلاحه وبلده، ومات بطلا».
وحيا ماكرون «مهنية» قوات الأمن، وقال: «لقد دفعنا منذ سنوات ثمن الدم لمعرفة خطورة التهديد الإرهابي»، معربا عن «تصميم مطلق» على مكافحة الارهاب، الذى كلف فرنسا ٢٤١ قتيلا ومئات الجرحى فى عامى ٢٠١٥ و٢٠١٦.
ويبدو أن تصريحات ماكرون السابقة، لم تمتص غضب الفرنسيين، الذين يشعرون بالاستياء من استمرار الهجمات الإرهابية، طيلة ثلاث سنوات، دون رادع.
ففى ١٣ نوفمبر ٢٠١٥، عاشت باريس وضواحيها عمليات إرهابية، هى الأكثر دموية فى تاريخها، أودت بحياة ١٣٠ شخصا، واستهدفت حينها ستة أماكن حيوية، بما فيها ملعب «استاد دو فرانس» لكرة القدم، ومسرح الباتاكلان.
وفى ١٤ يوليو ٢٠١٦، نفذ أحد عناصر تنظيم داعش عملية دهس فى مدينة نيس الفرنسية مستغلا التواجد الكثيف للمواطنين فى الشوارع للاحتفال بالعيد الوطنى، ما أسفر عن مقتل ٨٦، وإصابة ٣٠٠ شخص.
وقام تنظيم داعش أيضا بمحاولة لاستهداف بطولة أمم أوروبا، التى أقيمت فى فرنسا عام ٢٠١٦، بالإضافة إلى محاولة لاستهداف ملعب حديقة الأمراء أثناء مواجهة بين فريق باريس سان جيرمان وبوردو، حضرها حوالى ٥٠ ألف مشجع.
وفي أعقاب هجمات باريس في 2015، شددت فرنسا الإجراءات الأمنية، وفرضت أيضا حالة الطوارىء، وذكرت صحيفة "لوموند"، أن قانون "الإرهاب" الفرنسى، الأشد فى أوروبا، ورغم ذلك، لم تتوقف الهجمات في البلاد، بل زادت وتيرتها بشكل مخيف.
ويجمع كثيرون، أن هناك مشكلة حقيقية في فرنسا، تزيد من "التطرف"، وتتعلق بالتلكؤ في التصدي لظاهرة عدم الاندماج، التي توفر مخزونا بشريا للتنظيمات الإرهابية، هذا بالإضافة إلى أن هذه الدولة الأوروبية، يوجد لها أكبر عدد من المقاتلين في صفوف "داعش"، يقدر بحوالي 900 عنصر، ما يهدد استقرارها في الصميم.
(البوابة نيوز)