بوابة الحركات الاسلامية : الأصوليات الدِّينية وصناعة التعصب (طباعة)
الأصوليات الدِّينية وصناعة التعصب
آخر تحديث: الأحد 30/12/2018 11:40 ص فاطمة عبد الغني
 الأصوليات الدِّينية
يقول الباحث المغربي يوسف هريمة في أحدث دراساته والتي نشرها مؤخرا حول الأصوليات بشكل عام والأصوليات الدينية بشكل خاص، وارتباطهما بالتعصب:  "إنّ حالة التعصّب التي يعيشها عالمنا الإسلامي ليست حالة معزولة عن سياقها الإنساني، فمهما تعدّدت تعاريف التعصّب، فإنّها تعني الحالة التي يكون فيها الشّخص مشدودا إلى أفكاره ومعتقداته معتمدا في ذلك على كلّ ما هو متاح لتثبيته، ولو مارس الفعل التّدميري. إنّه باختصار حالة الإلغاء والإقصاء والإجرام التي يختزلها روبسبيير بمقولته المشهورة: "إنّنا كالحقيقة لا نلين صامدين متجانسين، وأقول: إننا تقريبا كالمبادئ لا نطاق".
وحاول هريمة في دراسته الإجابة على سؤال مهم يعد محور الدراسة ألا وهو: "لماذا تنزع الأصوليات إلى فكرة التعصّب والعصبيات؟" ويجيب هريمة بأنه للإجابة على هذا السؤال لا بد من استحضار ما كتبه مصطفى حجازي في كتابه "حصار الثقافة" حيث يلخصه في عدة نقاط أهمها: 
- ذوبان الفرد في الجماعة: هذه خاصّية من الخصائص المميّزة للأصوليات والجماعات التي تعتمد على الحشد والتّجميع والتّوحيد، لكي تشعر الجماعة بوحدتها وقوّتها. 
- الولاء والانتماء: إنّ الحالة التي تعزّزها الجماعات أو الأصوليات بشكل عام، هو ذلك الشّعور الغريب بالانتماء، والإحساس بنشوة القوّة والتماهي مع الآخر، حيث يصير الفرد هو المحرّك ووقود الجماعة توظّفه أنّى شاءت وكيف شاءت. ويمكن تلخيص أنواع الانتماء فيما يلي:
أ- الانتماء بالوراثة: فالانتماء والمحيط الاجتماعي يسهّل ويشجّع، حينما يكون المرء منتميا إلى نِحلة أو طائفة أو مذهب، وهو ما يدخل في باب التّشريط الثقافي والتنشئة الاجتماعيّة، إذ من شأن العلاقات الاجتماعيّة المغلقة أن تحدّ من اختياراتنا، وتقوّي رغبتنا في الانتماء إلى جماعة، وإن كانت متخيّلة.
ب- الانتماء بالإحباط: أي بدافع اليأس من عالم خارجيّ معادٍ. 
ج- الانتماء بالكشف/الانكشاف: وهو نادر الحدوث قياساً بنوعيّتي الانتماء السابقين؛ إلاّ أنّه قد يحدث لبعض العقول المستعدّة لذلك، أن تدخل دورة الاعتقادات المتطرّفة نتيجة حادث عارض، قد يكون سعيداً أو غير سعيد، فتفسّره كما لو كان قدراً إلهيّاً حوّل مسار حياتهم، ويدعوهم إلى اعتناق فكرة تجد أساسها في تلك الإشارة الربانيّة، ومن هنا الانزلاق إلى منحدر الاعتقاد، والانعزال عن المجتمع، ومن ثمّة البحث عن انتماء لجماعة تقاسمهم ذات الفكرة.[9]
- الرابط الأخوي أو العرقي أو الدّيني: لتكتسب الجماعة قوّتها تعتمد مجموعة من الرّوابط التي تزيد من لحمتها، وتشيّد حصونا من التّلاحم الّذي يأخذ أشكالا متعدّدة تختلف في الشّكل وتتّفق في المضمون، أقواها ما تعتمد عليه الأصوليات الدّينية كونها تجعل آصرة العقيدة أولى من آصرة القرابة. 
ويعطي هريمة مثالا على ذلك حيث توصيف جماعة الإخوان لنفسها بـ "الإخوان المسلمين"، مع أنّ الإسلام ليس جماعة، أو طائفة، أو حزبا سياسيا. وليس هذا فحسب، فالتّوصيف بجماعة "الإخوان المسلمين"، يدلّ دلالة واضحة على عمق التّأثير العقدي في الجماعة. فالأخوّة هنا منبعها عقدي، وليس إنساني، أو وطني. ومن هنا يتحوّل سؤالنا من التسمية إلى الواقع، إذ ما هو موقف الجماعة من المخالف عقدياً وسياسياً وطائفياً؟. وكذلك ما موقفها من العنف الذي يكون أساسه ديني؟. هنا نستحضر البنية العقدية للإخوان المسلمين وشكل الدّولة المرجوّة من خلال فكرة الجهاد، وهي الفكرة الرّئيسة التي تتمحور حولها الدّولة الإسلامية بمختلف تصنيفاتها. فالجهاد ليس ردّ عدوان فحسْب، فهذه غريزة طبيعية في الإنسان لا تحتاج لتنظير. ولكنّ الجهاد بمفهومهم هو حربٌ توسّعية تأخذ أشكالاً متعدّدة تختلف في الشّكل، وتتّفق في المضمون. وما يسمّونه همْ إعلاء كلمة الله هو أحد تجليّات العقل الذي يبرّر لكلّ حرب مقدسة، ودعاة الحرب المقدَّسة، يقتُلون باسم الله، ويشرِّدون ويهجِّرون باسمه.
