بوابة الحركات الاسلامية : جدل الحداثيين والتراثيين: من الصراع إلى الحوار في "ميريت الثقافية " (طباعة)
جدل الحداثيين والتراثيين: من الصراع إلى الحوار في "ميريت الثقافية "
آخر تحديث: الإثنين 02/03/2020 10:30 ص روبير الفارس
جدل الحداثيين والتراثيين:
صدر العدد الخامس عشر- مارس 2020، من مجلة ميريت الثقافية، الشهرية الإلكترونية، التي تصدر عن دار ميريت للنشر، ويرأس تحريرها الشاعر سمير درويش، وقد خصصت ملفها الثقافي، الذي جاء بعنوان "سجال الشيخين"، لمناقشة سجال شيخ الأزهر ورئيس جامعة القاهرة، الذي دار خلال جلسات "مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي".
تضمن الملف تسعة مقالات: الشيخ الطيب.. الأزهر وقضية التجديد للدكتور محمد عبد الباسط عيد، انظر خلفك وابتسم للدكتور أبو اليزيد الشرقاوي، الحداثة وشرك القداسة للدكتورة أماني فؤاد، مباراة يجب أن تنتهي بانتصار أحد الطرفين! للدكتور ماهر عبد المحسن، عن المطلق والنسبي في منهج شيخ الأزهر للدكتورة سامية سلام، الخشت من نقد العقل المغلق إلى البحث عن الإسلام المنسي للدكتور غيضان السيد علي، جدل الحداثيين والتراثيين: من الصراع إلى الحوار لعصام الزهيري، سقوط الفلسفة في خطاب الخشت والطيب! لأشرف البولاقي، و.. تعقيب على حوار شيخ الأزهر ورئيس جامعة القاهرة لعبيد عباس.
الافتتاحية التي كتبها رئيس التحرير دارت حول نفس الموضوع، وجاءت بعنوان "عن سجال الشيخين.. شيخ الجامع الأزهر وشيخ جامعة القاهرة!!"، ومنها: ما الزاوية المناسبة التي يمكننا أن ننظر من خلالها للسجال العلني –الذي يبدو مدبرًا- بين شيخ الأزهر ورئيس جامعة القاهرة خلال مؤتمر التجديد في الفكر الإسلامي الذي أقامه الأزهر يوم 27 يناير 2020؟ ما الزوايا المتاحة أصلًا؟ هل ننظر من زاوية الصراع بين أنصار المحافظة على التراث والتنويريين مثلًا؟ أتصور أنه لا، فلم يُعرف عن الدكتور محمد عثمان الخشت أنه من قادة التنوير، مثل نصر أبو زيد الذي دفع ثمن أفكاره بحُكْمٍ فرَّق بينه وزوجه، وقضَّى باقي حياته مغتربًا هربًا من السجن، بينما يتقلد الخشت رئاسة أكبر جامعة في مصر وأقدم جامعات الشرق الأوسط. طيب، هل ثمة صراع شخصي بين الرجلين في شكل تنافس سياسي أو حزبي أو علمي... إلخ؟ لا أعتقد، فكلاهما عضو في المؤسسة الحاكمة كلٌّ من المكان الذي سعى إليه حتى ناله، غير أنهما يقفان في خندقٍ فكريٍّ واحد تقريبًا. هل ثمة صراع بين المؤسستين اللتين يمثلانها؟ أيضًا لا، فكلتاهما معنية بأمور بعيدة عن الأخرى. لا يتبقى -إذن- إلا أنه صراع خفي بين طرفين أحدهما غائب، فرسالة شيخ الأزهر لم تكن موجهة للخشت، بل لرئيس الجمهورية رأسًا، والخشت لم يستوعب وانغرز في السجال حتى أذنيه، ليعطي الفرصة كاملة للشيخ كي يحبك رسالته.
