حيث قال: «إن المصرفيين مثل عبدة الأصنام، ولم يعلنوا توبتهم بعد»، وقد جاءت هذه التعليقات عبر برنامج «نيوز نايت» الإخباري، وبصورة واضحة لا لبس فيها، وتضمنت هجوما شديدا على النظام المصرفي البريطاني والعالمي، وعلى الجشع المنقطع النظير للمصرفيين الذين تخطوا كل الحواجز القانونية والأخلاقية في سعيهم إلى تكديس الأرباح والمنافع الشخصية، لدرجة فاقت طاقة المصارف ذاتها على التحمل، وأدت بها إلى الانهيار، جالبة معها المآسي والعذاب والتشرد والجوع لمئات الملايين من الناس العاديين الأبرياء، الذين فقدوا مدخراتهم ووظائفهم، وانضموا إلى صفوف العاطلين عن العمل والمتسولين للقمة العيش.
ولعل الأمر المثير للغاية في تصريحات روان ويليامز هو تأكيده على أن الأزمة الاقتصادية الحالية، واتساع الهوة بين الغني والفقير، ستؤدي حتما إلى الاختلال الوظيفي للمجتمع بأكمله، وقد رفض اعتبار أن الأزمة الاقتصادية انتهت، وأن الاقتصاد مهم لدرجة أنه يجب أن لا يترك فقط للاقتصاديين، الأمر الذي يؤشر لتدخله شخصيا، كرجل دين، في الجدل الدائر حول الأزمة الاقتصادية ومخاطرها على الحياة العامة للناس.. هل كانت هذه التصريحات هي الأولى من نوعها المثيرة للجدل فيما خص روان ويليامز؟
قطعًا لا، ففي العام الماضي أشار الرجل، على هامش الأحاديث الكثيرة حول فشل النظام الرأسمالي بشكل أو بآخر، إلى أن كارل ماركس، الذي يعتبر الأب الروحي للحركة الشيوعية العالمية، «كان على حق في بعض جوانب نقده للنظام الرأسمالي العالمي»، خصوصًا في تشخيصه لكيفية تحول الطبقة الرأسمالية إلى عبادة المال، عوضا عن عبادة الله. هذا الحديث نشره الأسقف روان ويليامز في مجلة «ذي سبيكتاتور» الناطقة بلسان حزب المحافظين البريطاني، العدو اللدود للشيوعية، ودعا إلى توزيع عادل للثروة، وقال: إن الرأسمالي الناجح والجيد هو «الذي يرفع من مستوى معيشة الناس المحيطين به، وليس إفقارهم»، مشددًا على ضرورة وضع حد لتغول الطبقة الرأسمالية، والبنوك بشكل خاص، التي يتردد على لسان الكثيرين في بريطانيا أن أبنيتها الكلاسيكية في حي «سيتي» للمال والأعمال وسط لندن أشبه بالمعابد القديمة.
لم يكتف الرجل بترديد هذا الحديث شفاهة، بل قام بتسجيله في شرائط فيديو ووزعها على كل تابعيه، مطالبًا إياهم بالعمل على محاربة الفقر.. هل كان روان ويليامز عبر هذه الدعوة عامل إزعاج للرأسمالية الضاربة جذورها في بطن الإمبراطورية المالية الإنجليزية؟ ذلك كذلك بالفعل، فهو كرجل دين يصيح على الدوام بحتمية "إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
وفي السابع من فبراير (شباط) من عام 2008، وبدعوة من محفل للمحامين البريطانيين، كان روان ويليامز يتحدث عن دور الإسلام في المجتمع البريطاني، وقد قال الرجل ضمن ما قال: «إن تبني بعض عناصر الشريعة الإسلامية في القانون البريطاني بات أمرا لا راد له»، وإن على بريطانيا أن تواجه حقيقة أن عددًا من المواطنين لا يعتمدون كثيرا على النظام القانوني البريطاني، وأضاف قائلا: «إن تطبيقًا جزئيًّا لبعض قواعد الشريعة الإسلامية قد يساعد على بلوغ انسجام اجتماعي»، وضرب مثلًا على ذلك بأن يمكن المسلمون من فض نزاعاتهم العائلية والمالية أمام محاكم شرعية، وقال ويليامز: «لا ينبغي أن يفرض على المسلمين الخيار الصعب بين الولاء الثقافي والولاء السياسي».
اشترط الزعيم الديني الإنجليكاني لهذا الأمر تفهمًا عميقًا لقوانين الشريعة الإسلامية، مشيرًا إلى أن الرأي العام في الوقت الراهن لا يزال تحت سطوة بعض التقارير الإعلامية المغرضة.
