بوابة الحركات الاسلامية : دولة الدراويش الصومالية.. حروب «المجنون» براية الصوفية (طباعة)
دولة الدراويش الصومالية.. حروب «المجنون» براية الصوفية
آخر تحديث: الثلاثاء 07/08/2018 04:03 م محمد الدابولي
دولة الدراويش الصومالية..
ربما تَصْدِم البعض حقيقة أن هناك من الصوفيين مَنْ ليسوا مسالمين وديعين كما تروج طرقهم، أو أنهم ليسوا زاهدين في الحياة الدنيا ومناصبها مثلما يعتقد كثيرون، فمن خلال سبر أغوار الصوفية في معظم دول العالم يستطيع الباحث أن يدلل بعشرات الأمثلة التي تؤكد الاهتمام الصوفي بالحقل السياسي، بل إنها أيضًا حملت السلاح عندما استدعى الأمر ذلك.
الانطباع السائد لدى العامة برسوخ جذور الصوفيين في أرض الزهد، وترك ملذات الحياة والتخلي عن زهو المناصب وإغراء السياسة والبُعد عن ألاعيبها، انطباع قد يكون سببه دخول الطرق الصوفية مرحلة من الكمون السياسي، فرضتها الأحداث فرضًا عليهم، لكن مع ما شهده العالم خلال آخر عشر سنوات من تطورات ومتغيرات رامية لتحقيق التوظيف السياسي الكامل للصوفية، يدفع للتنقيب عن التراث السياسي للصوفية.

في الصومال -على سبيل المثال- كان استدعاء الطرق الصوفية (الجماعة الإسلامية) لمواجهة تمدد «حركة شباب المجاهدين»، سببًا في التنقيب عن التراث السياسي للصوفية الصومالية التي نجحت في بداية القرن العشرين في محاربة الاستعمار البريطاني، وتأسيس دولة الدراويش التي استعصت على الاحتلال البريطاني عقدين من الزمان.

نهش الإمبراطورية المصرية
نجح «محمد علي» وخلفاؤه، خاصة «الخديوي إسماعيل»، في تكوين إمبراطورية مترامية الأطراف، امتدت على طول الساحل الغربي للبحر الأحمر شملت حاليًّا دول السودان وأوغندا وإريتريا والصومال وبعض الأجزاء من إثيوبيا.

لكن سرعان ما انهارت تلك الإمبراطورية المصرية بفعل العديد من العوامل، تاركة وراءها ميراثًا من الأقاليم تسارعت القوى الاستعمارية الغربية على نهشها، فمثلًا سيطرت إيطاليا على إريتريا وأجزاء من جنوب ووسط الصومال، واحتلت فرنسا جيبوتي، أما بريطانيا فكان لها نصيب الأسد، فاحتلت مصر ذاتها، إضافة إلى السودان وشمال الصومال المعروف حاليًّا بصوماليلاند.

واجهت بريطانيا عقبات عديدة في سبيل ترسيخ أقدامها في الصومال، فطوال ما يقارب عقدين من الزمان عانت بريطانيا من ثورات صومالية رفعت راية الجهاد في سبيل الله، بقيادة أحد الفقهاء الدينيين يُدعى «محمد بن عبدالله حسن» (1856 - 1920)، الذي عرفته بريطانيا على أنه «الملا المجنون»؛ إعجابًا بقدراته السياسية في لم شمل القبائل الصومالية، وقدراته العسكرية في قتال الإنجليز؛ حيث دخل في معارك ومناوشات طاحنة معهم أحصيت بالمئات، وكان النصر حليفه على مدار 20 عامًا.
إرث المجنون في الذاكرة الصومالية
دائمًا ما تُشكل سير الأبطال إرثًا عظيمًا لدى الشعوب والأمم، فتحرص الأمهات على تغذية أطفالهن بها ليشبوا على حب الوطن، متخذين بطولات الآباء والأجداد نبراسًا لهم، وفي الصومال تُشكل سيرة الملا المجنون مصدر فخر للصوماليين، فمكانته عند الشعب الصومالي لا تقل عن مكانة عمر المختار لدى الشعب الليبي.