نحن –هكذا- أمام سؤال بديل: ما الرسالة التي أراد شيخ الأزهر توصيلها لرئيس الجمهورية؟ من يراقب خطاب الشيخ يدرك أنه يشك في نوايا الذين يطالبون بتجديد الخطاب الديني، ويرى أنهم إنما يتوارون خلف هذا العنوان العام العريض –من وجهة نظره- للنيل من ثوابت الدين نفسه، والمعروف أن الرئيس أعلن أكثر من مرة بشكل علني في خطاباته ولقاءاته بضرورة التجديد، على الأقل من زاوية أن الصراع السياسي الرئيسي منذ 3 يوليو 2013 يدور بين المؤسسة الحاكمة –التي يمثلها الرئيس ونظامه- وبين الإسلام السياسي المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الجهادية التكفيرية العنيفة التي تدور في فلكها، حتى إن أحد تلك الجماعات أعلنت إمارة إسلامية في سيناء، وتنفذ عمليات تفجير وقتل ممنهج ضد كمائن الجيش والشرطة، وحتى ضد المصلين في المساجد، وفي كل مرة تضع فتاوى تراثية في فيديوهاتها تستند إليها لإضفاء (الشرعية) على عملياتها الإجرامية.
المفارقة المضحكة المبكية معًا هنا أن مشيخة الأزهر تقيم مؤتمرًا كبيرًا حاشدًا –ليس الأول بالمناسبة- تحت مسمى "التجديد في الفكر الإسلامي" ليعلن فيه الشيخ عدم حاجتنا للتجديد! والمفارقة الأوضح أن يقول الشيخ إن سؤال التجديد سؤال تراثي أصلًا، ليبين أن (مُدَّعِي التجديد) لم يأتوا بجديد من عندياتهم! ثم يعارض التجديد في اللحظة ذاتها، باعتبار أن نص التراث على التجديد كافٍ بذاته!! هذا من ناحية المشيخة، ولم يخلُ الأمر من مضحكات مبكيات من ناحية النظام أيضًا، فالرئيس بنفسه رعى إنشاء دستور جديد أعطى فيه صلاحيات غير مسبوقة لمشيخة الأزهر، أولًا بجعلها المرجعية الوحيدة في تفسير النصوص الدينية، وهذا معناه أنها تستطيع (جرَّ) كل أصحاب التفسيرات المخالفة إلى النيابة ثم السجن، وقد فعلت. وثانيًا بتحصين شيخها ضد العزل، بالرغم من أنه ليس رئيس جهة رقابية، وبالرغم من إلغاء تحصين رؤساء الجهات الرقابية نفسها، مما خلق كيانًا داخل الدولة ليس لها سلطان عليه!
ما سبق هو رؤية شكلية لأسباب السجال العلني الذي تابعه ملايين المصريين، وربما العرب، على الشاشات وفيديوهات موقع يوتيوب، ومن خلال مئات التغطيات الإعلامية في عشرات القنوات الفضائية، فإذا ما تناولنا المضمون سنجد أنفسنا أمام كارثة حقيقية –من وجهة نظري-، تتمثل في أن شيخ الأزهر –الذي يسبغ عليه أتباعه أوصافًا فخيمة مثل الإمام وإمام أهل السنة والجماعة... إلخ- هذا الرجل قال –في معرض حديثه للخشت-: إن كنت متيقنًا مما كتبت فقد سقط منهجك، وإن لم تكن، فتيقن أولًا ثم اهدِ إليَّ كتابك! وقال: إن المسيحيَّ مسيحيٌّ لأنه (متيقن) من صحة المسيحية، وكذلك أنصار الديانات الأخرى، وهو كلام لا يصدر عن رجل حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة، ولا حتى عن رجل الشارع العادي لأسباب عدة:
الأول: أنه ليس ثمة يقين أبدًا، فالقلم الذي تراه وتمسكه بين يديك ليس –بالضبط- على الصورة التي تراها، كما أن قدرتك على إبصار كل شيء مشكوك فيها أساسًا، ومداركنا تظل حبيسة تكويننا الإنساني الذي ليس سوى جزء من مليارات المليارات من حجم الكون ومادته ومعارفه وما وصلنا إلى كشفه وما لم نصل، فما بالنا إذا كان الحديث عن علوم إنسانية متغيرة بحسب تطور الإنسان ومعارفه واحتياجاته؟
