بوابة الحركات الاسلامية : اللعب مع الشيطان وتجديد الخطاب الديني في كتاب جديد (طباعة)
اللعب مع الشيطان وتجديد الخطاب الديني في كتاب جديد
آخر تحديث: الخميس 20/05/2021 09:17 ص روبير الفارس
اللعب مع الشيطان
في كتابه الجديد "الشيطان وتجديد الخطاب الديني" والصادر عن دار غراب للنشر والتوزيع  يدعو الكاتب الكبير نبيل عمر   إلى ثورة فكريّة ودينيّة، توقظ العقول النائمة التي تتلقّى من دون أن تحلّل، منقادة انقيادًا أعمى خلف فتاوى تجرّد الدين من جوهره وتُلبسه رداء الأمّيّة والجهل. مؤكّدًا أنّه ليس ضدّ الدين بحدّ ذاته، مطالبًا بالفصل بين مفهوم الدين ومفهوم الفكر الديني، فالدين لا يحدّه عقل، بينما الفكر الدينيّ هو نتاج عقل الإنسان المحدود: "باختصار... الفكر الديني ليس هو الدين، وإنّما إعمال العقل فيه. والعقل محدود بثقافته صاحبه، وبيئته، ومذاهبه، وأغراضه.هكذا يؤكد نبيل عمر رسالة الكتاب بايجاز وقوة ووضوح وهي الصفات الثلاثة التى تمتاز بها كتاباته بصفة عامة .فتصل رسالته بدون تشويش .من هنا تاتي اهمية هذا الكتاب . والذى يعد  دعوة صريحة لتجديد الفكر الديني وفهم الدين فهما سليما بتنقية التراث مما علق به من شوائب، راصدا نماذج وشواهد بمسار فكري تبناها في حيدة وموضوعية تهيمن عليها ثقافة شاملة واعية تحيط بأبعاد القضية.ويدعو كتاب "الشيطان وتجديد الفكر الديني" إلى ما يمكن أن يسمى استئصال وتفنيد المفاهيم السلبية وتعميق المفاهيم الإيجابية بالاعتماد على النصوص الدينية، وهو يلتزم الرؤية العلمية في كل صفحاته، ويبدأ في تفنيد الحجج قبل أن يمحص الفهم المغلوط للدين.وفي مقدمة الكتاب شرح  نبيل عمر  فكرته ومنهجة فكتب تحت عنوان " الشيطان واللعب في الفراغ الثقافي " يقول 

تربصت بي فكرة هذا الكتاب منذ أمد بعيد، يزيد على خمسة وثلاثين عاما، كنت في مكة المكرمة، حاجا بالمصادفة دون حسابات مسبقة، ما أجمل أن ينتشلك قدرك في لحظة إلى الله بقلبك وعقلك، حدث هذا حين ذهبت للعمل في السعودية دون تخطيط وعلى غير رغبة مني، تحت إلحاح ظروف قاهرة، ولله الحمد لم تطل.
في تلك الأيام الرائعة، التي تصفو فيها نفسك، وتتخلص من كل أدران الدنيا، وتهيم في رحاب الله خفيفا ولوعا، تغمرك فضائله، فتحس أنك خلعت كل مشاعرك الدنيوية ولا تحمل في جوانحك إلا حبك لله.
وفجأة تلطمك يد قوية ويحاول جسد ضخم كأنه عملاق من الأساطير أن يجرفك أمامه يكاد يهرسك، كانت زوجتي بجواري، وإذا بطابور من الأخوة الأفارقة العمالقة يمسكون بتلابيب بعضهم بعضا يزيحون كل من يقف في طريقهم، كنا صباح أول أيام التشريق واندفع عشرات الآلاف من الحجيج لرمي الجمرة الصغرى كأنه يوم الحشر.
سقطت زوجتى، كادت الأرجل أن تدهسها من شدة الدفع والزحام الرهيب، لولا ستر الله وحائط جانبي تشبثت به وتحجرت بقدمي فيه وصلبت عودي كدرع أصد الجحافل القادمة خلف ظهري، لأبعدها نصف خطوة عن زوجتى وعني، وبلطف الله نجونا من الدهس.
