بوابة الحركات الاسلامية : «الشيرازية والخمينية».. أسباب الصراع وآفاق المستقبل (طباعة)
«الشيرازية والخمينية».. أسباب الصراع وآفاق المستقبل
آخر تحديث: السبت 29/09/2018 08:49 ص أحمد سامي عبدالفتاح
«الشيرازية والخمينية»..
مرت العلاقة بين الشيرازية والخمينية بمتغيرات مرحلية متنوعة، وارتبطت العلاقة بين الطرفين بطبيعة الظروف السياسية في إيران ومحيطها الإقليمي في الغرب؛ حيث كان وجود نظام الشاه في سدة الحكم عاملًا في تقريب وجهات النظر بين الطرفين؛ بسبب سلطويته التي طالت أتباعهما معًا دون تمييز، كما أدت رغبة الشيرازيين في التمدد وترسيخ وجودهم في البلدان العربية إلى التعاون مع نظام ولاية الفقيه؛ من أجل الاستفادة من إمكانياته العسكرية ورغبته في تصدير الثورة الى البلدان المجاورة.



على العكس من ذلك، توترت العلاقة البينية بين الطرفين بعد الإطاحة بالشاه؛ حيث نصّب «روح الله الخميني» نفسه وليًّا فقيهًا لكل الشيعة في العالم، وفرض رأيه على الجميع، بصفته أمرًا إلزاميًّا لا يجوز الخروج عليه.



وفي سبيل إحكام نفوذه، عمل «الخميني»، على إقصاء كل الرموز والمراجع الدينية التي لا تقر بولايته أو وجوب طاعته، بما في ذلك الشيرازية، فضلًا عن عدد من رفقاء دربه.



لم يعجب الأمر الشيرازيين؛ بسبب رغبتهم الطامحة في الحفاظ على استقلاليتهم الفكرية التي يرونها تحمل فكرًا إسلاميًّا جديدًا يختلف عما قدمته الثورة الإيرانية، فرفضوا التقيد بإلزامية ولاية الفقيه.



وعلى النقيض من ذلك، أقروا إلزامية «مجلس شورى الفقهاء»، كوسيلة مناسبة للجمع بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية، اتساقًا مع الرغبات الشعبية الإيرانية التي ثارت من أجل التخلص من سلطوية نظام الشاه، وسعيًا لتجنيب إيران سلطوية جديدة في لباس ديني.



لم يتوان النظام الإيراني لحظةً في تقييد كل من يرفض فكرة ولاية الفقيه؛ كونها تشكل تهديدًا لمخرج الثورة السياسي الأبرز- ولاية الفقيه- علاوة على أن الرفض نفسه يشكل تهديدًا لسلطة «الخميني» الدينية، والتي مثلت ركيزةً أساسيةً في تثبيت أركان حكمه.



ولهذا، تتطرق هذه الدراسة إلى دوافع الشقاق بين الخمينية والشيرازية، فضلًا عن انعكاسات هذا الخلاف على الطرفين، وأدوات كل طرف في مواجهة الآخر.


أولًا: التعريف بالشيرازية

تعد الشيرازية إحدى الطوائف الدينية التابعة للشيعة الإثنى عشرية، بدأت كتيار ديني تابع للمرجع الديني الشيعي «مهدي الشيرازي» في ستينيات القرن الماضي تحت اسم «حركة الرساليين»، وواجهت هذه الحركة معارضةً شديدةً من المرجعيات الدينية في كربلاء والنجف؛ بسبب عملها المستقل فكريًّا عنهم، وتقديسها المُبَالَغ فيه للطقوس الدينية.



بدأ الشيرازيون الانتشار في عدد من الدول قبل الثورة الإيرانية التي نشبت عام 1979، وبعد نشأة نظام الولي الفقيه بقيادة «روح الله الخميني»، ازدادت الحركة زخمًا؛ بسبب محاولاتها التوفيقية بين كل من التقدمية الفكرية -التي تروج لها- والحالة الثورية الإيرانية التي أطاحت بشاه إيران «محمد رضا بهلوي»، ويُعدّ ذلك سببًا في تحويل الحركة نشاطها الديني إلى آخر حركي في عدد من البلدان.



