بوابة الحركات الاسلامية : قراءة في الانقسامات داخل معسكر "المتحدثين بالمقاومة" (طباعة)
قراءة في الانقسامات داخل معسكر "المتحدثين بالمقاومة"
آخر تحديث: الأربعاء 25/12/2019 12:59 م حسام الحداد
قراءة في الانقسامات
في أحدث دراساته المنشورة يقدم مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية دراسة مهمة للباحث محمد جمعة مدير تحرير مجلة مختارات إسرائيلية، وخبير الشئون الفلسطينية  المركز حول الانقسامات داخل معسكر "المتحدثين بالمقاومة" ويتناول فيها التصعيد بين إسرائيل والجهاد... دلالات موقف حماس، و الأثر الاستراتيجي لتباين الموقف من السلطة، حيث يقول:  يوما بعد الآخر يتأكد حجم الانقسام الواقع بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، ويتضح أكثر أن المعطيات التي صاحبت التصعيد العسكري الذي حدث في غزة بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي عقب اغتيال جيش الاحتلال للقيادي البارز في سرايا القدس بهاء أبو عطا، في شهر نوفمبر 2019، لم تكن أكثر من محطة كاشفة –وليست منشئة- لهذا الانقسام والتباين في الأهداف الإستراتيجية لكل من حماس -حاكمة غزة بلا منازع- والجهاد الإسلامي ثاني أقوى قوة في القطاع. وإذا كانت قيادات حركة الجهاد قد هرعت، في وقت سابق، إلى منزل القيادي في حماس محمود الزهار لتقديم الاعتذار له بعدما تعرض للإهانة والطرد القسري من أمام منزل بهاء أبو العطا أثناء حضور الزهار لتقديم العزاء في أبو عطا، وإذا كانت قيادات الحركتين تحاولان إظهار أنهما تقتربان من بعضها البعض (بدا هذا واضحا أثناء محادثاتهما بالقاهرة أوائل ديسمبر الجاري) وتحددان الأزمة بينهما بوصفها تعبيرا عن الاختلافات المشروعة في الرأي بين منظمتين ذات هدف مشترك، إلا أنه من المشكوك فيه أن يؤدى كل ذلك إلى وضع حد للتوتر بين الطرفين، أو يُنهى الاحتكاك بين عناصرهما على الأرض.
الثابت هنا أن "قابلية" حركة حماس لإبرام هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، تتزايد يوما بعد الآخر، وهذا يؤدى إلى تعميق الخلافات بينها وبين الجهاد التي ما تزال ترفض الحل المرحلي، وترفض أيضا المشاركة في السلطة. والثابت كذلك أن التصاعد المستمر في قدرات حركة الجهاد يُترجم دائما لصالح محاولة قيادة الحركة تكريس اتباعها لمسار مستقل عن حماس، بل وتحديها أيضا، خاصة فيما يتعلق بتفاهمات التهدئة مع إسرائيل، وعلاقة حماس بالفصائل الأخرى في القطاع. 
التصعيد بين إسرائيل والجهاد... دلالات موقف حماس
سلطت المعطيات التي صاحبت التصعيد العسكري في غزة عقب اغتيال بهاء أبو عطا- كما سبقت الإشارة- الضوء على الأهداف الإستراتيجية المتباينة لكل من حماس والجهاد الإسلامي؛ فلأول مرة منذ فك الارتباط بين إسرائيل والقطاع في عام 2005، لا تُحمِل إسرائيل حركة حماس المسئولية (كونها سلطة الأمر الواقع الحاكمة في غزة) عن إطلاق الصواريخ من القطاع، ولا تفرض عليها ثمنًا نتيجة لذلك. وإنما ركزت إسرائيل فقط على حركة الجهاد الإسلامي. ولأول مرة كذلك تمضي أكثر من 48 ساعة على التصعيد والقصف المتبادل بين إسرائيل وغزة، دون أن تنخرط حماس وجناحها العسكري "القسام" فيه، بل وتظل الأخيرة في موقف المراقب لما يحدث!!
هذه المعطيات غير المسبوقة تشير بوضوح إلى أشياء كثيرة تتعلق بالتطور الحادث في العلاقة بين حماس والجهاد، وكيف أن الأخيرة أصبحت تشكل تهديدا لديناميكيات التصعيد والتهدئة بحسابات حماس، وباتت تزاحم حماس على صدارة معسكر المتحدثين بالمقاومة، أو الاستمرار كطرف مقرر ووحيد في غزة. 
الأثر الاستراتيجي لتباين الموقف من السلطة
ما يَجْمَعُ حركتي حماس والجهاد الإسلامي كثير جدًا، إذ تشتركان في الخلفية الإسلامية، وفي الرؤية السياسية، والإيمان بمركزية المقاومة المسلحة لتحقيق الأهداف، وفى التحالف الإقليمي مع المحور الإيراني. وبالمقابل، فإن ما يفرق بينهما لا يمكن التقليل من شأنه مع أنه أقل مما يجمع بينهما، فحماس ذات الخلفية الإخوانية تتحالف مع قطر وتركيا، وغالبا ما تُراعى الحسابات الخاصة بروابطها الإخوانية في الإقليم، خلافًا لحركة الجهاد التي تغلب البعد الوطني أكثر مما تفعل حماس. 
