بوابة الحركات الاسلامية : سامح عسكر في حوار خاص حول العقل والدين ونقد التراث (طباعة)
سامح عسكر في حوار خاص حول العقل والدين ونقد التراث
آخر تحديث: الثلاثاء 29/09/2020 01:54 م حوار: حسام الحداد
سامح عسكر في حوار
كثيرا ما توجه الاتهامات للباحثين الجدد المتخصصين في التراث العربي والإسلامي، كذلك المطالبين بتجديد الخطاب الديني، وتطويره بما يتناسب مع العصر، ويأتي الهجوم تارة من الجماعات الإسلامية وتارة أخرى من علماء داخل المؤسسة الدينية، وحول هذا الموضوع والعلاقة بين العقل والدين كان لبوابة الحركات الإسلامية هذا الحوار مع واحد من أهم الباحثين على الساحة المصرية والعربية الكاتب والباحث سامح عسكر، الذي ساهم في اثراء هذا المجال بـ 14 كتاب ومئات المقالات والدراسات العلمية المحكمة، ومُحاضِر في اليوتيوب عن قضايا التراث والعلم والعقل، كانت له تجربة مع الإخوان طويلة حوالي 20 سنة انتهت بعد ثورة يناير بعدة أشهر، ومؤسس حملات نقد الموروث على مواقع السوشيال ميديا، والتخصصات العلمية الذي يكتب فيها (الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتراث والفلسفة والتاريخ وتقريب بعض العلوم)
نص الحوار
بصفتكم باحث في التراث والأديان هناك العديد من الاتهامات الموجهة لكم مثل عدائكم للتراث ولكل ما هو إسلامي، بماذا تردون على هذه الاتهامات خصوصا وأن التراث الإسلامي هو في المقام الأول تراث إنساني ومعظم التراث الإنساني متشابه؟
هذه الاتهامات تخرج ممن يرى أن التراث (إلها يُعبَد من دون الله) فيعبدون الأئمة والمحدثين والشخصيات ولا يتصورون منهم الخطـأ والزلل، إضافة لعبادة السطور والكُتُب والعيش بها في عالم مثالي مفصول عن العالم وتجاربه وواقعه، وفي الحقيقة أنه اتهام أجوف لا يخرج من عالِم مدقق لأننا ومنذ أن سطرنا بأقلامنا أولى حروف النقد الديني ونُصرّح بشكل متكرر أن التراث كأي علوم به الصواب والخطأ..الشر والخير..الفضيلة والجريمة، فعناصر هذا التراث آدميون لهم وعليهم من شيوخ وحكام وقادة عسكريين وعوام، فعندما ننظر في تراث هؤلاء نضع أيدينا على الشرور والأخطاء التي فعلوها ونُسلّط الضوء عليها كي تخرج من دائرة المقدس لدائرة أخرى بحثية يكون فيها العنصر التراثي بشريا ليعود إلى طبيعته التي كان عليها أول مرة....
وما أضلّ من الجماعات الإرهابية الحالية التي عَبَدت هذا التراث وقدّست شخصياته فقِبلَت على أنفسها فعل الشر باسم الله، والوقوع في الخطأ باسم الله أيضا، والقاعدة لديها معكوسة ففي حين يقول الله تعالى "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " [النساء : 79] هم يقولون شيئا آخر فينسبون الشر والسيئات لله ويزعمون أن الله أمرهم به، فوقعوا في ما وقع فيها الطُغاه السابقون الذي كذبوا الأنبياء حين قالوا "وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء "  [الأعراف : 28] ولا يدركون أن هذه أفعال الشيطان الذي ملك أنفسهم وعقولهم لا هي أفعال الله وإرادته ، قال تعالى عن الشيطان "إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون"  [البقرة : 169]
كثيرا ما تهاجمون كتب الحديث خصوصا البخاري فلماذا البخاري تحديدا؟
البخاري شخص وليس عقيدة لكن الشيوخ جعلوه عقيدة وكلامه وحي من الله..هذه مشكلة كبيرة عند الفقهاء كلما واجهناهم بها أنكروها، بينما جوهر عقيدتهم في وضع كلام البخاري تحت إسم (السنة) واعتبارها وحيا ثانيا من الله على أنها كلام الرسول، لا يفترضون فيه الخطأ والزلل، فإذا قلنا لهم هل البخاري يخطئ قالوا نعم، قلنا إذن فلماذا لا تَشكّون في أحاديث الرجل وتؤمنون بعصمة كتابة؟
في الحقيقة من أعطى هذه القيمة للبخاري هو الخليفة العباسي الذي فرض قدسيته على الجميع في زمن المتوكل بالله وأبنائه، ثم ورث الأحفاد تلك القدسية حتى وضعوا كتاب البخاري بعد القرآن في تفاضل عددي يساوي الجميع في القيمة ويختلف في الدرجة، أي ما فعلوه في الحقيقة هو مساواة كلام الله بكلام البخاري في القيمة، لكن قالوا باختلاف الدرجة..وهذه مصيبة فقهية يعاني منها شيوخ المسلمين السنة لا يدركون خطورتها ومعناها على الإسلام لسبق تحريمهم لعلوم العقل سابقا..فلو كانوا عقلاء لرأوا بالحس البداهي أن ما يفعلوه هو إنكار للدين وإسقاط كتابه الأول..وقد حدث بفتاويهم الشهيرة التي تنسخ القرآن بالحديث..