فعلى سبيل المثال، أنشأت ما يعرف باسم «الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين» في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، فضلًا عن إنشائها «منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية»، والتي تفرع عنها جناح عسكري تحت اسم «حزب الله الحجاز»، في محاولة لتصدير الثورة الإيرانية إلى السعودية.



وساعدت الأصول الإيرانية لبعض قادة هذا التيار في تعريب الأفكار الثورية المستمدة من حركة إيران الثورية عام 1979؛ ما ساعد على تسريع وتيرة الدمج بين الشق الحركي والفكري في أعقاب الثورة الإيرانية.



ولهذا، يمكن القول: إن الشيرازيين أنتجوا خطابًا فكريًّا متقدمًا على الأصولية الشيعية الإيرانية التي اعتمدت الثورية فقط وسيلة للتغيير؛ ما مهد لظهور العداوة بين الطرفين لاحقًا؛ حيث رأت الثورة الإيرانية في الشيرازية عائقًا أمام تقديم نفسها كنموذج سياسي وفكري وحيد؛ بهدف قيادة كل الشيعة في العالم.


ضريبة الخمس

مثل معظم الجماعات الشيعية، تعتمد الشيرازية على «أموال الخُمس» (يلزم فقهاء الشيعة الأفراد بدفع خمس أرباحهم لمراجعهم الدينية) كمصدر رئيسي في تأمين الدعم المالي لعناصرها.



ورغم تمددها في عدد من البلدان العربية مثل لبنان وسوريا واليمن، فإنه لا توجد أرقام دقيقة بخصوص أعداد تابعيها، ولكن يمكن الاستدلال على نفوذهم وما يمثلونه من تهديد فكري لنظام «الولي الفقيه» من خلال الحملات الإعلامية التي تتبناها الخمينية بهدف تشويه صورتهم والحد من قدرتهم على استقطاب المزيد من الشيعة.



يشار إلى أن قناة «العالم» (أداة إيران التلفزيونية الخارجية) نشرت تقريرًا يبرز الدور السلبي الذي يمثله الشيرازيون في لبنان على قوة حزب الله اللبناني، فضلًا عن تطرقه إلى الأفكار المتشددة للشيرازية، قبل أن يضعها التقرير في سلة واحدة مع الفكر الوهابي كوسيلة للتنفير منها ومحاصرتها فكريًّا -بحسب القناة-.  



على صعيد متصل، تمتلك الشيرازية العديد من القنوات الفضائية التي تروج لأفكارها، وأبرزها قنوات «الأنوار، فدك، أهل البيت العربي، المرجعية، الهادي».


ثانيًا: دوافع الشقاق

يحمل الخلاف بين الشيرازية والخمينية أبعادًا سياسية، علاوةً على أخرى دينية وفكرية، ورغم التفاهم الذي ساد بين الشيرازية والخمينية بشأن ضرورة تصدير الثورة بالقوة إلى البلدان المجاورة، فإن الخمينية رأت في نشاط الشيرازية الخارجي تهديدًا حقيقيًّا لنفوذها الخارجي، خاصةً بعد أن بدأت الشيرازية في إنكار الولاية المطلقة لفقيه واحد؛ ما شكل تهديدًا فعليًّا على قوة إيران الفكرية الهادفة إلى إحكام نفوذها على الشيعة العرب.



ويمكننا تحليل التحول البيني في العلاقة من التقارب والتفاهم إلى الشقاق والتصارع من خلال عدد من الأسباب على النحو التالي:



1- اللامركزية في النشاط الخارجي

في مرحلة ما بعد الثورة الإيرانية، استغلت الشيرازية اندماج إيران في حرب شاملة مع العراق في الفترة من عام 1980 إلى 1988، وقدمت نفسها كآلية فاعلة في سياسة تصدير الثورة إلى البلدان المجاورة.