يُعبر «الملا المجنون» بحق عن مفهوم الأمة الصومالية الموحدة، ففي وسط العاصمة مقديشو ينتصب نصب تذكاري لمحمد بن عبدالله حسن، رغم أن الإقليم الذي نشأ وترعرع فيه (يخضع للسيادة الإثيوبية حاليًّا)؛ حيث ينتمي إلى قبيلة «بهجري» إحدى قبائل إقليم الأوجادين (الصومال الإثيوبي).

الدولة الصومالية الإسلامية
يُعدُّ «محمد بن عبدالله حسن» أول من طالب بإقامة دولة إسلامية عقب انقضاء الخلافة العثمانية في شرق أفريقيا؛ وذلك لمواجهة المد الاستعماري التبشيري الناشئ في تلك المناطق حينذاك.

بدأ نشاطه السياسي بعد عودته من رحلة الحج التي كان لها أبرز الأثر في تشكيل وجدانه الفكري والسياسي، فخلال وجوده في مكة تعرف على الطريقة الصوفية الصالحية، وتتلمذ على يد مؤسسها الشيخ «صالح السوداني».

فور عودته إلى ميناء بربرة الصومالي من الحج عمل على نشر الطريقة الصالحية في الساحل الصومالي، إضافة إلى دعوته للجهاد ضد الاستعمار البريطاني، وتأسيس دولة إسلامية في الصومال، وتنفيذًا لأفكاره ودعوته، شرع بعملية كبرى للتأليف بين القبائل الصومالية لتوحيدها، كما راسل العديد من ملوك الصومال يدعوهم إلى الجهاد.

ما يثير الانتباه في دعواه لإقامة الدولة الإسلامية هو الكشف عن النوايا السياسية للطرق الصوفية، والمتمثلة في إقامة الدولة الإسلامية، ونخلص هنا إلى أن المطالب بقيام الدولة الإسلامية ليست حكرًا على التيارات الإسلاموية السلفية بل أيضًا الطرق الصوفية هي الأخرى مبتغاها إقامة تلك الدولة.

بدأت الثورة الصومالية ضد بريطانيا عام 1897، حين حدثت اشتباكات بين المسلمين والمبشرين على خلفية مقتل مؤذن على يد أحد المبشرين في مدينة بربرة؛ ما أدى إلى استفزاز مسلمي الصومال التي تكررت مطالبهم بطرد المبشرين.

خلال أحداث الثورة، لمع نجم الملا في حشد وتعبئة الصوماليين في الثورة على البريطانيين، وكعادة الاحتلال البريطاني لجأ إلى تأليب الأحباش ضد الثورة، حتى شهد عام 1899 هجومًا من قبل الأحباش على مدينة جكجكا في إقليم الأوجادين (إقليم صومالي يتبع إثيوبيا حاليًّا، ويشهد اليوم اضطرابات أمنية موسعة)، لكن قوات الثورة الصومالية نجحت في دحر الهجوم.

نجح «محمد بن عبدالله حسن» في توظيف المشاعر الإسلامية لمسلمي الصومال؛ حيث تم تأطيرهم سياسيًّا ودينيًّا، ونجح في إقامة دولته «دولة الدراويش» التي سيطرت تقريبًا على مناطق الصومال البريطاني «صوماليلاند» ومنطقة الأوجادين؛ ما أدى إلى انسحاب بريطانيا من المناطق الصومالية الداخلية، والاكتفاء بمواقعها على الساحل، خاصة ميناء بربرة.
غارات جوية لإسكات المجنون
منذ عام 1900 وحتى 1920، فشلت كل المحاولات البريطانية للقضاء على ثورة الملا المجنون ودولته، فأغلب المواجهات العسكرية انتهت لصالح دولة الدراويش؛ ما أدى إلى انحسار الوجود البريطاني في قلب الصومال والاكتفاء بالمواقع الساحلية فقط، كما فشلت أيضًا كل المواءمات السياسية التي أبرمتها بريطانيا مع القوى الاستعمارية، مثل فرنسا وإيطاليا، من أجل تحجيم قوى ونفوذ دولة الدراويش، فحتى عام 1920 ظلت دولة الدراويش، وعاصمتها «تاليح»، قادرة على رد الهجمات البريطانية المتعددة.