البخاري بالذات لأنه كبيرهم الذي علّمهم السحر، فالرجل ليس مجرد مُحدّث بل فقيه وضع لهم أسس دين مختلف عن دين القرآن والأنبياء في كثير من جوانبه وأركانه وثوابته، وهو أول من صنّف تحت عنوان الصحيح ببدعة حديثية لم يأتِ بها من قبله الذين تناولوا الرواية والأخبار كشاهد لفهم الدين وليس صحيحا للدين، لاسيما أن الذين سبقوا البخاري لم يصفوا رواياتهم بالصحة ولكن بالمسانيد والسنن والموطآت وتعني (الطريق والداعم) لفهم الدين وهي مختلفة حسب كل محدث وراوي لكن البخاري لغى كل هذه الأفهام ليخرج بأشهر بدعة التي لا زلنا نعاني منها، وهي اعتبار أن ما كتبه (صحيح) عن الرسول وليس مجرد خبر قابل للصدق والكذب.
باختصار: الناقد هو مرأة من ينتقدهم..فلو لم يقدس الشيوخ البخاري دونا عن بقية المحدثين ووضعوا كتابة في مستوى إلهي وأفتوا بعصمته من الخطأ ما انشغل الباحثون – وأنا منهم – بهذا الكتاب وكشف مثالبه وأخطاءه لإثبات لمن له عقل أن هذا مجرد بشر وكتابه مصنف عادي..
هل نحن بحاجة لنقد التراث أم التمسك به كهوية تحمينا من التميع والتماهي في هويات أخرى تزيد من اغترابنا؟
الذي يحدد ذلك هو المصلحتين العامة والخاصة، فهل توجد مصلحة من التراث فعلا رأيناها وعايشناها؟..أم العكس هو الذي حدث من تخلف ودمار وجماعات إرهابية ونشر لكل صنوف الشر باسم الرب؟
مفهوم الاغتراب مفهوم خادع من صناعة معامل الجماعات الإرهابية والسلطة الدينية يقصدون به الكفر بالحداثة والعلم والمكتشفات والمعاصرة والعالم كله، يريدون الانكفاء على أنفسهم وعزل المسلمين عن كوكب الأرض وأن نعيش مغتربين داخل أنفسنا لا علاقة لنا بغير المسلمين على الإطلاق، لاسيما أنهم دائما يرفقون هذه الدعوات في عدم الاغتراب بدعوات أخرى لتطبيق شريعة قديمة وعقوبات قرووسطية تجاوزها الإنسان كالقطع والجلد والرجم ومن يرفض إحداها فهو يدعو للاغتراب..!!
أما بالنسبة للهوية فلكل مجتمع خصوصية ثقافية لا يملكها غيره، فمسلمي الصين مختلفين عن مسلمي الهند عن مسلمي باكستان، كذلك فمسلمين إيران مختلفين عن مسلمين السعودية وبينهم خصومة، هذه الهوية المخصوصة يجمعها شئ واحد هو (الانتماء للإسلام) لكن فروع وأجزاء وجوانب هذه الهوية متعددة ومتباينة في الثقافة واللغة والسياسة والمصلحة، فمن يتحدث إذن عن هوية واحدة هو كذاب..ولايفعل ذلك سوى طلاب الحكم من الشعاراتيين والحنجوريين الذين إذا مَلَكوا ارتدوا عن كل ما نادوا به من الهوية الواحدة، أو كما قيل..إذا أردت اختبار إنسان أو جماعة (أعطيها السلطة)..