بعبارة أخرى، عملت الشيرازية على استغلال تراجع أداء إيران الحركي مقارنة بما هو مخطط له بسبب الحرب مع العراق، وقدّمت نفسها كبديل مناسب أخذ على عاتقه سياسة تصدير الثورة في دول الجوار، ونبع هذا الفعل من رغبة الشيرازيين في ترسيخ وجودهم في منطقة الخليج العربي.



بدأ الخلاف الفعلي على أرض الواقع حينما دبرت الحركة الشيرازية ممثلة في الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين محاولة انقلاب فاشلة في عام 1981، دون أمر مباشر من السلطات الإيرانية، رغم توفير الأخيرة تدريبات عسكرية لأفراد الحركة الشيرازية البحرينية في إيران.



وأدى فشل المحاولة الانقلابية إلى إحراج إيران سياسيًّا، حيث طرد سفيرها من البحرين -محسوب على الشيرازية- بدعوى علمه بالمحاولة الانقلابية؛ ما جعل الخمينية تدرك أن الشيرازية لا تعمل وفق سياسة المركزية التي ينتهجها الولي الفقيه في الإدارة.



ورغم أن محاولة الانقلاب نشبت في ديسمبر عام 1981، أي بعد 5 أشهر من تأسيس مجلس التعاون الخليجي (أسس في 25 مايو 1981)، إلا أنها أسهمت في تعميق إدراك الدول الخليجية بأركان سياسة تصدير الثورة الإيرانية، علاوة على محورية القوة العسكرية الداخلية في تنفيذها.



وتثبت سياسية عسكرة الصراعات الداخلية في البلدان العربية التي تنتهجها إيران في ترسيخ وجودها العسكري في المنطقة، أن الاختلاف مع الشيرازية لم يكن حول مبدأ تصدير الثورة، وإنما حول توقيته وعدم صدور القرار من الولي الفقيه.



2- رفض الشيرازية لولاية الفقيه

تعارض الشيرازية فكرة ولاية الفقيه الواحد، وجمعه لكل السلطات، وترى في ذلك استبدادًا دينيًّا يفوق الاستبداد السياسي، بسبب استخدامه النزعة الدينية للسيطرة على المحكومين، ولهذا، دعم الشيرازي فكرة مجلس شوري الفقهاء، رغم أنه لم يكن متحفزًا لهذه الفكرة في مرحلة ما قبل الثورة الإيرانية، ولكن سلوكيات «الخميني» السلطوية، وسعيه لإقصاء كل المرجعيات الدينية، دفعه لإعادة النظر في تأييد الفقيه الواحد.



وربما تجاهل الخميني للشيرازي كان سببًا في ذلك؛ حيث طمح الشيرازي في لعب دور سياسي وديني في إيران بعد الثورة، إلا أن الخميني تجاهله ولم يمنحه أي منصب قيادي يسهم في احتواء نزعته القيادية، فلم يتم تعيينه نائبًا للخميني، ولم يمنح قيادة مجمع تشخيص مصلحة النظام، وبدلًا من ذلك، عرض عليه الخميني إمامة الجمعة في محافظة خوزستان (عربستان)؛ ما أدى إلى إصابته بالإحباط بسبب التجاهل المتعمد المكنون خلف العرض نفسه.



مجلس شورى الفقهاء

تقوم نظرية مجلس شورى الفقهاء على انتخاب عدد من الفقهاء، على أن يتشاورا في اتخاذ القرارات التي يتم إقرارها بأغلبية الأصوات؛ ما يعني أن النظرية تمنح كل الفقهاء المنتخبين مكانة دينية واحدة.



وفقًا لهذه النظرية، يعتقد الشيرازي في إلزامية كل فقيه لتابعيه فقط؛ ما يعني أن رأى «الخميني» ليس ملزمًا لأي من المراجع الدينية الشيعية التي تتبع فقهاء آخرين غيره في أي مكان بالعالم، حتى وإن كانت الطائفة قليلة العدد، أو مرجعها الديني أقل علمًا من غيره، ولكن البراهين الدينية والحجج الفكرية هي من تحدد قدرة كل طرف على السيادة الفكرية على غيره من المراجع.



