الجماهير العربية والإسلامية قد ترُكت فريسة للتيار الأصولي، وهي أيضا ضحية غياب النخبة المثقفة والمفكرة التي من المفترض أن تقود المجتمع.
القاهرة – الأصولية لا تخص دينا بعينه، وإنما يمكن لها أن تفتك بأي عقيدة وتنزع عنها جانبها المعتدل وحسها التسامحي، فمع مطلع السبعينات من القرن العشرين اجتاح العالم تيار اصطلح على تسميته بالتيار الأصولي الديني، وقد شاع وانتشر في كل الأديان مما دعا جامعة شيكاغو إلى دراسة تلك الظاهرة دراسة عالمية نشرت في خمسة مجلدات، وصدرت المجلدات الخمسة عن دار نشر جامعة شيكاغو من عام 1982 حتى عام 1990، وقد تناولت الباحثة منى أبوسنة، في كتابها " نقد العقل الأصولي"، دراسة شملت أربعة عشر دينا انتشر فيه تيار الأصولية الدينية، وكان لمصر فصل كامل في هذه الدراسة.
يتألف الكتاب من أربعة أبواب هي: الباب الأول: الأصولية والتنوير، الباب الثاني: العلمانية، الباب الثالث: إشكاليات التحول الديمقراطي في مصر، الباب الرابع: الأصولية والهوية الكوكبية، وفي كل باب تناولت المؤلفة عدة محاور شملت التعليم والثقافة والتنوير والأصولية والعلمانية، والهوية والمواطنة والعلاقة بين الجماهير والنخبة وغيرها من المحاور.
تكشف المؤلفة أنه على الرغم من ذيوع التيار الأصولي الديني في العالم، فإن هذا التيار لم يتبلور ويصبح واقعا ماديا إلا في دين واحد هو الإسلام، وبمذهبه الشيعي تحديدا، عندما أعلن عن قيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979.
وجسَّد الخميني مفهوم الحاكمية بتحويله إلى نظام اجتماعي عام 1979، وذلك بتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي حددها في كتابه “الحكومة الإسلامية”، والتي تدور حول فكرة محورية هي أن الأمر الإلهي له سلطان مطلق على جميع الأفراد وعلى الحكومة.
وقد أصَّل علي شريعتي، مُنظّر الثورة الإسلامية في إيران، في كتابه “سوسيولوجيا الإسلام” لمشروعية الحرب الدينية باعتبارها أمراً إلهياً مطلقاً من أجل تأسيس الدولة الإسلامية، حيث يقول “إن قصة هابيل وقابيل هي قصة التاريخ البشري، أي قصة الحرب التي اشتعلت منذ بداية الخليقة إلى اليوم. فقد كان الدين هو سلاح كل من هابيل وقابيل، ولهذا السبب فإن حرب دين ضد دين هي العامل الثابت في تاريخ البشرية”.
وتوالى انتشار التطرف وامتد إلى المذهب السني في شتى بقاع الأرض متجسدا في تنظيم القاعدة وطالبان، ومن ثم أصبح التيار الأصولي الديني تياراً كوكبياً، ويتسم هذا التيار الكوكبي بسمتين مشتركتين، أولا: الاعتقاد بأن أتباع ذلك التيار وحدهم دون سواهم من البشر يمتلكون الحقيقة الدينية المطلقة ومن عاداهم في ضلال مبين، ومن ثم وجب عليهم فرض تلك الحقيقة المطلقة على سائر البشر على اختلاف أديانهم ولغاتهم وذلك من خلال تجسيد تلك الحقيقة المطلقة في الخلافة الإسلامية على كوكب الأرض، تحقيقا لما يتصورون أنه الإرادة الإلهية متمثلة في خلفاء على الأرض.
إعادة المشروعية للتأويل لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال حركة إصلاح ديني شاملة تسعى إلى تجديد الفكر الديني في إطار رؤية مستقبلية كوكبية تنشر تحديث المجتمع
ثانياً: الالتزام بالفهم الحرفي للنص الديني وتكفير إعمال العقل فيه بدعوى أن إعمال العقل في النص الديني يعد شركا بالله لأنه يطلع عقل الإنسان ويساوي بينه وبين العقل الإلهي الذي أبدع ذلك النص الديني.
كما أن إعمال العقل في النص الديني، من وجهة رؤية أصحاب التيار الأصولي الديني، من شأنه أن يؤدي إلى تأويله تأويلا عقلانياً وهذا يعتبر، في رأيهم، تحريفا لكلام الله، مما دعا إلى تكفير فلسفة ابن رشد بما تشتمل عليه من نظرية التأويل القائمة على مبدأ “إخراج دلالة اللفظ من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي”، مما أدى إلى إحراق كتب ابن رشد وتم نفيه لمدة عام في قريته وعومل معاملة المنبوذين، ثم مات بعد عام واحد من رفع حكم النفي عنه. وظل التأويل الرشدي محرما ومكفرا حتى يومنا هذا.
