إذ القرآن كبناء معرفي ابستيمولوجي لم يتكون أبدا بمعزل عن الإطار التاريخي والاجتماعي الحاضر آنذاك أي الإطار الايديولوجي. وإذن فإن العزل لا يجد تفسيره فيما يبدو إلا في ضرب من القمع السياسي الذي اتكأ على "أبستمولوجيا" متسلطة حاول تكريسها من حيث هي كذلك، أي من حيث هي بناء مطلق غير قابل للتجاوز، وذلك بعزلها عن نطاقها الايديولوجي.
فالنظرة إلى التراث لم تتجاوز كونه (سلطة مطلقة) غير قابلة للتجاوز بحال، ومن هنا فإنه لا سبيل إلا الاجترار الدائم لهذا التراث وذلك بقصد تكراره واعادة انتاجه.
وتؤسس هذه النظرة الايديولوجية المهيمنة على رؤي التيار الاسلامي السلفي في مصر وغيرها. حيث ان حلم التكرار أو العودة إلى فردوس السلف المفقود لم يزل هو المهيمن بقوة في مجمل الأدبيات السلفية ورغم أن كثيرين يجتهدون في التاريخ لانبثاق هذا الاتجاه بازدياد فاعلية تيارات التقريب من جهة وانكسار المشاريع النهضوية القومية من جهة أخرى، فإنه يبدو أن النهج التفكيري المؤسس لهذا الاتجاه يعد اساسًا أحد ظواهر الممارسة النظرية السلبية للعقل العربي التي تتجاوز زمنيًا واقعنا المعاصر بكثير وعلى هذا فإن النهج التفكيري - المؤسس لهذا الاتجاه - يعد أساسا أحد ظواهر الممارسة النظرية السلبية للعقل العربي، التي تتجاوز – زمنيا – واقعنا المعاصر بكثير.
وعلى هذا فإن النهج التفكيري _ المؤسس للفكر السلفي _ يعد أصلا لا نتيجة لانكسار الأمة وانهيار مشروعها القومي للنهضة ومن هنا تكون التيارات السلفية تجسيد "للداء" لا نتيجة له.
ومن ناحية أخرى فإن نظرة العقل العربي إلى المعاصرة لم تتجاوز بدورها كون هذه المعاصرة تمثل سلطة مطلقة لا تقبل التجاوز أيضًا ومن هنا فإن من المحتم علينا احتذاؤها بوصفها - هي لا غير- النموذج الوحيد الممكن لأي تقدم. وهكذا تتكشف الظاهرتان او النظرتان رغم تباينهما الظاهري عن ذات الثابت البنيوي المتكرر للعقل العربي، وهو النزوع الدائم الى اطلقه الفكر وتحويله إلى سلطة مطلقة خارج اطار الزمن والمكان.
ومن هنا يمكن الحديث عن سلفيتين لا سلفية واحدة، إحداهما ذات توجه ماضوي والأخرى ذات توجه عصري، ولكنهما تتفقان معًا في غربتهما عن الحاضر، بل وتقصدان إلى نسخة أو مسخة واحدة بالماضي، والأخرى بحاضر مسعار من الاخر.
واذن فالمعاصرة من حيث تبغي بمجرد احلال لحظة في الزمان بصرف النظر عن مضمونها محل أخرى، ليست أكثر من سلفية مصنعة وبينما تتكشف هذه السلطة المطلقة حين تكون تراثًا عن سلبية العقل وعجزه فإنها تتكشف حين تكون معاصرة عن تبعية للأخر.
وليس أكثر من حديث السلفيين في مصر عن أخطار الغزو الثقافي نعم هناك غزو بالفعل ولكنه لا يرتبط فقط بممارسة عدائية من الاخر بل والاهم أنه يرتبط بهيمنة نهج تفكيري معين يعد النهج المؤسس للرؤية السلفية نفسها، من حيث هو نهج لا تاريخي من الحالين.
أما مشروع علي مبروك في قراءة التراث والذي اعتمد رصد المعرفي خلال تضافره البنيوي مع الايديولوجي فإنه يكشف عن كون الفكر حتى في اقصى درجات تجريده إنما يعد لا سلطة مطلقة خارج التاريخ وانما انعكاسًا واعيًا لعلاقة الإنسان بعالمه واذن فإنه ذو طابع تاريخي وإنساني معًا ومن هنا فإن قابليته للتجاوز ليست ممكنه فقط بل انها لازمة ومن هنا يؤدي الإجراء المنهجي إلى قهر الطابع السلبي للعقل العربي، وذلك من حيث إن التراث والمعاصرة يستحيلان من كونهما سلطات مطلقة خارج الزمان والمكان، وليس لهذا العقل بازائهما إلا التبعية والخضوع، إلى كونهما مجرد لحظات ينبغي اندماجها من خلال الفاعلية الخلاقة للعقل في حاضر الذات الذي هو نقطة البدء لأي تفكير حق.