وفي السياق نفسه، طالب «محمد مهدي الشيرازي» بتساوي الفقهاء، بغض النظر عن وضعيتهم أو مكانتهم السياسية؛ حيث تعتقد الشيرازية أنه ليس إلزاميًّا أن يتم تغليب رأي الخميني على أي فقيه آخر فقط لمجرد وجوده في سدة الحكم؛ ما يعني أن المبدأين الرئيسين اللذين اعتمد عليهما الخميني في ترسيخ قيادته لشيعة العالم تم هدمهما بمقتضى نظرية مجلس شورى الفقهاء؛ ولهذا اتخذت إيران مسارًا تصارعيًّا مع الشيرازية؛ بهدف وأد فكرة مجلس شورى الفقهاء التي تشكل تهديدًا جوهريًّا لقوة إيران الفكرية في المنطقة.



3- خلافات فكرية شيعية

لعبت الخلافات الفكرية دورًا مهمًّا في توسيع دائرة الشقاق بين الشيرازية والخمينية؛ حيث سعت الأخيرة لتقديم نفسها كنموذج سياسي جامع لكل المسلمين، فضلًا عن سعيها لاحتواء السنة الإيرانيين الغاضبين؛ بسبب اعتماد الخمينية للشيعة الإثني عشرية كدين رسمي في البلاد.



ومن أجل تلطيف الأجواء مع السنة، أقرت الخمينية في الدستور الإيراني بحق المذاهب السنية الأربعة في ممارسة شعائرهم الدينية، علاوةً على اتخاذها العديد من الإجراءات؛ بهدف إضفاء نوع من الاستقرار على العلاقة بين السنة والشيعة، فعلى سبيل المثال، منعت الخمينية طباعة أجزاء من كتاب «بحار الأنوار»؛ بسبب تعديه بالسب على الخلفاء الراشدين؛ ما أغضب الشيرازية التي تري في سب الصحابة جزءًا رئيسيًّا من العقيدة الشيعية.



وفي السياق نفسه، قيدت الخمينية إجراء بعض الطقوس الدينية بالنسبة للشيرازية؛ ما يعني أن نظام ولاية الفقيه سلب الشيرازية وسيلتها الشعبوية التي تتغذي عليها ماليًّا ومعنويًّا.



تعتمد الشيرازية على تقديس المناسبات الدينية والإطالة في أمدها، علاوة على تعاظم الإحساس بالذنب كوسيلة لاجتذاب الشيعة المتدينين إليها، لكنّ تحريم الخمينية ومنعها لبعض هذه المظاهر، أضر بالوجود الفعلي للشيرازية الطامحة في السيطرة على الشارع الشيعي.



ويمكننا إرجاع مبالغة الشيرازية في الاحتفاء بالمناسبات الدينية، إلى رغبتها في إظهار مدى التزامها بالفكر الشيعي، وحبها لـ«آل البيت»، على عكس الفرق الشيعية الأخرى، كما رغبت الشيرازية في توظيف الطقوس الدينية سياسيًّا، بمعنى توجيه النقد للأنظمة التي تحاول قمعها على أنه قمع موجه ضد الطقوس الدينية نفسها.



4- التخلص من الفقهاء الشيرازيين

عمل الخميني على التخلص من خصومه، وكل من يعارضه الفكر أو الطرح بغض النظر عن فاعلية دوره في الثورة الإيرانية عام 1982؛ حيث اعتقلت السلطات الإيرانية «صادق قطب زادة» وزير خارجية أول حكومة بعد الثورة، بتهمة التخطيط لاغتيال «روح الله الخميني»، واعترف «زادة» أن المرجع الديني «كاظم شريعتمداري»،  الذي كان معارضًا لولاية الفقيه، كان متورطًا معه.