جدل الحداثيين والتراثيين
وتحت عنوان "من مناظرة د."فرج فودة" إلى مناوشة د."أحمد الطيب":
جدل الحداثيين والتراثيين: من الصراع إلى الحوار" كتب الباحث الكبير عصام الزهيري دراسة مهمة جاء فيها 
(1)
في مقدمة كتابه "الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية" كتب الدكتور "نصر حامد أبوزيد": "..من الضروري إثارة التساؤلات عن سر انحياز الخطاب الشافعي لمنحى أهل الحديث ضد أهل الرأي خلافا للاعتقاد السائد بأنه "توسط" بينهما من خلال منهج "توفيقي". ولأن الإمام الشافعي قدم في خطابه ما هو أكثر من مجرد الانحياز لفريق ضد فريق، فقد كان التساؤل عن سر الحرص على تدشين السنّة نصا مشرعا تساؤلا مشروعا. ومرة أخرى ليس الحديث عن الانحياز حديثا عن هوى شخصي، بقدر ما هو حديث عن موقف فكري في سياق صراع بين اتجاهات ورؤى فكرية مختلفة"(1).
ويطيب لي أن أبدأ من حيث انتهت فقرة مقدمة كتاب "الإمام الشافعي" لأؤكد أن هذا التحليل ليس محاولة لقراءة نوايا شيخ الأزهر الإمام "أحمد الطيب"، وليس غوصا وراء مقاصده أو التفتيش في مكنون ضميره، لكنه محاولة لتحليل موقفه من خلال المضامين التي طرحها في تعقيبه على كلمة ألقاها د."محمد عثمان الخشت" خلال جلسات مؤتمر "تجديد الفكر الإسلامي" الذي انعقد برعاية الأزهر الشريف خلال الأيام الأخيرة من شهر يناير 2020. لافتا نظر القاريء ابتداءا إلى وجود مسافة بينية تستحق الالتفات – وليس هنا مجال تأملها - بين المضمون الجدالي الذي طرحه الشيخ "الطيب" خلال تعقيبه (مناظرته) على رئيس جامعة القاهرة، وبين كلمته التي ألقاها في بداية المؤتمر، ثم مضامين البيان الختامي لهذا المؤتمر نفسه. إنها نفس المسافة البينية الفاصلة – تقريبا – بين دعوة شيخ الأزهر المنفتحة - في كلمته الافتتاحية - إلى ضرورة الاتفاق على مفهوم موحد للتجديد، إذا لم يكن ذلك بقصد تهميش الاختلاف عليه طبعا، وبالتالي نفس المسافة الفاصلة بين عنوان المؤتمر الذي عقده الأزهر نفسه حول "تجديد الفكر الإسلامي"، وبين ملاحظات "الطيب" في رده على "الخشت"، وبالذات ملاحظته عن الحداثيين الذين صدعونا بالتجديد!!.
وابتداء وقبل وضع ملاحظات تحليلية على ملاحظات جدالية، وهي ملاحظات كاتب هذا المقال على ملاحظات شيخ الأزهر في رده، أقوم بلعبة حذف وتبديل على فقرة كتاب "الإمام الشافعي" التي أوردتها، وربما لا تكون لعبة موفقة من وجهة نظر ما، إلا أني لا أتشكك في إمكانية أن يتفق معي الكثيرون في كونها لعبة دالة. ولنقرأ من جديد نص الفقرة بعد التعديل المقترح:
"..من الضروري إثارة التساؤلات عن سر انحياز الخطاب "الأزهري" لمنحى أهل الحديث (التراثيين) ضد أهل الرأي (الحداثيين) خلافا للاعتقاد السائد بأنه "توسط" بينهما من خلال منهج "توفيقي". ولأن الإمام "شيخ الأزهر" قدم في خطابه ما هو أكثر من مجرد الانحياز لفريق ضد فريق، فقد كان التساؤل عن سر الحرص على تدشين السنّة (التراث) نصا مشرعا تساؤلا مشروعا. ومرة أخرى ليس الحديث عن الانحياز حديثا عن هوى شخصي، بقدر ما هو حديث عن موقف فكري في سياق صراع بين اتجاهات ورؤى فكرية مختلفة".
