بوابة الحركات الاسلامية : الفكر الإسلامي وقضايا الاستبداد في مجلة "الكلمة" (طباعة)
الفكر الإسلامي وقضايا الاستبداد في مجلة "الكلمة"
آخر تحديث: الخميس 03/01/2019 11:47 ص روبير الفارس
الفكر الإسلامي وقضايا
حاول الفكر العربي الإسلامي، طوال قرون، تناول أثر الاستبداد في منظومة الأخلاق الاجتماعية، وتنوعت المعالجات لهذه القضية من زوايا ووجهات نظر مختلفة. ومن هذه المحاولات، سعى بعض المفكرين للبحث في تراثنا، من أجل تحليل أسباب رسوخ "الملك العضوض"، والكشف عن جذور الاستبداد التي تكمن في منظومة الأخلاقيات التي ورثناها عن نظم الحكم الاستبدادية التي غطت تاريخنا. ويعد محمد عابد الجابري، من أبرز من قاموا بنقد الأخلاق المؤدية للاستبداد، في كتابه "العقل الأخلاقي العربي"، والذي ناقش فيه علاقة التراث بالاستبداد، وخرج بنتائج تباينت ردود الأفعال حولها ما بين مؤيد ورافض. وفي العدد الجديد من مجلة الكلمة يناير 2019 نشرت دراسة مهمة للباحث "عماد الدين محمد عشماوي" تعمقت في جذور  الاستبداد في العقل والممارسة الأخلاقية العربية منذ الدولة الأموية وحتى اليوم، وأثر ذلك على الإنسان العربي وتكوينه ومسلماته الموقفية والأخلاقية، التي تحيله إلى أداة فاعلة في بنية الاستبداد، ويدعو لعدد من استراتيجيات التحرر من هذا الوضع المهين.
تعد، ولاية معاوية حتى سقوط آخر الخلافة العثمانية عام 750م، وهي زمن انقطاع السياسة عن محدداتها الأخلاقية، وبزوغ الاستبداد، إلا القليل النادر. حيث بدأت الثقافة "العالمة" المدعومة من السلطان الغشوم المتدثر بالقبيلة والغنيمة، في هذه المرحلة في التوسع في استخدام الحديث والموروث الفارسي بشكل خطير، لتأسيس شرعية الملك العضوض، وكذا فعلت معارضته أيضاً. ومع تطاول الزمن، وترسخ الاستبداد، عبر عنفه السلطوي المتدثر بالنص النبوي، والذي اختلط بالآداب السلطانية الفارسية والتصوف والزهد والانصراف للشئون الخاصة، ليشكل نوعاً من التشويه لثقافة النص الإسلامي المناهض للاستبداد. وعلى الرغم، من أن "المسلمين قد تعلموا من دينهم، أن طغيان الفرد في أمة ما جريمة غليظة، وأن الحاكم لا يستمد بقاءه المشروع، ولا يستحق ذرة من التأييد، إلا إذا كان معبراً عن روح الجماعة ومستقيماً مع أهدافها. ومن ثم فالأمة وحدها هي مصدر السلطة، والنزول على إرادتها فريضة والخروج على رأيها تمرد" إلا أن "فقهاء السلطة"، قد منحوا للخلفاء-القياصرة والسلاطين والمعارضين، شرعية دينية وصلاحيات دنيوية مستمدة منها، كانت هي أساس البلوى".
فقهاء السلطة 
فقد ساد بين فقهاء السلطة: سواء في جانب الحكام أو المعارضين، الاعتقاد بأن الحاكم- الذي هو رأس الدولة/ المعارضة- هو النموذج والقدوة، فإذا كان شخصاً "فاضلاً" استطاع أن يخلق "المواطن الفاضل"، الذي تتكون منه "المدينة الفاضلة". ومن هنا انصب الاهتمام في معظم الفلسفة السياسية القديمة على تربية "الحاكم الصالح" صاحب الخلق القويم، القادر على أن يغرس في الناس القيم والمبادئ والأخلاق. في حين كان الأمر في الواقع يسير بقوة في اتجاه تثبيت حكم المتغلب بقوة السيف رغماً عن الأمة، وتناسوا تماماً دور الأخلاق الاجتماعية المنتجة للإنسان المستخلف المؤتمن، والمؤسسات المجتمعية القادرة على اختيار الحاكم الصالح ومنع الاستبداد وعلى الرغم من أننا لا نعدم في كتابات التراث، الكثير من التنبيهات، للتأثير الذي يحدثه الظلم علي أخلاق الناس الاجتماعية‏، وما يؤدي إليه‏ "الجور" من إفساد لضمائر الخلق، ‏إلا أن تركيزها على طاعة الحاكم أو قائد المعارضة، والجمع بين طاعتهما وطاعة الله من جهة، والخوف من الفتنة أو الظلم من جهة أخرى، أدى إلى استمرار الاستبداد والمستبدين وغياب المواطن وحرياته.