ولهذا، تم وضع «شريعتمداري» تحت الإقامة الجبرية، وتم إنهاء علاقته بالحوزة العلمية في مدينة «قم»، قبل أن يتم إجباره على الظهور في التلفزيون -دون عمامته- طالبًا العفو من الخميني.



آلم المنظر «الشيرازي»، فقرر الاعتكاف في بيته وعدم الخروج منه كوسيلة لإبراز احتجاجه على السلوك الذي اتبعه الخميني ضد شريعتمداري، وكان تعامل الخميني مع شريعتمداري سببًا في تفاقم الخلاف مع مهدي الشيرازي.


ثالثا: مظاهر الصراع بين الطرفين

يُعد اعتقال المرجع الديني حسين الشيرازي في مدينة «قم» الإيرانية في فبراير 2018، أبرز مظاهر الخلاف بين الطرفين؛ حيث اعتقلته السلطات بعد ما وصف مرشد الثورة الإيرانية «الخميني» بـ«الفرعون»، خلال درس ديني له في «قم»؛ حيث جاء على لسانه إنه قال: «أي شخص يعترض على ولاية الفقيه يقال له هذه طريقتكم، مثل فرعون عندما قال أنا ربكم الأعلى»، كما انتقد مبدأ ولاية الفقيه، قائلًا: «مبدأ أنا ربكم الأعلى وهذه طريقتكم المثلى يتجلى في ولاية الفقيه، هذه البلاد الآن قائمة على هذا المفهوم بقضها وقضيضها»، وبسبب لهجته النقدية العنيفة، اعتقلته السلطات الإيرانية ونكلت به.



يشار إلى أن واقعة اعتقال «حسين الشيرازي» لم تكن الأولى؛ حيث اعتقلت السلطات الإيرانية من قبل «محمد رضا الشيرازي»، وعذبته إلى أن مات في المعتقلات الإيرانية عام 2008، وفق بعض المقربين منه.



وفي السياق نفسه، فرضت إيران الإقامة الجبرية على مؤسس التيار «محمد مهدي الشيرازي» إلى أن مات عام 2001.



وفي المقابل اندلعت تظاهرات عدة أمام القنصلية الإيرانية في مدينتي «النجف وكربلاء» بالعراق ضد نظام ولاية الفقيه، كما اقتحم عدد من أنصار التيار الشيرازي في لندن، مقر السفارة الإيرانية، وأنزلوا العلم الإيراني من عليها، في تطور نوعي جديد بين الخمينية والشيرازية، ما يؤكد أن العلاقة بين الطرفين وصلت لمراحل متقدمة من التأزم.



وهدفت مطالبات الشيرازية بعزل الحوزة العلمية في «قم» عن السلطة السياسية، إلى عزل نظام ولاية الفقيه عن أداته الدينية؛ من أجل تحرير المكون الشعبي فكريًّا، ما يعني أن الشيرازية تعمل على مواجهة ولاية الفقيه فكريًا من خلال شقين، الأول قائم على رفض فكرة اعتمادية النظام السياسي الإيراني على فقيه واحد، بينما يتضمن الشق الثاني مطالبات بعزل المقدسات الدينية عن النظام كوسيلة لتقييد توظيفه السياسي للدين.



يشار إلى أن الدول العربية استفادت من الصراع البيني بين الخمينية والشيرازية، حيث بدأ الشيرازيون بعد صدامهم مع إيران في تبني خطاب توافقي مع الأنظمة العربية، فعلى سبيل المثال، عاد «حسن الصفار»، أحد رجال الدين السعوديين المحسوبين على منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية، إلى المملكة، وتبني حوارًا مع النظام الحاكم هناك، ثم تغير موقفه من حوادث استهداف الأمن السعودي، فعلى سبيل المثال، أدان «الصفار» الحادث الإرهابي الذي استهدف قوات الأمن السعودي في نوفمبر 2016، ما يؤكد التغيير الذي لحق بتوجهه السياسي.