تقديري أن الفقرة منسجمة للغاية إذا ما استخدمت بهذا الشكل في توصيف موقف شيخ الأزهر خلال نقاشه مع رئيس جامعة القاهرة. سر الانطباق على التبادل والتباعد بين مقاصد تناول يدور حول موقف الإمام "الشافعي" الذي عاش قبل نحو ألف عام وموقف الإمام "أحمد الطيب" الراهن سر ميسور ولا يخفى على عقل اللبيب. ومفاده أن العقل الأصولي الذي تمت صياغته و"إقفاله" خلال الفترة التاريخية التي سميت بعصر التدوين، أي منذ نهاية القرن الثاني وبداية الثالث الهجري، لايزال عقلا يعيش على زاد انتصاره الذي حققه في لحظة القرن الثالث الغابرة، أي لحظة الصراع بين أهل الحديث وأهل الرأي، وقد كان صراعا فيما يرى "أبوزيد" على صياغة وتدوين الذاكرة الجمعية للمسلمين وهو تراثنا اليوم الذي يعمل العقل الأصولي بدافع حراسته / تجميده / تقديسه، وبتجريده من كينونته التاريخية كمحض أيديولوجية اجتهادية كتب لها الانتصار في مواجهة أيديولوجيات اجتهادية أخرى، والارتقاء به إلى كونه الإسلام ذاته، مما يجعل الاختلاف معه اختلافا مع تراث الإسلام ذاته، ومما يجعل – للمفارقة - لحظة الصراع الغابر منذ أكثر من ألف عام، حين كان تيار "أهل السنة والجماعة" في غمار صراع فكري حيوي مع تيارات أخرى تصدرها التيار الاعتزالي، لحظة متقدمة جدا رغم غرقها في الماضي البعيد!! .
ملابسات الصراع وقتها اقتضت هيمنة ذات طابع انقلابي من جانب النزوع السلفي اللاعقلاني لأهل الحديث، وهو نزوع تأيد بالتأسيس المذهبي للإمام الشافعي، وصولا إلى اللاهوت الكلامي الأشعري الذي تحايل ببراهين العقل وبالمنطق الأرسطي للانتصار لأيديولوجية أهل الحديث في مقابل النزوع العقلي والمعرفي الاستدلالي لأهل الرأي (2). ثم استقرت نتائج هذه الهيمنة في الوعي الإسلامي عبر الترديد والتكرار والتفريع على الأصول، وهي الأصول التي لم تكن تزيد في آونة الصراع مع أهل الرأي عن فرضيات نظرية مؤسسة لأيديولوجية فكر ديني له دلالاته وإسقاطاته و"ثوابته" الاجتماعية والسياسية التاريخية التي جرى فرضها على النص الديني (3)، مكتسبة – تلك الأصول - عبر القرون صفة الحقيقة الدينية المتعالية والتراث المقدس. ورغم أن انتصار تيار أهل الحديث لم يكن ناجما عن خصائص دينية ما أو سمات فكرية معينة، وإنما كان نتاجا مباشرا لتحول فكرهم إلى أيديولوجية سلطوية سادت عبر الاستعانة بسيف الدولة وبانحياز السلطان وبالقمع الفكري لايديولوجيات المخالفين، ورغم أن التيارين النقيضين – أهل الحديث وأهل الرأي - كان كلاهما يدور في فلك الفكر الإسلامي وينطلق وينتهي داخل الفضاء الديني ذاته.