وأوضح قائلًا: «لا أحد يمتلك عقلًا سويًّا يريد أن يرى الشريعة تطبق في هذا البلد بالطريقة اللاإنسانية التي ترتبط بتطبيقها أحيانا في بعض البلدان»، على حد قوله.
كان روان ويليامز واضحًا وصادقًا مع ذاته في قوله: «لا مفر من أن تفسح بريطانيا لمسلميها البالغ عددهم 1.7 مليون نسمة المجال؛ حيث إنه لا يتعين إرغام المسلمين على الاختيار بين الولاء الثقافي أو الولاء للدولة». وإنه «من غير المريح أن يرسخ في أذهاننا عن القانون شيء شبيه بعنصر السوق، أي منافسة على الولاءات، وذلك على نحو ما يرى البعض».. كيف كانت ردود الفعل في مواجهة ما ذهب إليه رئيس أساقفة كانتربري؟
حتمًا ولا بد كانت الإسلاموفوبيا الأوروبية كائنة خلف الباب رابضة لتصريحات الرجل التقدمي، الذي وصف بأنه أسقف لكل العصور.
أول تلك المواقف جاء وقتها من جانب الحكومة العمالية بزعامة جوردن براون، التي قالت في بيان لها: «إن رئيس الوزراء يعتقد أن القانون البريطاني الذي يستند إلى القيم البريطانية هو الذي يتعين أن يطبق في هذا البلد».
وبينما رأى رئيس الكنيسة الإنجليكاني أن فتح الباب أمام مناقشات مفتوحة حول تلك القضية الحساسة أمر ضروري لدعم التماسك الاجتماعي، ووقف عملية «الابتعاد» للشباب المسلم التي طال الحديث عنها، بعد هجمات عام 2005 في لندن، قال منتقدون: «إن الفوضى الاجتماعية ستكون هي النتيجة».
أما نيك كليغ، زعيم الحزب الليبرالي، فقد قال: «المساواة أمام القانون هي اللحمة التي تربط مجتمعنا بعضه ببعض».
هل تتوقف آراء روان ويليامز عند حدود القضايا ذات الأبعاد الفقهية أو اللاهوتية، أم تمتد كذلك إلى القضايا السياسية والصراعات الملتهبة حول العالم؟
قطعًا نرى للرجل مواقف سياسية واضحة وحادة وإيجابية في الوقت نفسه، وقد تبدى أحدها في أثناء زيارته لكاتدرائية سان جورج الخاصة بالكنيسة الإنجليكانية في القدس الشرقية المحتلة، إذ اعتبر أن الجدار الفاصل الذي كانت إسرائيل تشيده وقتها يعد رمزًا رهيبًا للخوف واليأس الذي يشعر به الإسرائيليون والفلسطينيون، داعيًا الشعبين بدلا من ذلك لبناء سلام مشترك، وأضاف: «إن الجدار الأمني يشكل رمزًا رهيبًا للخوف واليأس، الذي يهدد الجميع في هذه المدينة وهذا البلد، وكل من يتقاسمون الأرض المقدسة».
في عظته، كانت خلفية روان الدينية مسخرة لمصلحة الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وموجها إياها لخدمة المصالحة بين البشر.. قال يومها: إن الكثيرين ينظرون إلى الجدار الذي تبنيه إسرائيل لتفصل نفسها عن الضفة الغربية على أنه تحرك من جانب مجموعة بشكل حاسم تدير ظهرها لأخرى، وتيأس من التوصل إلى أي شيء يشبه حلًّا مشتركًا أو مستقبلًا مشتركًا أو سلامًا مشتركًا.
ويحلل روان ويليامز ظاهرة الجدار بقوله: «إن الحاجز ليس هو المثال الوحيد على رفض التفكير في مستقبل مشترك، كما أن أشلاء جثث منفذي التفجيرات وضحاياهم تشكل علامة أعمق على رفض هذا المستقبل، واختيار الظلمة والاغتراب المتبادل».
وقد أجمل رأيه في هذا الجدار بأنه جدار العداوة الذي لا بد أن يزول، واستشهد في حديثه ببعض النصوص الدينية المسيحية التي أشارت إلى العداوة التاريخية القديمة بين اليهود وغيرهم من الأمم حول العالم.
وقد كانت تصريحات روان ويليامز صادمة ولا شك للحكومة الإسرائيلية، فالرجل يأتي من البلاد التي صدر عنها وعد بلفور، والتي تسببت في مأساة الشعب الفلسطيني حتى اليوم، لكنها شهادة حق عند سلطان ظالم في كل الأحوال، وتكتسب مصداقيتها بشكل أفضل؛ نظرا لأنها تأتي من رجل دين متنفذ، ويرأس طائفة كبيرة حول العالم.