كثيرا ما نسمح عن تجديد الخطاب الديني فهل الخطاب الديني واحد أم متعدد، وإن كنا نريد التجديد فعلا فمن أين نبدأ؟
أولا علينا دراسة التحديات التي يلقاها العالم والمسلمون بالخصوص، فالفكر وليد اللحظة..والمصلحة تحكمها إجراءات السياسة دائما..لذلك رأيي في هذا السؤال أنه متعلق بشكل وثيق بالسياسة والحُكم..إذا أراد الحُكام تجديد الخطاب الديني أو سألوا من أين نبدأ وصدقوا في نواياهم بالتجديد سيشرعوا فورا في سنّ القوانين وحمل الناس عليها..لا أن يطلبوا من الناس تجديد دينهم من تلقاء أنفسهم..هذا جهل..
العوام تدينهم تابع وليس إماما..فهم يتبعون دائما رجل الدين الذي يجلس في المعبد ويتحدث دائماً باسم الرب، فإذا أرادت الدولة فضّ هذه العلاقة أو تحديد سلطات رجل الدين ستفعل وليس بحاجة وقتها لشيخ أن يعطيهم الإذن ، لاسيما أن للقوانين سلطة ذاتية ومعنوية تفرض نفسها على الفكر..وتخلق بشكل متجدد أفكار ورؤىً جديدة، وفي السابق سألت قرائي: هل تتخيلون ماذا لو قامت الدولة بإلغاء قانون الحبس على ازدراء الدين ثم شرّعت قانونا آخر بتجريم التكفير..ألن يفتح ذلك أبواب العلم والاجتهاد على مصارعها – ومن الشيوخ أنفسهم – لإجازة ما حدث والتدليل عليه؟..أليس هذا القانون الذي طال انتظاره سوف يساعد المثقفين والمفكرين على العمل في تجديد الخطاب؟..ألن يتعاون الشيخ والمثقف لأول مرة في إنتاج خطاب عصري يؤمن بالحداثة حتى يعتدل خطاب الشيخ على المنابر والإعلام ويصطبغ بصبغة المثقفين؟
أما عن أنواع الخطاب المطلوب تجديده فهو متعدد..يجب أن نُجدد الخطابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن هؤلاء جميعا محكومين برؤية مستنيرة للخطاب الديني، أو كما قلت سابقا: أن الخطاب المطلوب تجديدة لو كان مدرسه فالخطاب الديني هو البوّابة لتلك المدرسة، فلا يمكن المرور لأي نوع من التجديد قبل تجاوز مبدأ العنف والإقصاء والتكفير الذي شربناه من الخطاب الديني القديم..
يطالب البعض بالترويج ونشر ما يطلقون عليه صوفية علمية لمواجهة أفكار الجماعات المتطرفة كيف تنظر لهذه المسألة؟
لا صوفية ولا سلفية..هذه اتجاهات أفراد لكل إنسان الحرية أن يعتنق ما يشاء دون فرضه على الجميع، التصوف في جوهره لا يتحدث في السياسة كونه منغمس بشكل تام في التربية والتهذيب والتأمل، لكنه مع ذلك يُصدّر ألوانا كثيرة من الخرافة والدروشة وتغييب العقول عن الواقع، فلا يمكن أن يكون التصوف هنا حلّا، فضلا على أن انصرافه عن السياسة قد يفسر على أنه دعم غير مباشر للمستبدين وترك الساحة خالية للمفسدين والجهلة في امتلاك أدوات السلطة والثروة والعلم، فضلا على أن الاتجاه السلفي نفسه يوجد أنواع منه مُسالِمة ولا شأن  لها بالسياسة فيكون اختيار التصوف وحده غير مبرر..
الصحيح في رأيي أن هذه الاتجاهات الفردية في التدين لا ينبغي أن يكون للدولة دور عليها، كون هذا التدخل قد يؤدي لأدلجة المؤسسات وإصباغها بصفات دينية منحازة..وهذا لا علاقة له بصوابية ذلك الاتجاه من عدمه..أتحدث من جانب الحريات وترك شئون التدين الشخصي للفرد نفسه وقناعاته وأن الدور الوحيد للدولة هنا يكون عبر احتواء تلك النماذج جميعها وسنّ القوانين المنظمة لحماية الجميع بمن فيهم غير المتدينين..