وما يمكن أن يأخذه قاريء على التحليل السابق بالإضافة إلى الحدة الاستقطابية - أو جوهرتها - هو المماثلة اللازمانية بين موقفين يبدو كل منهما بحكم الاختلاف الزماني مختلفا عن الآخر: موقف الجدل / الصراع بين أهل الحديث وأهل الرأي قديما، وموقف الجدل / الصراع بين من أسماهم الشيخ "الطيب" في رده الاستقطابي بـ"الحداثيين" مما يحيل تلقائيا إلى حضور الطرف الآخر الذي يتيسر وصفه بـ"التراثيين". والمماثلة بين الموقفين لا تكون معيبة إلا في حالة أن يكون العقل الإسلامي المتمسك بأصوليته قد لاحظ – بشكل أو بآخر – فكرة التقدم في الزمان، بما تعنيه من طفرات في أدوات العقل، وفي طرائق المعرفة، وفي البحث ومناهجه، وهو الأمر الذي لا يوجد للأسف الشديد دليل ساطع عليه.

(2)
يطول الجدل حول حديث الآحاد والمتواتر وما يصح اعتباره متواترا من بين أحاديث الآحاد، إن وجد بينها متواتر، وهو ما ابتدأ د."أحمد الطيب" تعقيبه على د."الخشت" بتناوله، لا كتقييم من جانبه لجدل اختلافي واستقطابي ومبحث علمي يدور حول الآحاد والمتواتر أُنتج في لحظة زمنية سابقة ولم ينقشع غبار معارك المختلفين حوله، بل بوصف تعريف د."الطيب" الأشعري لماهية الآحاد والمتواتر أصلا "علميا" مقررا ونهائيا!. وهو ما بدا في تقريره حول أن الأشاعرة والماتريدية "بل والمعتزلة قبلهم" – كما أضاف - لا يمكن أن يقيموا مسألة واحدة في أصول العقائد إلا على الحديث المتواتر أو على القرآن الكريم. وبما أن الاختلاف لا يدور فقط حول ما يصح اعتباره حديثا متواترا من أحاديث الآحاد التي هي عماد مدونة الحديث، وإنما يطول الاختلاف تعريف المتواتر نفسه كذلك، ثم يطول الاختلاف عدد الروايات "الصحيحة" التي يمكن أن يثبت بها تواتر الحديث، بين من يشترط بأن يكون حد التواتر ما فوق الأربعة، ثم صعودا إلى عدد ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر، ووصولا إلى الحد اللامحدود (!!) الذي قال به بعضهم وهو: ما لا يحصى ولا يحصرهم بلد فيمتنع تواطؤهم على الكذب!. ويتبع ذلك نفى بعض أعلام الفقهاء وجود أي أحاديث منسوبة للنبي يصح تواترها، من بين هؤلاء "ابن الصلاح" (643هـ) الذي قال: لا يوجد (المتواتر) إلا أن يُدّعى في حديث: "من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" فإن رواته أكثر من ستين نفسا من الصحابة منهم العشرة.(4)
من ذلك يستفاد – لا كما يرى شيخ الأزهر - أنه لا يعد غريبا أبدا "أن نسمع" في كل وقت أراء قوية تدور حول أن الأشاعرة أقاموا مسائل كثيرة، إن لم تكن مسائلهم كلها التي استخدموا فيها الأحاديث بحسبانها متواترة، بينما حقيقتها في نظر غيرهم أنها أحاديث آحاد تفيد الظن ولا تفيد العلم. بل إن الأغرب هو أن يؤكد د."الطيب" تأكيدا مطلقا – لا بحسب وجهة نظره كأشعري فقط – أن الأشاعرة لم يفعلوا. وهو ما يحيلنا إلى تساؤل منطقي بخصوص طرح فضيلته حول "التهوين من شأن التراث" و"التهويل في التهوين من شأنه". والتساؤل بخصوص الاجتهاد في تقديم التراث حيا طازجا في سياق أسئلة لحظته التاريخية وبصفته الواقعية في آونته، وهي صفة جدل فكري اختلافي وديني تعددي، إن كان ذلك هو ما يعني التهوين من شأن التراث، أم أن ما يعني التهويل في التهوين من شأنه أن يقدم التراث البشري النسبي كأصول قدسية مقطوع بها وثوابت لا يجوز الاختلاف حولها على الرغم من كونها "ثوابت" أيديولوجية مستحدثة ومصنوعة في لحظات تاريخية بعينها ولحساب اتجاه من اتجاهات الفكر الديني في تلك الآونة بالذات؟.