هنا يمكن القول إن الصراع بين الشيرازية والخمينية، سبب ارتباكًا داخل البيت الشيعي الذي أصبح يمنح أولوية للقضاء على الشيرازية بسبب تهديدها لكيان الخمينية الوجودي.



ورغم أن الأمر لم يرق لتشتيت إيران فكريًّا وحركيًّا، فإنه مثّل طفرة في معارضة إيران فكريًّا، ما يعني أن الإطار الفكري المطلوب لمعارضة إيران حركيًّا بين الأوساط الشيعية وجد بفعل الشيرازية.


رابعًا: مستقبل العلاقة بين الشيرازية والخمينية

من المتوقع أن تظل العلاقة بين الطرفين متأزمة للغاية بسبب تعنت كل طرف وتمسكه بموقفه، فالشيرازية ترى في نظام ولاية الفقيه استبدادًا سياسيًّا يستخدم الدين كوسيلة لترسيخ وجوده، في حين ترى الخمينية في الشيرازية وسيلة لتقييد منبع قوتها الفكرية.



ولهذا، يمكن ربط تحسن العلاقة بين الطرفين بشقين، أحدهما نظري يتعلق بقبول الشيرازيين لفكرة ولاية الفقيه كنموذج سياسي أمثل لحكم الشيعة في العالم، بينما الآخر شق حركي يتعلق بقبول الخمينية دمج الشيرازيين في المناصب السياسية، فضلًا عن المجتمع نفسه.



ورغم ذلك تظل فكرة التقارب بين الطرفين بعيدة المنال في الوقت الراهن، ليس فقط بسبب القمع الذي تعرضت له الشيرازية وقادتها، ولكن لأن فكرة القبول بالخمينية كوسيلة للحكم يعني التقليل من مصداقية التيار الذي توارث أفكاره من مؤسسه محمد مهدي الشيرازي، فضلًا عن أن الخمينية لن تقبل على الإطلاق بدمج الشيرازية مجتمعيًّا؛ لأن ذلك يمنحها وسيلة جديدة للحياة، خاصة بعد التراجع الذي شهدته الحركة منذ أن فرضت الإقامة الجبرية على «محمد مهدي الشيرازي».



علاوة على ذلك، تدرك الخمينية جيدًا أن الشيرازية حتى وإن تصالحت معهم، فإن ذلك سيكون تحت ضغط القمع الذي يتعرض له أفرادها، ما يعني أن الشيرازية ستستغل مساحة الحرية الممنوحة لها في ضوء المصالحة مع الخمينية من أجل تعميق وجودها في المؤسسات الحكومية كوسيلة إعدادية للمواجهة المستقبلية بين الطرفين.



وتصعب ارتباطية مركزية القرار في إيران بالمرشد الأعلى للثورة من فكرة التوافق بين الطرفين؛ لأن الخمينية لا تقبل حتى بمخالفة الشيرازيين لهم على مستوى الفكر حتى في الأمور العقائدية غير المرتبطة بالسياسة؛ لأن مركزية الفكر لدى الشيعة دومًا ما تجد صداها على الأمور السياسية، ما يعني أن مجرد الاستقلالية الفكرية للشيرازية تمثل تهديدًا غير صريح للنظام الإيراني.



كما أنه من المتوقع ألا يقبل المرشد العام بدمج أفراد يكنون له العداوة في المجتمع، ما يعني أن المصالحة إن تمت ستكون منقوصة، وأن الأمر سيكون أشبه بالمهادنة؛ حيث سيتوقف كل طرف عن مهاجمة الآخر، دون أن تتطور العلاقة بينهما من التباعد إلى التقارب.



يشار إلى أن إيران لن تتقارب مع الشيرازية إلا إذا تمكنت الأخيرة من تمثيل تهديد حركي حقيقي على النفوذ الإيراني في دول الشرق الأوسط من خلال تعاونها مع الدول المناوئة لإيران في المنطقة، وربما تدفع العزلة إيران إلى التقارب مع الشيرازية من أجل استغلالها كفاعل جديد تربك به حسابات القوى الدولية في المنطقة.