وهنا أشدد على أمرٍ هام أوافق فيه كارل ماركس أن ظواهر التدين في المجتمع طبقية، فلو كان ثريا صاحب نفوذ اجتماعي متبنيا للمنهج الصوفي سيساهم في نشره بين العوام، كذلك لو كان هذا الثريّ غير مسلما أو غير متدين أو يتبنى المذهب السلفي، خصوصا لو ظهر ذلك الثريّ بصورة سمحاء كريمة سيقوم الإعلام وذوي المصالح والمنافقين في تلميعه أكثر وإعطاءه دوراً جوهريا في المجتمع يصبح بعدها شخصية عامة ليرتقي بعد ذلك ويُصبح زعيما، لذا فالحريات الصحفية هنا لها دور في الكشف ونقد هذه الظاهرة السلبية ليحمي الدولة من تغوّل فئة على أخرى
وكلنا قد رأينا كيف انتشر الإخوان المسلمون والسلفية عبر أغنيائهم وشيوخهم المشاهير الذين صاروا قدوة شعبية وحصل بعضهم على الزعامة الدينية والسياسية، وقتها لم يكن نظام الرئيس حسني مبارك يسمح بالنقد وحرية الرأي وتدافع الأفكار..أو يعطي مساحة مناسبة لخصوم هذا الاتجاه الديني من العلمانيين والمسيحيين بالظهور مما أدى لتغول الفكر السلفي الوهّابي في الشارع حتى طُمِسَ بدوره الفكر الصوفي وصار المجتمع إقصائيا متشددا بعد عقود طويلة من الانسجام وعدم التفرقة على أساس الدين والانتماء.
هل يمكن أن نتحدث عن حداثة عربية وما السبيل إليها؟
أكبر خطأ في تناول العرب للحداثة أنهم تناولوها من جانب الاستهلاك والتقليد، فالمسلمين والعرب لا زلوال غير مشاركين في الحداثة العالمية إلا بعض النُظُم الديمقراطية في شرق آسيا كماليزيا وأندويسيا..هذه مجتمعات علمانية ديمقراطية شاركت بشكل نسبي في الحداثة، مما يعني أن الحديث عن حداثة عربية يلزمه بشكل أولي الحديث عن ديمقراطية عربية وعلمانية عربية لكي ندخل عصر الحداثة، فالمستبد والشيخ لا زالت لهم الكلمة العليا عند العرب، وبشكل دوري يطلقون دعوات الكراهية والمؤامرة ضد أي حداثة تهدد سلطاتهم.
والخطأ الآخر في تناول العرب للحداثة هو تركيز العلمانيين العرب وبعض مفكريهم على تقليد النُظُم الغربية ومجتمعاتهم، لا يدركون أن بعض هذه النُظُم التي يقلدوها تفكر بشكل ديني كالجمهوريين في الولايات المتحدة مثلا، الذين يخضع نفوذهم الرئيسي في وسط الدولة أو يُعرَف بحزام الكتاب المقدس..بخلاف قاطني الساحل الأمريكي شرقا وغربا هؤلاء ضمن الكتلة الانتخابية للحزب الديمقراطي ويفكرون بطريقة تقدمية غير دينية في الغالب..علما بأن رؤساء الولايات المتحدة في معظمهم كانوا منتمين للحزب الجمهور وظلّوا فترة أطول..مما يؤكد أن المجتمع الأمريكي لا زال يفكر بطريقة دينية ويقلد حرفيا ما يقرأه في الكتاب المقدس ويبني على ذلك بعض سياساته في الخارج..
هنا الحداثة العربية المفترضة يجب أن تنتبه لتلك المفارقات وتصنع الفارق كي لا يأتي عليهم من يعيد الحكم الديني والخلافة باسم الحداثة..
وأما إمكانية بلوغ حداثة عربية فهو ممكن إما بطريق السياسة والحُكم كما تقدم في السؤال عن تجديد الخطاب الديني، وإما بنشر الوعي والعلم والضغط على السياسيين لإجبارهم أو حرفهم نحو الحياد وعدم تبني رؤى المتشددين في القوانين بدعوى الموروث والعادات والتقاليد، هنا يبرز الحس الإصلاحي عند النخبة أن السبيل لإحداث نهضة مصرية وعربية وشرق أوسطية شاملة لن يكون عبر التحالف مع رجال الدين أو توظيفهم بل في تطويع هذا الجهد كله في احتواء كل الآراء والمذاهب والأديان في وعاء الدولة ، مما يلزمه بالتالي إصلاحات تشريعية ودستورية كبيرة لا زال بيننا وبينها سنين ضوئية..