ولابد أن يقودنا التفكير في التساؤل السابق إلى تساؤل آخر هام يتعلق بقول فضيلة د."الطيب" بأن مقولة التجديد مأخوذة من التراث أو أنها مقولة تراثية. ورغم أن التجديد ليس مقولة فقط بل إنه قانون طبيعي وناموس حضاري واجتماعي شامل وفكري بالطبع، مما يعني أنه يستحيل أن يستأثر به تراث، أو يذهب بأوليه طرحه فكر ديني أو ثقافة محددة، إلا أن التساؤل الذي يكتسب الأولوية في الطرح يدور حول مفارقة أن نبدأ التجديد بتجريد التراث من تعدديته واختلافه وتقديمه بوصفه أصولا مقدسة نهائية وثوابت دينية شمولية حاكمة، بينما هي في حقيقتها ليست إلا أصولا وثوابت بشرية وأيديولوجية تنتمي لفترة تاريخية معروفة وتيار فكري بعينه!. وبقول آخر: هل يمكن أن نصل إلى التجديد في غياب حيوية الحراك الفكري وجدل الاختلاف التعددي بين الأفكار والاتجاهات والمذاهب المختلفة؟. أظن ذلك مستحيلا.
(3)
لم يخف على الكثيرين - طالما لم يكونوا ممن يصادرون حقوق العقل والاختلاف ولا من أصحاب الأحكام المسبقة – ما احتشد به حديث الإمام "أحمد الطيب" من مفارقات في حاجة إلى نقاش جاد ومدقق. فعلى المستوى التاريخي ذكر د."الطيب" في غمار حماسه لـ"التراث" واستهجان نقده أن هذا التراث حمل مجموعة من القبائل العربية التي كانت متناحرة في ظرف ثمانين عاما إلى أن يضعوا قدما في الأندلس وقدمهم الأخرى في الصين. أفراد هذه القبائل الذين تحولوا إلى أصحاب "فتوحات" كما يرى د."الطيب" لم يكونوا ممن يتعلمون شيئا ولا يتقنون فنون القتال حتى، وكانوا يتناوشون بالقوس والسيف والترس!. ومع ما في العبارة من تجاهل لمدونة أيام (معارك) العرب قبل الإسلام، وهي مدونة تاريخية وشعرية تشهد باتقان العرب لفنون القتال، بما فيها اشهر ايامهم وهو يوم "ذي قار" الذي حقق فيه العرب نصرا هائلا وتاريخيا على جيش الامبراطورية الفارسية القوية، وقد جرت هذه الموقعة في زمن النبي محمد، وفيها يمدح أحد شعرائهم قوة قبيلة "بني شيبان" العسكرية بقوله:
"عربا ثلاثة آلاف وكتيبة .. ألفين أعجم من بني الفدام" (5).
فضلا عما في عبارات د."الطيب" من تناس لمجمل تاريخ العرب قبل الإسلام وهو تاريخ ممتد لقرون ويعرف أشكالا من الحضارة التليدة في أقسام الجزيرة العربية الخمسة بحسب تقسيم المؤرخين المسلمين لها، وفي قسميها الشمالي والجنوبي بخاصة (6)، ثم مراكزها الحضرية سواءا المتاخمة لامبراطوريتي الفرس والروم أو المركز الحضري المكي المتميز بوسط الجزيرة الذي تكون بفضل تجارة المكيين وهو المهد الذي شهد نشأة الإسلام (7).