وبإمكان الشيرازية أن تمثل تهديدًا فكريًّا على النظام الإيراني من خلال تبنيها لخطاب ترويجي مضاد لفكرة ولاية الفقيه، ما يصب في صالح تقليل قدرة إيران على تجنيد أفراد جدد لصالح مليشياتها العسكرية في المنطقة، وما يعوق الشيرازية من تحقيق هذا الدور بفعالية تامة، هو الإقصاء الذي تواجه من الدول العربية كافة.



وتتعاطى الدول العربية مع الشيرازية بصفتها تهديدًا مماثلًا لإيران، ليس فقط لأنها تتبنى فكرة تصدير الثورة الإيرانية، ولكن أيضًا لأن الشيرازية الفكرية لا تتسم بالتسامح أو تقبل الآخر، ما يعني أن ترسيخها في أي مجتمع عربي قد يدفع نحو اقتتال داخلي.



وفي السياق نفسه، بإمكان الشيرازية أن تشكل تهديدًا للنظام الإيراني من خلال تحالفها مع حركة مجاهدي خلق التي تمثل المعارضة الفعالة للنظام الإيراني من الخارج، وما يعوق ذلك فعليًا هو وجود خلافات فكرية بين الطرفين، حيث إن الشيرازين يطمحون لتكوين دولة دينية، في حين أن حركة «مجاهدي خلق» (التي تتزعمها مريم رجوي) تطمح في تكوين دولة ديمقراطية ذات أسس علمانية، كما تشكل فكرة تعاون الشيرازية مع حركة مجاهدي خلق ضربة لقاعدتها الشعبية الساعية لترسيخ الشيعية الدينية.



وفي النهاية، يتعين على الدول العربية أن تتخلى عن الجمود في تعاطيها مع الطوائف الشيعية، وتقدم للأخيرة دعمًا ملموسًا داخل إيران، بهدف إرباك الأوضاع الداخلية للنظام الإيراني، علاوة على ذلك، يتعين على الدول العربية أن تربط هذا الدعم بتحقيق إنجازات ملموسة على أرض الواقع.



ورغم تخوف الدول العربية من احتمالية توظيف الشيرازية لهذا الدعم بما يهدد الأمن القومي العربي، فإن الإدراك العربي بتعاظم التهديد الإيراني قد يلعب دورًا في التقريب بين الطرفين.



وفي نفس السياق، لا يجب أن تغفل الدول العربية عن محاولات التقريب بين الشيرازية الدينية وبين المعارضة العلمانية؛ لأن تشكيل جبهة موحدة وفق أسس قومية بين الطرفين تعني تقديم بديل وطني لمرحلة ما بعد نظام ولاية الفقيه.



وتعد فكرة تكوين معارضة شيعية في الخارج ضد النظام الإيراني أمرًا في غاية الأهمية، خاصة إذا تمكنت هذه المعارضة من توليد بديل فكري لنظام ولاية الفقيه على غرار الشيرازية التي قدمت نموذج مجلس شورى الفقهاء كبديل سياسي لاستبداد الخمينية.



ويعد تحويل الشيرازية من تيار عام يتبع «مراجعه الدينية» إلى حركة معارضة ذات هياكل تنظيمية، تحديًّا أمام القوى الإقليمية، ولكي يتحقق هذا، لا بد للشيرازية أن تعمل على تغليب الجانب السياسي في عملها الحركي على الجانب الديني، بدعوى أن حق ممارسة الشعائر الدينية الخاصة بالشيرازية التي يرفضها نظام ولاية الفقيه تتطلب عملًا سياسيًّا معارضًا بهدف إجبار الخمينية على احترام الحقوق الدينية لغيره من الطوائف الشيعية.