على جانب آخر، أدت نجاحات الملا المجنون في وقف التمدد البريطاني في الصومال إلى استنفار سياسي بريطاني، رافضًا الهزائم المتكررة التي تتعرض لها بريطانيا باستمرار في الصومال، الأمر الذي دفع إلى تشكيل وحدة قوات خاصة من الجيش البريطاني تحت مسمى «the Somaliland Camel Corps » عام 1914؛ لمواجهة دولة الدراويش، كما تم تجريد سرب كامل من قاذفات Airco DH.9A التابعة لسلاح الجو الملكي، وحمل السرب اسم Z- FORCE، كما تم تخصيص أول حاملة طائرات بريطانية HMS Ark Royal لتنفيذ هذا الغرض.

لأول مرة في تاريخ أفريقيا يتم استخدام الغارات الجوية لقمع ثورات وانتفاضات ضد المستعمر، وهو ما يدل على حجم ثورة الدراويش التي قادها محمد بن عبدالله حسن ونجاحها في تأسيس دولة إسلامية، وتعطيلها للعملية الاستعمارية لعقدين من الزمن.

اتبعت بريطانيا أسلوب حرب البرق (الحرب الخاطفة)؛ حيث تزامن الهجوم البري (19 يناير 1920) على معاقل الدراويش في الصومال مع غارات جوية مكثفة أدت في النهاية خلال ثلاثة أسابيع فقط إلى إفقاد دولة الدراويش توازنها التكتيكي، ودفعها للانسحاب والتراجع إلى أعماق إقليم الأوجادين، وأدى نجاح تكتيك حرب البرق في الصومال إلى إعادة استخدامه في المناطق الثائرة على الاستعمار البريطاني، كما حدث في الثورة العراقية (1920 - 1921).
انتهاء الثورة
تضاربت الأقاويل حول نهاية «محمد بن عبدالله حسن»؛ حيث يرجح البعض إصابته في الغارات الجوية، في حين توجد أقاويل أخرى تدعي وفاته نتيجة إصابته بأحد الأمراض المعدية التي نشرها الاستعمار البريطاني كنوع من الحرب البيولوجية على الثورة، وبعيدًا عن مدى صحة الأقاويل السابقة يتبقى أن نقول إنه بوفاة الملا المجنون «محمد بن عبدالله حسن» انتهت الثورة الصومالية، وسقطت دولة الدراويش التي تُعدُّ أول دولة صوفية إسلاموية في العصر الحديث.

وأخيرًا.. كشفت لنا التجربة الصوفية الصومالية أن الطرق الصوفية لها أيضًا توجهات وأهداف سياسية، متمثلة في إقامة الدولة التي تطبق الشرع الإسلامي، وهو ما يدحض كل القناعات التي تدعي أن الصوفية ليست لها مبتغى سياسي، وأن الوجه الذي نراه اليوم عن الصوفية يعبر فقط عن حالة من الكمون السياسي تتعرض لها الطرق، ومن المؤكد أنه في المستقبل ستنفض الصوفية غبار الكمون لتعود من جديد إلى الساحة السياسية، حاملة معها العديد من التداعيات السياسية على مستقبل الدولة والأنظمة السياسية ليس فقط في الدول الإسلامية بل في العالم أجمع.

للمزيد تابع الروابط التالية:

«صوفية الصومال».. واستراتيجية مواجهة الإرهاب بالسلاح

«الصوفيَّة الصوماليَّة» بين الكمون السياسي والصراع على السلطة