ويعرج د."الطيب" ماضيا في تعقيبه الحماسي ليتناول تاريخ الدول الإسلامية التي جاء بعضها في إثر بعض ليضيفوا – حسب قوله – قوة إلى قوة، مع تجاهل ما عرفه واضافه تاريخ الدول والخلافات الإسلامية المتعاقبة والمتعاصرة من تناحر وحروب داخلية وخارجية وفتن هوجاء ومذابح دموية واستبداد عات تفيض بذكره مدونات التراث التاريخية. لكن د."الطيب" يعتبر هذه المآسي – دون الغزو وإقامة الدول - من قبيل الفتن السياسية وليس الدينية!. ثم يضيف مخاطبا د."الخشت": "وأنت تعلم أن السياسة تختطف الدين اختطافا حين يريدون تحقيق هدف لا يرضاه الدين"!!.
ثم تبلغ مفارقة كلمات د."الطيب" ذروتها حين لا يعتبر الغزوات والفتن والتناحر بين الدول الإسلامية معا دليلا على اختطاف السياسة للدين، وإنما يقدم شاهدا على ذلك من تاريخ الغرب وحده، ممثلا في حرب الثلاثين عاما والحروب الصليبية!. ثم يصف الصليبيين بأنهم: "استعمروا عالمنا هذا – يقصد فضيلته أجزاء من الشام وفلسطين - قرابة المائة عام أو أكثر ويقتلوا ويريقوا الدماء الإنجيل في يد والسيف في يد مع أن الإنجيل يبرأ مما يفعلونه هذا"!. وفي الواقع فإن أول ما يتبادر إلى ذهن السامع مقارنة الغزو الصليبي بخروج العرب هم كذلك إلى "فتوحاتهم" يحملون السيف في يد والمصحف في يد!. ولعل كلمات مولانا د."الطيب" لا تعني أن الإسلام بدوره لا يبرأ من احتلال اراضي الغير وإراقة دمائهم والاستيلاء على ثرواتهم!. بدورها لا تخرج مبررات الكيان الصهيوني الدينية المزيفة التي تستقيها الأيديولوجية الصهيونية من نصوص التوراة بالتحريف والتزييف - كما يذكر د."الطيب" - عن مبررات كيانات الإسلام السياسي اليوم في أحلامها بالعودة إلى أزمنة الاستعمار العربي في الأندلس وغزو أسبانيا من جديد لاستعادة أرض الإسلام المفقودة!.
لكن أكثر المفارقات التي تستلفت النظر في كلمة د."الطيب" هي تلك التي تخص سؤاله: "بماذا كان يحكم العالم الإسلامي قبل مجيء الحملة الفرنسية؟ ألم يكن يحكم بالشريعة؟". وهو سؤال يحتمل في تحليل مضمونه إجابتين لا ثالث لهما تقريبا: إما أن كل ما أتى بعد انفتاح المصريين والعرب على الحضارة الأوربية الحديثة لا ينتمي إلى الشريعة وحكمها!، أو أنه يعني أن حكم الشريعة – وليس احتلال الخلافة العثمانية وتخلفها واستبدادها - كان هو ما أوصلنا إلى حالة الضعف المزري التي أسقطت هزيمتنا المهينة أمام حملة نابليون القناع عنها!. بكل التأكيد لا تذهب مقاصد سؤال فضيلة شيخ الأزهر إلى أحد الاحتمالين، لكن السؤال بهذه الصيغة يوصلنا مباشرة إلى هذا النوع من الاجابات الاستقاطبية أحادية النظرة.