كما أن حماس اختارت منذ عام 2005 المشاركة في السلطة عبر بوابة الانتخابات، ثم عن طريق الانقلاب العسكري الذي جعلها الحاكم الفعلي لقطاع غزة. بينما لم يشارك "الجهاد" ذو الخلفية الإسلامية أيضًا في السلطة، وهذه نقطة خلاف كبيرة، حيث أفضى هذا التباين في الموقف من السلطة إلى سلسلة تباينات تتركز في تزايد قبول "حماس" بالتهدئة، واستعدادها لمعادلة "هدوء مقابل هدوء" مع تخفيف الحصار، على أمل أن تصل إلى هدنة طويلة الأمد (مع التبشير بالاستعداد لمعركة التحرير) مقابل الاعتراف بسلطتها ورفع الحصار. بينما حركة الجهاد متحررة من قيود السلطة ومسئولياتها وامتيازاتها ومكاسبها، وترى ضرورة الاستمرار في مشاغلة الاحتلال إلى حين "المنازلة الكبرى"، والامتناع عن هدنة دائمة، خصوصًا في ظل استمرار الحصار والجرائم الإسرائيلية، خاصة تلك التي ضد مسيرات العودة. 
حتى وقت قريب كانت الحركتان قادرتين على احتواء الخلاف بينهما من خلال تكاملهما في الرد على العدوان الإسرائيلي، لكن مؤخرا بدا أن التناقضات بين الطرفين تتعمق؛ فبينما تنظر حماس إلى استخدام التصعيد العسكري كوسيلة لتحسين شروط التهدئة مع إسرائيل وتأمين تدفق الأموال القطرية، وكلاهما يعزز مواقع وحسابات "حماس السلطة"، تنظر الجهاد إلى التصعيد مع الاحتلال من منظور مختلف. 
السيناريو الكابوس لحماس هو خروج تمرد شعبي من قبل سكان غزة الذين فقدوا صبرهم على سياسات نظامها وإخفاقاته الاقتصادية. نتيجة لذلك، تتمسك حماس بنتائج المفاوضات التي تجريها مع مصر والأمم المتحدة بهدف منع الانهيار الاقتصادي في غزة. في المقابل، ليس لدى الجهاد الإسلامي مثل هذه المخاوف، بل إنها تتوق كثيرا إلى استخدام ترسانتها الصاروخية (والتي باتت قريبة من ترسانة حماس) مدفوعة بالرغبة في التموضع كمنظمة جهادية "أصيلة" في القطاع على حساب حماس، التي (خلافا للجهاد الإسلامي) يجب أن توازن بين اعتباراتها كحكومة والتزامها بالصراع المسلح.
صحيح أن حماس لجأت إلى تفعيل ما يسمى بــــ"غرفة العمليات المشتركة"، وهي إطار عملياتي مشترك للفصائل الفلسطينية (غرفة عمليات) تريده لضبط التهدئة وإلزام الجميع بمقتضياتها، وليس لتعزيز "وحدة المقاومة" أو "رص" صفوف المقاومين وإشراكهم في صنع قرار "الحرب والسلام"، لكن صعود قوة حركة الجهاد جعلها تتمرد كثيرا –خلال عام 2019- على رغبة حماس في السيطرة والتفرد. 
المهم أن هذا "التمرد" من قبل الجهاد على حسابات حماس الخاصة بالتهدئة والتصعيد، أصبح يثير حنق الأخيرة وقلقها. لقد صار لحماس منافس قادر على فتح جبهات عريضة، ومطاولة العمق الإسرائيلي، وهو بات اليوم الأقرب إلى قلب "المحور الإيراني" فيما تزال مواقف حماس تخضع للكثير من الطعن والتشكيك والتمحيص، بعد الاستدارة التي أقدمت عليها حماس في زمن صعود الإخوان في بدايات "الربيع العربي"، عندما حاولت حماس إحلال القاهرة وأنقرة والدوحة محل طهران ودمشق والضاحية الجنوبية لبيروت. 
حتى الآن تتجنب حماس القيام بعمل عدواني واسع ضد أعضاء الجهاد الإسلامي الذين انتهكوا تفاهمات حماس مع إسرائيل، من خلال إطلاق النار والهجمات الصاروخية. صحيح أن حماس تلجأ أحيانا إلى اعتقال أعضاء من الجهاد، لكن عادة تكون هذه الخطوات أقل قسوة من تلك التي اُتخذت ضد الجماعات السلفية في القطاع (في عام 2015، عندما قامت حماس بهدم مسجد سلفي في منطقة دير البلح وسط القطاع). 
لقد خاضت حماس طيلة الاثنا عشر عاما الماضية تجربة "الجلوس على مقعدين"؛ "مقعد السلطة" و"مقعد المقاومة". ومع مرور الزمن، كانت الحركة تزحف لاحتلال مساحة أوسع من المقعد الأول مُخلفةً فراغاً على المقعد الثاني. هذا الفراغ تسعى "الجهاد" اليوم لملئه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. ولهذا ثمة من يتذكر ما كان يحدث قبل سنوات، عندما كانت حماس نفسها هدفًا لانتقاد أبو مازن لإطلاقها صواريخ على إسرائيل كانت تؤدي إلى رد فعل مدمر على القطاع، على غرار ما هو موجه إلى الجهاد الإسلامي في غزة هذه المرة. وثمة من يردد مقولة "ما أشبه اليوم بالبارحة"، في إشارة إلى أن حماس تلعب اليوم الدور ذاته التي لعبته السلطة زمن الراحل ياسر عرفات في قطاع غزة، وأن "الجهاد" اليوم، تتقمص أدوار حماس في تلك الأزمنة.