تقديس الماضي وحلم استعادته: وهذا ما تسعى الأصولية إلى تثبيته في أذهان مريديها. فمثلا لم يخرج الخطاب القطبي عن أداء وظيفته الإيديولوجية، لأنّه لم يكن مجرّد شعارات مفارِقة للواقع، بقدْر ما كان خطاباً مستجمعاً إلى حدٍّ كبير بين النظريّة والممارسة. فالخطاب الإيديولوجي القطبي تحرّك في ثلاثة مناحي: "تقوم الأولى في الدّين، والأخرى في التّاريخ، والأخيرة في التّنظيم السّياسي، وهي كيفيات تتفّق مع ما تورده ماري ماتوسيان M.Matossian من أنّ الاختيار الإيديولوجي في العالم الثّالث تحكُمه وتحدّده ثلاثة توجّهات: العلاقة بالتّراث، والعلاقة بالعالم الغربي، والعلاقة بالجماهير."
وحسب الباحث المغربي فإنه لفكيك هذه العناصر في الخطاب الإيديولوجيّ القطبيّ، يرى محمد حافظ دياب بأنّ علاقته بالتّراث اختزلَها في اختياره الحاسم للمتغيّر الدّيني، وتعامل معه بطابعٍ أحاديّ يرفض الاختيار بين الثنائية "الدّين/الحضارة المعاصرة". فلقد تمَّ تجهيل هذه الحضارة؛ أيْ ردّها إلى أصول ما قبل الإسلام، كما فعل سلفه المودودي، وتمّتْ الإشارة إليه في ما سبق. ومن ناحية العلاقة بالتّاريخ فقد اعتمدتْ الإيديولوجية القطبية على مشروع كوزمولوجي أساسُه استعادة الماضي الإسلامي في نقائه الأوّل، من منطلق رؤية طوباوية. ومن ناحية العلاقة مع الجماهير، فهي تفتقر إلى القنوات الحقيقية للتّفاعل مع الجماهير، حتّى وإنْ جسَّدتْ آمالهم في غيبة وعيِهم بذلك. 
أما حول الأصولية وآليات السيطرة، فيقول هريمة: لكي تكتسب الجماعة لحمتها، لا بد من الاعتماد على مجموعة من الآليات تساعدها على دمج أفرادها، وضمان أكبر قدر من الولاء لها. ويمكن اختزالها في الآليات التالية:
- العقيدة مكان العقل: لا يمكن أنْ نتحدّث عن العقيدة في حضور العقل؛ فكلاهما خصمان لا يلتقيان إلا لِماما. لهذا، فالعقل الأصولي يتغذّى من التّهويلات الإيديولوجية التي ينتجها حرّاس العقيدة (المسلمات/الثوابت/الأصول...). وما لم نصلح هذه الأعطاب الثقافية، فسنكتشف كم أنّ سماحة الدين، قد تتحوّل إلى مصنع لتفريخ العنف. 
- تعزيز صورة الإنسان الآثم أو المذنب: إنّها الحالة التي يقتات عليها العقل الأصولي وينمو فوقها؛ فكلّما تكرّس الإحساس الإنساني بالضّعف، كلّما زاد التحامه بالجماعة، وزاد طمعه في الإحساس بالمزيد من التّعويض النّفسي، وهي الحالة نفسها التي يخلقها الاستبداد عبر منظومة تتجذّر في المجتمع من خلال ثلاثية (التجريم/التحريم/التأثيم) والتي تتيح للمرء أنْ يتمثَّل شعار "اخضع ترضع"؛ فالتّجريم: يمارسه الاستبداد عن طريق أجهزته القمعية (الأمن وما يدور في فلكه)، أما التحريم: فهو وظيفة المؤسّسة الدينية، حيث لا خضوع دون تضييق مساحة المباح. أما التأثيم، فيعزّز التجريم والتحريم، بجعل طاقة الإنسان محدودة، بأنْ يشعرها دوماً بعقدة الذنب، حتى يكبح جماحها، أو يجعلها مهدورة لا نفع فيها. 
- إخضاع المرأة: يؤكد مصطفى حجازي على دور المرأة المركزي في لحمة العصبيات، حيث إن إخضاعها الكامل وفرض القوانين الأكثر تزمتا عليها هو ديدن الأصوليات قديما وحديثا، فصورتها لا يمكن أنْ تخرج عن المرأة العورة، أو عن كونها مصدر الغواية.
وأخيرا يتناول هريمة المؤامرة أو خطاب المظلومية: فكثيرا ما يتعامل الإنسان المسلم مع الصّورة النّمطية التي تشكّلت حوله، باعتبارها أحد المظاهر السّلبية التي يحملها الآخر عنه، دون أنْ يطرح السّؤال حول الدّوافع والأسباب التي جعلت منه متّهما، تتقاذفه تُهَم الإرهاب والإقصاء والعنف والتخلّف. وبدل أنْ تستوقفه هذه الصّورة، ليعيد قراءة الذّات من منظور معرفي يسعى إلى تنقية هذا التّراث والتّاريخ والثقافة - بعيدا عن الرّغبة في الحفاظ على صفاء الذّات-، اختار خطاب المظلومية ليتوارى خلف جرحه النّرجسي، ويقرأ صورته في سياقات المؤامرة، ويضيّع على نفسه من جديد اكتشاف ذاته، وهذه الثقافة الممتزجة بلون الدّم في مسار طويل، بدأ منذ اللّحظة الأولى التي تحوّلت فيها الرّسالة إلى سيف وسلطة، انتهاءً بداء الأصولية المخيف، والتّسويق للدّولة الدينية بأفق يمتح من قاموس الرّعب والتّخويف والموت.