(4)
كانت مناظرة معرض الكتاب سنة 1992 آخر المواجهات الفكرية حامية الوطيس لفترة امتدت فيما بعدها لما يقرب من العشرين عاما. تلك المناظرة التي اشتهرت باسم "مناظرة الدولة الدينية والدولة المدنية" (8). اشتهرت كذلك بأنها المناظرة التي أدت لاغتيال المفكر الشهيد فرج فودة. كان فارسيّ المواجهة الأولى من جانب الدولة المدنية: د.فرج فودة، د.محمد أحمد خلف الله، في مقابل الطرف الآخر: محمد الغزالي، محمد عمارة، مأمون الهضيبي. وفي حال لو أغفلنا نقاشات أقل شأنا وحرارة جرت في بعض برامج الفضائيات في أعقاب ثورة 2011 المصرية، فإننا نستطيع أن نؤرخ للمواجهة بين شيخ الأزهر ورئيس جامعة القاهرة التي جرت خلال مؤتمر تجديد الفكر الإسلامي باعتبارها المحطة الكبرى الساخنة التي تلت مواجهة معرض الكتاب 92. وعلى ما بين المواجهتين الأولى والثانية من أوجه اختلاف شتى - لا يتسع المقام هنا لحصرها - إلا أن المواجهة الثانية ربما لا تقل في دلالتها واهميتها عن المواجهة الأولى. وكما امتلأت مناظرة معرض الكتاب بهتافات الإسلاميين امتلأت مناوشة رئيس جامعة القاهرة وشيخ الأزهر – بحسب تسمية الأخير لها مناوشة – بتصفيق القاعة الممتلئة بالأزهريين. وفي كلا الحالتين نقل الهتاف هناك والتصفيق هنا المتابعين من حالة النقاش والحجاج والجدال الفكري إلى حالة من الانسياق الشعبوي ورهانات كسب قلوب العامة بحرارة العاطفة الدينية لا بقوة الحجة المنطقية.
وليست المقارنة بين المواجهتين هاهنا إلا بهدف القول بأن ما تلا المناظرة الأولى من أحداث العنف الدموي الصادم واغتيال د.فرج فودة كان سببا مباشرا وأليما في هذا التأخير الذي طال لأعوام عشرين حتى تقع "المناوشة" التالية. والأهم من ذلك الإشارة إلى تأخير آخر طال قرونا لتقع اي مواجهة فكرية ساخنة – سواءا كانت مناظرة أو مناوشة أو جدالا فكريا حامي الوطيس – منذ تلك المناظرات التي احتشدت مدونات ومصادر التاريخ الإسلامي المبكر بذكرها، وبلغت هذه المواجهات الفكرية ذروتها وشهرتها خلال عصر الخليفة المعتزلي المأمون (170-218هـ) الذي تعددت مناظراته، وكان من بينها مناظرته الشهيرة التي ذكرها "ابن عبدربه" في "العقد الفريد" مع أربعين فقيها من خيرة فقهاء بغداد (9). السبب بالذات وراء هذا التأخير الألفي الطويل لبروز المواجهات الفكرية والنقاشات الحرة الساخنة للسطح، وعلى مرأى ومسمع من الرأي العام، كان انتصار الخلفاء والسلاطين والولاة لتشدد تيار النقل وأهل الحديث ولصالح قمع وتكفير التيارات المخالفة.
ويريد كاتب هذه السطور أن يؤكد – بعد النقاش والتحليل السابق - على تثمينه للحوار بكل أشكاله. كما يود التأكيد على أهمية تلك المواجهات الفكرية الساخنة وثقيلة الوزن، وينوّه أيضا برهانه على اكتساب هذه المواجهات الفكرية طابعا أكثر علمية ومنهجية وتدقيقا وإفادة حال استمرارها بشكل منظم، وبشرط أن يُستهدف منها ليس حسم الخلاف نهائيا وتهميش آراء المختلفين – وكلاهما ضار بالرأي وبالخلاف - وإنما تنشيط العقل وتخصيب الاختلاف وتعميق الأفكار ومنهجتها. ولذلك كله استحق شيخ الجامع الأزهر ورئيس جامعة القاهرة التحية الحارة لما أتاحاه للرأي العام من نقاش لابد أن يشدد الحريصون على مستقبل العقل العربي والفكر الإسلامي وعلى تجديدهما على أهمية استمراره.