بوابة الحركات الاسلامية : كيف أصبحت ترينيداد بؤرة نشاط لداعش ؟ (طباعة)
كيف أصبحت ترينيداد بؤرة نشاط لداعش ؟
آخر تحديث: الإثنين 29/03/2021 03:36 م حسام الحداد
كيف أصبحت ترينيداد
يقدم ليام دافي مستشار مشروع مكافحة التطرف (CEP)، ومقره لندن، قراءة في كتاب " الرايات السود في جزر الكاريبي" لسيمون كوتي والصادر عن دار النشر: I.B. Tauris 2021، بسؤال جوهري يطرحه الكتاب وهو هل تعرف أيَّ دولِ العالم تلك التي أفرزت أكبر عددٍ من المقاتلين الأجانب في تنظيم الدولة (داعش) مقارنةً بعدد السكان؟ إنها الدولة الوحيدة التي شهدت محاولة انقلاب إسلامي، شبه ناجح، والقابعة على بعد ستة آلاف ميل جنوب غرب أنقاض مشروع “الخلافة” لداعش، في المياه الفيروزية الخلابة في منطقة البحر الكاريبي، في ترينيداد وتوباجو.
ويقول دافي في قراءته المنشورة على موقع "عين أوروبية على التطرف" صباح اليوم لفهم كيف ولماذا حدث هذا، هناك فقط رجل واحد يمكن اللجوء إليه: سيمون كوتي. نشر كوتي، الذي كان في السابق محاضرًا في جامعة “ويست إنديز”، وربما المرجع الرئيس في شؤون الجماعات الجهادية في المنطقة الاستوائية، كتابه الجديد «الرايات السود في جزر الكاريبي: كيف أصبحت ترينيداد بؤرة نشاط لداعش».
عندما يتعلق الأمر بدراسات الإرهاب، فإن كوتي يعمل بعيدًا عن الأضواء، ذلك أنه عالم في مجال مكافحة الجريمة بحكم التخصص في جامعة كينت، ونادرًا ما يظهر في لجان مكافحة الإرهاب أو الموائد المستديرة لمكافحة التطرف العنيف، ربما يكون غيابه عن موقع “تويتر”، هو الأكثر بروزًا. لكن الثابت أن كتاباته من بين الأكثر إثارة للإعجاب في هذا الحقل. وقد كتب مقالات في صحيفة نيويورك تايمز، وذا أتلانتيك، ومجلة فايس، وفورين آفيرز، وذا اسبيكتاتور، من بين صحف ومجلاتٍ أخرى.
في أعقاب الهجوم الإرهابي الذي شنه عثمان خان على قاعة “فيشمونجر” في لندن عام 2019 -وهو مشارك في برنامج إعادة تأهيل المتطرفين الذي تقوده الجامعة بعد الإفراج عنه- انتقد مقال كوتي في مجلة “فورين آفيرز” بشدة السذاجة المؤسسية الحسنة النيّة، والقاتلة في نهاية المطاف، في التعامل مع الجهاديين، ما أثار عاصفة من الجدل على وسائل التواصل الاجتماعي، وفيما بين زملائه من علماء الجريمة.
نجا كوتي من وطأة هذه العاصفة ببساطة بسبب عزوفه عن التواجد بكثرة على الإنترنت، حل واضح للهروب من براثن غوغاء وسائل التواصل الاجتماعي، حتى وإن لم يتقبله الجميع. يبدو أن حماسة كوتي الجدلية تأتي بجماليتها الخاصة، على حد قول ألكسندر ميليجرو-هيتشنز على تويتر في ذلك الوقت: “كل ما فعله سيمون كوتي هو أن “كوَّت” إعادة تأهيل السجناء الإرهابيين”، في إشارة إلى إضفاء طابعه الشخصي على القضية.
في بعض الأحيان، قد يغازل الحدود بين ما هو جدلي وما هو شخصي، ولكن ليس الخطب المسهبة العنيفة هي التي أكسبت كوتي مثل هذه التشكيلة المثيرة للإعجاب من الكتابات؛ بل الأسلوب، والذوق، والدقة. ذلك أن كوتي غالبًا ما يتجنب وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي على وجه التحديد، لأن الكتابة هي موهبته، وآخرها، الكتاب الذي بين أيدينا، يثبت تعدد مهاراته وتنوعها. ويمكن القول إنه يجمع بين سمات المقال، والصحافة الاستقصائية، والدراسة الأكاديمية في آن وحد.
لا يقطع القارئ شوطًا طويلًا في كتاب «الرايات السود» حتى يجد أول إشارة إلى الروائي مارتن أميس (إنه يظهر أكثر من مرة في كتابة كوتي)، ولسببٍ وجيه: يمكنك أن تشعر بتأثير مارتن أميس وصديقه العزيز المؤلف كريستوفر هيتشنز في أسلوب كوتي، وهذا الكتاب ليس استثناء في ذلك. ومن الواضح أن تأثر كوتي بأسلوب هيتشنز، وزملائه الأدباء، يجعله لا يجد غضاضة في توجيه الانتقاد الحاد لزملائه (وحتى الأصدقاء) عندما يعتقد أنهم على خطأ.