الفكر العربي المعاصر
انشغل الفكر العربي المعاصر، بالتفكير في سؤال العلاقة بين الاستبداد والأخلاق، منذ عصر النهضة حتى اليوم. فالكواكبي، ينوه لخطورة الاستبداد على الأخلاق، لأنه "يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها ... وأقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق". ويحمل حملة شديدة على ما شاع بين أسرى الاستبداد من "قواعد كثيرة باطلة، كقولهم: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وقولهم: البلاء موكول بالمنطق. وقد تغالى وعَّـاظهم في سد أفواههم حتى جعلوا لهم أمثال هذه الأقوال من الحكم النبوية؛ وكم هجوا لهم الهجو والغيبة بلا قيد، فهم يقرؤون "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول" ويغفلون بقية الآية وهي (إلا من ظلم). وهو يدعو، إلى ضرورة إعداد البديل، ورفع وعي الأجيال الجديدة قبل استبدال المستبد بغيره، حتى لا تقع الأمة فريسة للاستبداد من جديد
ويرى مالك بن نبي، أن الأخلاق من الناحية الاجتماعية؛ هي التي تحدد قوَّة التماسك اللازمة للأفراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية".ويعتبر معركة صفين، بداية الانفصال بين الأخلاق والسياسة في حضارتنا. وأن “الحضارة الإسلامية لم تنشأ عن مبادئ الإسلام، ولكن المبادئ هي التي تكيفت مع سلطة زمنية قاهرة” تعود إلى "عهد معاوية، عهد تقهقر الروح الديموقراطي الإسلامي  ويؤكد بن نبي، أن "الأزمة السياسية الراهنة تعود في تعقدها إلى أننا نجهل أو نتجاهل القوانين الأساسية التي تقوم عليها الظاهرة السياسية، والتي تقتضينا أن ندخل في اعتبارنا دائماً صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي، كآلة مسيرة له، وتتأثر به في وقت واحد، فإشعاع الروح الديموقراطي الذي يبثه الإسلام، ينتهي في العالم الإسلامي عندما يفقد أساسه في نفسية الفرد، أي عندما يفقد الفرد شعوره بقيمته وبقيمة الآخرين، وأن الحضارة الإسلامية انتهت منذ الحين الذي فقدت في أساسها قيمة الإنسان
ويؤكد جاسر عودة أن "أزماتنا الدينية والسياسية والسياساتية والاجتماعية والقضائية والفنية والصحية والبيئية وغيرها، إنما هي أعراض أمراض أخلاقية وفكرية وعقلية مزمنة على المستويين الفردي والجمعي، وأن الإشكالية الأعمق في عالمنا العربي والإسلامي، هي في ضعف الممارسة الأخلاقية وفي طريقة التفكير الاستبدادية العقيمة السائدة عند قطاعات واسعة في كل الاتجاهات الإسلامية وغير الإسلامية"
وتشدد هبة رؤوف، على أن "الفضائل تدور مع الافراد لا مع السلطة التي وظيفتها الرعاية والأمن، وأن "الخطر الأكبر ليس هيمنة الدولة على الناس ... لكن الخطر الأكبر أن تهيمن الدولة كفكرة على العقل السياسي للناس فلا نفكر ضدها .. إلا بها، ولا نتمنى ترويضها إلا لنكون نحن أشرس إذا صرنا في مكانها. مشددة على أن "طبائع الاستبداد والاستملاك والاستهلاك اليوم، تحتم سؤالاً أخلاقياً جديداً وإجابات تواجه تحدياته المتجددة.
ويؤكد النائيني في تنزيه الملة على أن "التفاوت في أحوال الأمم الخاضعة لسلطات الجور، يرجع بالدرجة الأولى، إلى ما يتمتع به كل من طرفي الدولة -السلطة والشعب- من ملكات نفسانية واستعدادات. فإذا وجد الجائر شعبه ظالماً لنفسه، جاهلاً بحقه، ملقياً حبله على غاربه استبد به، إما إذا كان الشعب متسلحاً بالوعي مستضيئاً بنور العلم فلا يقدر على الاستبداد. واستناداً إلى قاعدة (الناس على دين ملوكهم). فإن إخضاع أفراد الأمة إلى قهر السلطة واستسلامهم لإرادتها، سيعاد إنتاجه بين الطبقات المختلفة من الشعب. بحيث يمكن القول أن كل فرد يحاول تقليد السلطان في علاقته مع من هو أدنى منه. ولا نجد سبباً وراء نمو هذه الشجرة الخبيثة سوى جهل الأمة بحقوقها وواجباتها، وجهلها بوظيفة الدولة وحدودها، والحقوق الخاصة المشتركة بين الطرفين، وأخيراً تنزيه السلطة عن المسئولية عن الأخطاء، وغياب المحاسبة والمراقبة.