المراجع:

1- كريم شفيق، الشيرازيون: استبدال ولاية الفقيه بشوري الفقهاء، موقع حفريات، http://www.hafryat.com/%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/2967/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%B2%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84-%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D9%8A%D9%87-%D8%A8%D9%80%D8%B4%D9%88%D8%B1%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D9%87%D8%A7%D8%A1

2- قناة العالم، الشيرازيون وطقسنة التشييع، http://www.alalam.ir/news/1872201/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%B2%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%88%C2%AB%D8%B7%D9%82%D8%B3%D9%86%D8%A9%C2%BB-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D9%8A%D9%91%D8%B9

3- قناة العالم، فتنة الخرافيين واستهداف المقاومة، https://us.hideproxy.me/go.php?u=4vFe5jJp5SWptRVTsoW7ESQ7cJR56GufhTEo6uIF6SlkwvfujrVHotli8O95mbWCvC8QJVuUmSSh6Br4KE6UBFx2HsLbcncIeNi6Oay3hLP4jdPcdZ6LhzubwXDF&b=5

4- حسين إسماعيل، الشيرازية وعداؤها للمرجعيات في إيران والعراق، موقع جنوبية، http://janoubia.com/2016/10/14/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%B2%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D8%A4%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%AC%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7/

5- بدر الإبراهيم ومحمد الصادق، الحراك الشيعي في السعودية: تسييس المذهب ومذهبة السياسة، الطبعة الأولى، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، صـ 124

6- محمد السيد الصياد، ماهية الخلاف السياسي بين الشيرازية والخمينية، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، https://rasanah-iiis.org/%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D9%88%D8%AB/%D9%85%D8%A7%D9%87%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%B2%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7/

7-حمد جاسم محمد، شورى الفقهاء في ميزان الحكم الرشيد في فكر الإمام الشيرازي، مركز الفرات، http://www.fcdrs.com/polotics/269

8- حازم زهران، التيار الشيرازي أمام فوهة مدفع خامنئي، إيران خانه، http://www.irankhana.com/10122/

9- البصرة نت، مصير اللذين أتوا بالخميني لتحقيق الثورة، http://www.albasrah.net/ar_articles_2011/0911/khomyni2_070911.htm

10- بدر الإبراهيم ومحمد الصادق، الحراك الشيعي في السعودية: تسييس المذهب ومذهبة السياسة، الطبعة الأولى، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت 2013، ص126.

11- حلقة منشورة على اليوتيوب للمرجع صادق الشيرازي، https://www.youtube.com/watch?v=8HginGe_CU8

12- موقع أخبارك، نظام الملالي والمرجعية الشيرازية.. القمع وسيناريوهات الصدام في طهران، http://www.akhbarak.net/news/2018/03/10/14756014/articles/29956168/%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%AC%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%B2%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%85%D8%B9

13- محمد السيد الصياد، النظام الايراني والمرجعية الشيرازية.. القمع والتوظيف، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، https://rasanah-iiis.org/%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D9%88%D8%AB/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%91%D9%90%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%AC%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%B2/

14- محمد السيد الصياد، النظام الإيراني والمرجعية الشيرازية.. القمع والتوظيف، المعهد الدولي للدراسات الايرانية، https://rasanah-iiis.org/%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D9%88%D8%AB/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%91%D9%90%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%AC%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%B2/

15- مسعود الزاهد، الموت للولي الفقيه في كربلاء بعد اعتقال مرجع عراقي، العربية نت، https://www.alarabiya.net/ar/iran/2018/03/07/%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84-%D9%85%D8%B1%D8%AC%D8%B9-%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D9%82%D9%85-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AA-%D9%84%D9%88%D9%84%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D9%8A%D9%87-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D8%B1%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%A1.html

16- الجزيرة نت، اقتحام سفارة إيران في لندن، http://www.aljazeera.net/news/international/2018/3/9/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%85-%D8%B3%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D9%86%D8%AF%D9%86

17- العربية نت، الشيخ الصفار يدين استهداف رجلي أمن في القطيف، https://www.alarabiya.net/ar/saudi-today/2016/11/05/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%81%D8%A7%D8%B1-%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%87%D8%AF%D8%A7%D9%81-%D8%B1%D8%AC%D9%84%D9%8A-%D8%A3%D9%85%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D9%8A%D9%81-.html