تتخلل ثنايا الكتاب رسائل وإشارات ضمنية، من أفلام هوليوود والأدب الإنجليزي إلى النصوص الأصيلة في دراسة علم الجريمة، وهي أشياء تشير إلى الذوق الشخصي للمؤلف، وتلك التي تأثر بها، وتمتع القارئ في الوقت ذاته.
الكتاب يأخذك بالتأكيد في جولةٍ ممتعة. في لحظة واحدة تجد نفسك تتبع المؤلف، وهو يصف بوضوح نفسه وهو يشق طريقه في جميع أنحاء الجزيرة، متعقبًا شبكاتها الإسلاموية ومقابلًا شخصياتها الرئيسية، وقبل طي الصفحة تجد نفسك أمام قاعدة بيانات، وتقسيم تفصيلي للجهاديين في ترينيداد. هذا التغيير في الوتيرة، والأسلوب، واللهجة أزعجني بعض الشيء، ومع ذلك فقد ذكرني، رغم الأسلوب، أن كتاب «الرايات السود» هو أيضًا عمل أكاديمي.
حسنًا، إذًا ترينيداد هي نقطة ساخنة غير متوقعة لـ “داعش” في وسط منطقة البحر الكاريبي؛ هذه بالتأكيد حبكة ثانوية مثيرة للاهتمام في قصة “الخلافة” المخيفة، ولكن ما مدى أهمية ذلك لباحثٍ في مركز فكري في واشنطن العاصمة، ومسؤول حكومي في ويستمنستر، أو أكاديمي في باريس؟ إنها مهمة جدًا، لأنها بؤرة معزولة في منطقة البحر الكاريبي.
التجميع الجغرافي لمجندي داعش الموجودين في ترينيداد موجود في أماكن أخرى في أوروبا، من مدينتي مولنبيك وتراب إلى مانشستر ومالمو، ما يعطي ثقلًا -كما يشير كوتي- إلى تلك “الأصوات المتشككة” الذين يتحدون هذه الحكمة من “تركيز الكثير من الاهتمام البحثي على التطرف عبر الإنترنت و”المساحات الافتراضية” المتطرفة- ليس لأن هذه المساحات غير مهمة، ولكن لأن العلاقات الأكثر أهمية في التطرف العنيف تتم في مساحات مادية في البيئات الاجتماعية التي يعيش فيها الناس أو بالقرب منها.
بإمكانك أن تصنفني من بين الأصوات المتشككة. خلال ذروة هجرة داعش من الدول الغربية، أصبح التطرف و”الاستمالة” عبر الإنترنت حماقة مريحة للسياسيين والمعلقين على حد سواء لتجنب مواجهة أسئلة أكثر إزعاجًا حول الجاذبية المتنامية للأيديولوجية الجهادية، على الرغم من أن الأدلة المتاحة تشير إلى أن وجهة النظر هذه مبالغ فيها.
واليوم، وربما بطريقةٍ أكثر خبثًا، يُثار شبح التطرف عبر الإنترنت لتبرير التضييق على فئات واسعة وغامضة من المحتوى الذي يُصنّف على أنه “كراهية” أو “تضليل”. توفر الأبحاث مثل تلك التي يعرضها كوتي أساسًا متينًا لإخضاع أولئك الذين يقدمون هذه المطالبات بفرض الرقابة، والمطالبة بتخصيص الموارد لتمكينهم من استبعاد بعض المعلومات والأصوات من الساحة العامة الرقمية الآن بشكل حصري تقريبًا، لأقصى قدرٍ من التدقيق.
مفهوم أن مجال مكافحة الإرهاب (ومجاله الفرعي لمكافحة التطرف العنيف) يتفحص الأفق بحثًا عن المخاطر والتهديدات الناشئة. لكن هذا الميل إلى التطلع إلى الأمام ترك الكثير من الأشياء التي لم تُكشف والتي لم تُعرف عن “خلافة” داعش المدمرة. إن تفسيرات “التطرف عبر الإنترنت” و”الدعاية البارعة” حول أسباب انجذاب العديد من مواطنينا لداعش تتسق مع التفسيرات المبتذلة التي تنقصها الأدلة التي خرجت من تجربة داعش. وينبغي الترحيب بالمزيد من الأعمال التاريخية عن النزعة الجهادية، مثل كتاب «الرايات السود» لكوتي أو القافلة (The Caravan) لتوماس هيجامر.
من الأفضل فهم كتاب «الرايات السود في جزر البحر الكاريبي» بهذه الطريقة، كمساهمةٍ في الكم المعرفي الذي لم نكتشفه بعد حول كيف ولماذا حدث نزوح داعش من الغرب، وهذا أمر لا ينبغي أن نتجاهله لأن تنظيم داعش يبدو وكأنه خبر قديم أو لأن هذا ليس المجال الذي يجب أن يوجه إليه تمويل مكافحة الإرهاب. علاوة على هذا، فالكتاب شائق وآسر جدًا لأحد أفضل المؤلفين من حيث الموهبة، والإمتاع، والقدرة على استثارة الفكر، المتخصصين في مجال مكافحة الإرهاب والعنف السياسي.