ويرى عزمي بشارة أن "الدولة الاستبدادية الحديثة (ملكية كانت أم جمهورية) تفوق الأنظمة التقليدية والسلطانية في العصور الإسلامية سطوة وقمعية. وليس مرد ذلك إلى طبيعة النظام السياسي فحسب، أو شمولية تنظيمات الدولة للفضاءات الاجتماعية المتنوعة واختراقها، واتساع فضاء سيطرتها، والمجالات الخاضعة لسلطاتها أيضا، أو توافر وسائل اتصال وأدوات قمع لم تكن قائمة في السابق. وإنما أيضاً تطوير المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي الحديث أدوات أخرى في السيطرة على الفرد ومنعه من ممارسة سيادته على نفسه وعقلنة إرادته، ومنها أدوات الإعلام وتعميم الثقافة والتضليل وحجب المعلومة التي ربما تجعله يقرر قراراً معيناً." فما عادت حرية الإنسان مهددة من نظام الحكم وحده. مؤكداً أن "التحرر من الطغيان من دون تأسيس للحريات ونظام يحمي هذه الحريات، ربما يؤسس لطغيان جديد، أو فوضى مؤقتة تقود إلى طغيان، أو إلى فوضى وحروب أهلية طويلة الأمد.
ويؤكد مصطفى حجازي أن "إسقاط الحكام لا يكفي وحده لتغيير المصير وبناء مستقبل جديد، فوراء استبداد الحكام، هناك بنى استبداد ترسخت خلال عقود طويلة بل قرون في المجتمعات العربية على اختلافها، هي التي تسند استبداد الحكامذلك أنه -حسب مصطفى صفوان- "لا تحرير فعلياً ممكن من دون تحرر الإنسان، ليس من بطش قوى الاستبداد الخارجية فقط، بل كذلك تحرره من قوى الاستبداد النفسي المتمثل في المكبوتات التي تمارس عليه قهرها وتحكمها في سلوكه وكيانه".
وعلى الرغم من هذا الفهم المتطور لعلاقة الاستبداد بمنظومة الأخلاق الاجتماعية على مستوى "الثقافة العالمة" في قطاع مهم من فكرنا العربي الحديث، إلا أن الثقافة الشعبية، في فهمها للعلاقة تعتمد على كتابات دينية وشعبوية، تتغذى من ثقافة العقلية القبائلية والأبوية الراسخة في الجبر والطاعة التي تشبع بها تراثنا، والتي تعمل على إطالة عهود المستبدين وتردي الأخلاق الاجتماعية، بما تنشره من قيم ترسخ لنظرية الاستبداد الشرقي التي تجعله قدراً لا فرار منه، وبالتالي واليأس من الإصلاح تماماً.
فما زال البعض، في السلطة والمعارضة على حد سواء، يؤكد أن السلطة مسئولة عن مساوئ الشعب كما أنها مسئولة عن محاسنه، ويفترض أن العلاقة بين الاستبداد ومنظومة الأخلاق الاجتماعية، ‏تسير في اتجاه واحد، فالسلطة هي التي تؤثر في الشعب المتلقي لقيمها فقط‏ واليوم، في زمن الردة على الثورات العربية، تتزايد تناقضات اجتماعنا السياسي العربي، فكلنا حائرون متخبطون، فعلا، في علاقة الاستبداد بمنظومة الأخلاق الاجتماعية، ونحتاج أن نحسم هذا التخبط وتلك الحيرة، وهو الأمر الذي نحاول تلمس طريق له، عبر نموذج محمد عابد الجابري لفهم تلك العلاقة في كتابه "العقل الأخلاقي العربي".