وقد يبدو هذا الاجراء المنهجي عند قراءة الأنساق الكلامية، عن أن كافة الصياغات العقائدية (شيعية، أشعرية، معتزلة.. الخ) يتعذر فهمها على نحو حقيقي بمعزل عن إطار ايديولوجي معين. ومن المثير ان تصورًا بلغ الغاية في التجريد أعني تصور (الله) يفلت أيضًا من هذا المصير. فإن تباين تصور (الله) منزهًا عن الصفات أو موصوفا بها إلى حد ما أو إلى حد التجسيم- لا يجد تفسيره إلا في الانتماء إلى إطار ايديولوجي معين، فإذ يرتبط التنزيه المعتزلي بأيديولوجيا أقرب إلى ان تكون ليبرالية إن جاز التعبير، فإن الوصف الاشعري يرتبط بأيديولوجيا أقرب إلى ان تكون تسلطية وأما التجسيم عند بعض الشيعة الغلاة فإنه يرتبط جوهريًا بأيدلوجيا هيمنة الإمام. وهكذا ابدا وكأن الله حقًا مرأة العصر تعكس ما يعانيه الانسان أو حتى ما يريده على قول هجل.
وإذا كانت القابلية للتجاوز تستحيل تمامًا دون الإقرار بالمضمون التاريخي والإنساني ولو عبر محاولة إلغائه لكل قراءة أو صياغة قديمة فإن ذلك يعني أن إجلاء التاريخي والإنساني – وغيابهما يمثل جوهر الأزمة الحضارية الراهنة.
انما يتحقق بالكشف عن المضمون الحقيقي لكل قراءة أو صياغة تراثية سابقة وهكذا تتأكد مفارقة التجديد في أنه يكون انبثاقًا من أعمق أعماق (القديم). وذلك مع التأكيد على أنه لا يكون من القديم (تكرارًا واجترارا) بل استيعابًا واندماجًا له في اللحظة الراهنة، التي هي البداية الحقيقية لكل تفكير أصيل.
من خلال هذه الرؤية وذلك المنهج حاول علي مبروك في كتابه "ما وراء تأسيس الأصول...مساهمة في نزع أقنعة التقديس" ان يستكمل مشروع نصر حامد أبو زيد في تفكيك الخطاب الأشعري، وان كان الأخير اتخذ من تحليل الخطاب والدرس اللغوي منهجا للتفكيك فان علي مبروك استخدم المنهج البنيوي لمحاولة الاجابة عن سؤالين محوريين طرحهما نصر ابو زيد وحاول ايضا الاجابة عنهما:
1- هل يمكن تجديد الفكر الديني دون تناول "تراث" هذا الفكر تناولا تحليليا نقديا، يتجاوز حدود التناول التقليدي ذو الطابع الاحتفالي الذي يكتفي بترديد الأفكار التراثية بعد ان يقوم باختزالها واختصارها، فتفقد حيويتها وخصوبتها، وتصبح اشبه بالمعرفة المجمدة؟
2- هل الأئمة الأربعة والخلفاء الأربعة ومن سواهم من الأئمة والخلفاء إلا بشرا مارسوا حقهم في الاجتهاد والتفكير، وتركوا لنا تراثا يستحق منا ان نفكر فيه ونجتهد، كما فكروا واجتهدوا؟ أم ان الخطاب الديني يرفع لواء "الاجتهاد" و "التجديد" بشرط ان يدور المجتهد والمجدد في اطار اجتهادات وتجديدات بعض كبارهم؟
فقراءة التراث من منظور المنهجيات الحديثة هي "الاحترام" الحقيقي لهذا التراث، لأنها تفترض قدرة هذا التراث على الاستمرار والتطور، لكن هذه القراءة لا تقف عند حدود الاحتفال والتوقير الزائف، بل تتجاوز ذلك الى النقد الذي يكشف عن ما في هذا التراث من جوانب ضعف منبعها "تاريخيته"، حيث ان الدارس العلمي الحقيقي يكشف "الايجابي" كما يكشف "السلبي" دون تعصب، أو حمية زائفة، او تقديس لفكر بشري واجتهاد انساني.