وتطرح أبوسنة، أستاذة الفلسفة الإسلامية في جامعة عين شمس، السؤال التقليدي: لماذا تخلّف العالم الإسلامي؟
بيد أن هذا السؤال يعني أن العالم الإسلامي لم يكن متخلفاً، وهو بالفعل لم يكن كذلك، إذ كان متقدماً في العصر العباسي، العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، بانفتاحه على ثقافة الآخر وهي الثقافة اليونانية، فترجمها إلى العربية وتمثَّلها بعملية إبداعية فأنتج فلسفة وعلماً وفناً. لكن العالم الإسلامي تخلف عن المشاركة في هذه المسيرة، أي أنه لم يتمثل منتجات هذين العصرين: النهضة والتنوير، فأصبح محكوماً بدلاً من أن يكون متحكماً.
وتوضح المؤلفة منى أبوسنة أن أتباع التيار الأصولي الديني يسعون إلى نشر فكرهم في المجتمع من خلال بثه في الأنساق الاجتماعية من تعليم وإعلام وثقافة مع التركيز على نسق التعليم باعتباره النسق الذي يتم من خلاله بناء الشخصية وتكوين الذهنية.
وقد نجح التيار الأصولي السلفي الإسلامي، متمثلا في جماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفي، في خلق ذهنية أصولية تتوهم امتلاك الحقيقة المطلقة، وتسعى لفرضها على المجتمع فشاعت الطائفية الدينية ومعها العنف الديني الذي تبلور في الإرهاب الديني بدعوى الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام.
تقول الكاتبة: أنا هنا أسعى إلى تقديم تحليل نقدي لما أسميه “العقل الأصولي”من زاوية فلسفية إبستيمولوجية تركز على نظرية المعرفة من جهة، ورؤية ثقافية عقلانية تستند إلى التنوير بشقيه الفلسفي والأدبي من جهة أخرى.
وتضيف منى أبوسنة، في معرض التقديم والتعريف ببحثها: من خلال هذا التحليل النقدي انتهيت إلى نتيجة مفادها أن غياب التنوير في الثقافة العربية، بما ينطوي عليه من علمانية وعقلانية، هو المسؤول عن اجتياح التيار الأصولي في المجتمعات العربية والإسلامية، وقد أدى ذلك الغياب إلى انفراد ذلك التيار بتلك المجتمعات؛ حيث إنه لم يظهر تيار آخر بديل يواجه التيار الأصولي ويتصدى له. كما انتهيت أيضا إلى نتيجة تثير الأسى وهي أن النخبة المثقفة مسؤولة مسؤولية مباشرة عن غياب ذلك التيار البديل.
تحمّل أبوسنة النخبة المثقفة مسؤولية تحوّل الحركة الجماهيرية إلى حركة أصولية. وتتساءل: ما الجرم الذي ارتكبه المثقفون في حق الجماهير؟ وتجيب بأنهم تركوا رواد التنوير بلا مدافع، وهربوا كما خاف وهرب أفلاطون بعد الحكم على سقراط عام 339 ق. م وعندما عاد إلى أثينا أنشأ مدرسة على أبواب مدينة أثينا وأطلق عليها اسم “الأكاديمية”، وبذلك لم يجرؤ على النزول إلى الأسواق ويتفلسف كما كان يفعل سقراط.
ومن وجهة نظر الكاتبة فإن الجماهير العربية والإسلامية قد ترُكت فريسة للتيار الأصولي، وهي أيضا ضحية غياب النخبة المثقفة والمفكرة التي من المفترض أن تقود المجتمع. بيد أن ثمة بارقة أمل تتمثل في بزوغ تيار الكوكبية ذي التوجه المستقبلي الذي يزيل المسافات الزمانية والمكانية والعوائق الثقافية بين المجتمعات والشعوب. وهو تيار من إفراز الثورة العلمية والتكنولوجية وثورة المعلومات والمعرفة المتمثلة في الإنترنت وبقية وسائل التواصل الاجتماعي.
وهذا كله من شأنه أن يحدث تأثيراً تراكميّا على العقل الإنساني فيحرره من الدوغمائية والفكر الجامد والمطلق، ويعيد صياغة العقل صياغة علمانية تجعله “يفكر في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق“.
وتخلص أبوسنة في كتابها إلى أن إعادة المشروعية للتأويل لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال حركة إصلاح ديني شاملة تسعى إلى تجديد الفكر الديني في إطار رؤية مستقبلية كوكبية تنشر تحديث المجتمع من خلال نشر قيم الإبداع والعقلانية والتسامح والتعددية، وهذه القيم من شأنها أن تقضي على ظاهرة التكفير التي تعوّق التأويل وتحول دون مجاوزة العقل الجامد عبر المؤسسات الاجتماعية كالتعليم والإعلام والثقافة.