 الاستبداد 
حاول الجابري في كتابه "العقل الأخلاقي العربي"، تفسير ظاهرة الاستبداد المقيم في مجتمعاتنا العربية المسلمة، عبر تتبع الآثار التي أحدثها افتراق الملك عن الأخلاق بعد وقعة صفين. فقام بدراسة نظم القيم الأخلاقية في تراثنا، من خلال تحليل تاريخي نقدي، كما كانت موضوعاً للتفكير وموضوعاً للتكريس على مستوى الخطاب (الثقافة العالمة)، والتي اتسمت بأنها كانت "قيماً سياسية أو ذات حمولة سياسية"، محاولا الكشف عن "قلب" نظام هذه القيم في الثقافة العربية"، لأنها مازالت حاضرة ومؤثرة في حياتنا المعاصرة. وقسم الجابري، نظم القيم هذه، إلى خمس نظم أخلاقية موروثة لكل منها ثقافة مستقلة، ولها سلمها الخاص للقيم، بوصفه عبارة عن قيم أخلاقية من أجل السياسة، معتمداً مفهوم "القيمة المركزية" لتحديد القيمة الأساس في كل واحدة منها كالتالي
- الموروث الفارسي، وتمثله أخلاق الطاعة.
- الموروث اليوناني، وتمثله أخلاق السعادة.
- الموروث الصوفي، وتمثله أخلاق الفناء.
- الموروث العربي، وتمثله أخلاق المروءة.
- الموروث الإسلامي، وتمثله أخلاقيات العمل الصالح.
وانطلق الجابري، من كون "نظام القيم هو بالدرجة الأولى معايير للسلوك الاجتماعي والتدبير السياسي ومحددات لرؤية العالم.وأن حضارتنا العربية الإسلامية عانت من "أزمة في القيم"، فسحت المجال لتسرب قيم "خارجية"، أو لاستيراد إرادي لنوع من القيم، للاستعانة بها في الصراع الذي أفرز أزمة القيم تلك والتي "جعلت الناس يعيشون في قلق فكري ووجداني في ذلك العصر. وبحثاً عن حل فكري، صالح للتوظيف السياسي، يتجاوز أزمة هذه القيم، إلى قيم جديدة تركز على وحدة المجتمع والدولة وضرورة الانسجام بينهما، وتربط بين وحدة الدين والدولة وطاعة الله والخليفة. قام الأمويون، بتبني قيم الموروث الفارسي باسم الإسلام، وكرسوا منذ معاوية، فكرة "الجبر" كأساس لأيديولوجيتهم السياسيوكان أول درسان تلقاهما الإنسان العربي المسلم هما: الجبر والطاعة، باعتبارهما عنصرين أساسيين في "أخلاق الهزيمة". وتم ذلك عبر خطاب الترسل الذي أذاع القيم التي تريد السلطة نشرها وتكريسها، من خلال خطاب يعج بالقيم الدينية والأخلاقية التي تتحول، بتكرار الألفاظ المعبرة عنها، إلى قيم نمطية تفرض نفسها على المجتمع كـ"عادات أخلاقية" في منأى عن النقد.
ويعتبر الجابري، عهد "أردشير"، والذي يحتل فيه السلطان، منزلة القيمة المركزية التي تتحلق حولها طبقات الدولة وفئات المجتمع في تراتب قيمي، صاحب الدور الرئيسي في نشر وتكريس القيم الكسروية، في الثقافة العربية ويؤكد، أنه "لا يمكن فهم نظام القيم في الثقافة العربية ككل ما لم يستحضر المرء هذا النص المؤسس"] وليست القيم الكسروية، وحدها، هي التي انتقلت إلى المجتمع العربي الإسلامي مع الموروث الفارسي، بل لقد انتقلت معها كذلك مرادفاتها الدينية ومضاداتها السياسية، أي القيم التي كرسها رجال الدين الرسميون حلفاء الأكاسرة من جهة، وخصومهم رجال الدين الجدد الذي يحملون لواء المعارضة والثورة ضدهم من جهة أخرى. ويشدد الجابري، على أن "المعارضة داخل النظام الذي تحكمه القيم الكسروية، لم تكن ممكنة إلا داخل هذا النظام نفسه وبتوظيف قيمه "المضادة" التي تجعل البديل "كسرى" آخر، فمدينة كسرى لا تترك للحلم مكاناً في هذا العالم فقد أنتجت الآداب السلطانية: طاعة السلطان، أخلاق السلطان، أخلاق الكاتب. وظلت القيم الكسروية التي كانت تحكم "كتب الأدب"، ومازالت حاملة لهذه القيم ومروجة لها في الثقافة العربية. والتي أدت إلى "غياب الإنسان كـ"فرد"، بل غياب مفهوم "الإنسان" نفسه. (ف) الفرد البشري ليس قيمة ولا له قيمة في هذا النظام الكسروي، الذي كانت القيمة فيه ومازالت، هي الدولة وليس الفرد كما كانت، هذه الآداب، هي مدرسة تخريج كتاب السلطان، الذين يتناسلون بنفس الكيفية مع اختلاف الأدوات حتى يومنا هذا.
وينفي الجابري، عن هذه الأخلاق أي صلة بالإسلام وقيمه، فهي قد أنتجت" سلطة" لا مبرر لها من الشرع أو العقل للحكام، وأسهمت بشكل كبير في تشكيل عقلية الفرد والمجتمع المسلم في اتجاه الاستبداد.ونتجت عنها قيم تعلي من أخلاق الطاعة، وتماهي بين طاعة السلطان وطاعة الله، وتجعل الدين والملك توأمان، حتى ألبس خطاب الطاعة لباساً إسلامياً. ويضيف الجابري، أن التصوف بما حمله من قيم سياسية كسروية، تعلي من أخلاق اللاعمل المتمثلة في: الطاعة والتوكل وترك التدبير، أدت إلى تخدير لنظام القيم في الحضارة الإسلامية
وبدلاً من أن تسود القيمة المركزية في أخلاق القرآن، والتي هي "العمل الصالح"، التي تجعل المؤمن يتجه نحو الناس، وتسود في السياسة الشرعية التي قوامها صلاح الراعي والرعية: أخلاق المصلحة، تم استبدالها بـ"أخلاق الطاعة والجبر"، والتي ظلت تتوالد عبر التاريخ العربي إلى اليوم.
معالم نموذج الجابري 
يقوم نموذج الجابري التفسيري، للعلاقة بين الاستبداد ومنظومة الأخلاق الاجتماعية المهيمنة على المجال السياسي على فرضية تقول أنه: عندما عجزت مؤسسات المجتمع الإسلامي، عن صد موجات الاستبداد الأموي، وقع المجتمع في اللحظة النموذجية للاستبداد، وصار هو الطابع العام له. وتحولت الدولة، التي كانت جميع تقاليدها ومفاهيمها وسلوك أفرادها تنتمي الى المجتمع القبلي، وكان الواحد من الأعراب، ومن "أيها الناس" منها، يدخل على عمر بن الخطاب أو على معاوية، ويخاطبه كندّ له، إلى دولة صار كل شيء فيها بروتوكولاً، كل شيء فيها محسوباً! دولة تمارس السلطة من وراء حجاب، بعد أن لم يكن هناك حجاب وليتحكم أردشير، "الحاكم"، حامي الدين، وحامي البلاد والعباد، ومحرر الأرض والمدافع عن الوطن. والذي صار هو الرمز السائد بين الحكام والمعارضين لهم، في سلوك الحكام والعامة، بعد أن رسخه العلماء من خلال الثقافة التي سادت في المجتمع، والتي أرست منظومة الأخلاق الفارسية بين الناس. فالحاكم أو الخليفة، يقدم نفسه كأردشير المتحقق على الأرض وحامل اسم "الخليفة"، أردشير الجامع بين الدين والدولة. أما المعارضة الشيعية وغيرها، فقد جعلت من الإمام البديل الذي يشخص الرمز /الأصل ومع الرغبة في "اتقاء الفتنة"، التي بررت على الدوام قبول العيش "باستكانة" تحت حكم أي حاكم، حتى لو كانوا فاسداً، أو مغتصباً للسلطة، ومستبداً بالحكم وقعت المجتمعات العربية الإسلامية طوال هذه القرون في شرك استبداد الحكام وتردي منظومة الأخلاق الاجتماعية الأخلاق معاً.
وصار، شيخ الصوفية والمفتي والحاكم بأمره وشيخ القبيلة ورئيس الطائفة وزعيم الحزب، و"الزعيم الأوحد" و"الزعيم البطل"، ومن في معناهم هم الذين يدبرون مدينة العرب والمسلمين بصورة مباشرة أو غير مباشرة. قد لا يدبرونها على صعيد الواقع، كما يعيشه الناس في هذه المدن –وإن كان هذا حاصلاً فعلاً في كثير من الأنحاء- ولكنهم وبكل تأكيد يدبرون مدينتنا في نفوسنا على مستوى الشعور واللاشعور ولهذا لم يتخلص العرب المسلمين، من خرافة "المستبد العادل" بعد، ولم ينهوا التناقض الوجداني الذي ينشأ ضرورة من الجمع بين الاستبداد والعدل في شخص واحد، شخص "الأب". وبعبارة أخرى لم يعانوا بعد تجربة ما يدعوه بـ"الختان السياسي" الذي ينقل الشعوب من وضعية "الرعايا" إلى وضعية المواطنين، وضعية الرشد السياسي، تماما مثلما ينقل "الختان" "العادي" الطفل إلى الرشد … الجنسي.