في تلك اللحظة لطشني سؤال عابر: من الذي علم هؤلاء أن الله في حاجة إلى عنف ودفع إلى حد تعريض حياة الأخرين للخطر في أداء شعائره؟، كيف يعبرون عن حبهم لله وإيمانهم به بهذا المقدار من القوة ضد الآخر حتى لو لم تكن مقصودة وبدائية؟
هؤلاء الحجاج العماليق غير جماعات العنف المسلح الملتحفة بالدين، هؤلاء اختاروا أن يذهبوا الله مسالمين متعبدين ليباهي الله بهم ملائكته، لكن جماعات العنف يتلهفون على سلطة وخلافة وحكم، ولا يجدون سبيلا إليها إلا بالسلاح والخروج على المجتمع، تحركهم شهوة السيطرة لا محبة الله، سطوة الدين لا تسامحه، تاريخ من الدماء المسالة لا الدعوة بالتي هي أحسن.
لكن ثمة عنصرا مشتركا بين هؤلاء وهؤلاء بالرغم من فارق المسافة النفسية الهائلة بينهما، هو "مظاهر الدين" لا جوهره.. شكل التعبير عنه لا العيش بتعاليمه.
هؤلاء بالزق والضغط وعشوائية السلوك دون سلاح..وهؤلاء بالصدام المسلح مع مجتمعاتهم.
هؤلاء الحجاج ألقوا بكل ما يدعو إليه الإسلام من تراحم ومحبة ورحمة ومكارم أخلاق ومراعاة أخوة الإيمان والحفاظ على سلامة الأرواح والأبدان، وهؤلاء المتعطشون إلى السلطة يتمسكون بتفسيرات وأحاديث وفتاوى في كتب التراث قسمت المسلمين إلى دار حرب ودار سلام، فأعلنوا جهادهم الخاص علي من وصفوهم بدار الحرب الذين نحن منهم، يعاونهم مفتيون خصوصيون يحللون لهم ما حرم الله.
وسألت نفسي: ألسنا في حاجة إلى إعادة القراءة في كتبنا وتراثنا حتى تستقيم التصرفات مع جوهر الإسلام؟
من يومها تقريبا وضعت خطة قراءة محكمة، عامة وخاصة، عامة وهي قراءة حرة في السيرة والحديث والتفسير، خاصة وهي البحث عن إجابات لأسئلة تشتعل في رأسي نارا لا تهدأ إلا بمياه نهر رقراق من المعرفة الموجودة في القرآن أولا ثم الحديث والسيرة.
أسئلة من عينة: هل تزوج النبي فعلا من السيدة عائشة بنت أبي بكر وهي في التاسعة من عمرها؟، فتكتشف روايات شائعة تؤكد ما قيل، وروايات عليها أدلة وقرائن لكنها مهملة عمدا تستبعد هذا السن وتجزم أنها كانت في ضعف هذا العمر حين اقترن بها.
هل لجأت السيدة خديجة بنت خويلد إلى خداع والدها ليقبل أن يزوجها من الصادق الأمين الذي لا يملك مالا يؤهله للزواج من تلك السيدة الثرية الراغبة في الزواج منه؟، وهي رواية قرأتها في بعض كتب ثم سمعتها على اليوتيوب من شيخ سلفي شهير ويمكن مراجعتها على شبكات التواصل الاجتماعي.
فيدهشك من القراءات المتعمقة أن والد السيدة خديجة مات فعلا قبل واقعة الزواج بسنوات.
هل قتل الرسول مرتدا طول حياته بعد استتابته؟
ما هي الشروط الواردة في آيات السيف والقتال؟، وكم آية في القرآن تحث على القتال مقابل الآيات التي تحض على السلم والعفو والتسامح؟
لماذا الإمامة من قريش؟،وهل خلافات الصحابة في سقيفة بن ساعدة على من يخلف النبي بعد وفاته كانت خلافات سياسيا أم دينيا؟
هل الإسلام فعلا يحضنا على مقاطعة المخالفين في ديننا والبعد عنهم أو كراهيتهم؟
عشرات الأسئلة التي تثير جدلا، وإجاباتها أحيانا تثير عنفا، إجابات قديمة غير دقيقة فيها من تأويل نصوص أكثر مما تحتمل، وارتكنت إلى ظروف خاصة وبيئة خاصة وسط صراعات وقتال وفتنة، ثم يحاول المتمسكون بها الآن أن يعمموا تلك الإجابات ويجعلوا منها "دينا" ملزما للمسلمين كافة.
وأحيانا كانت تتوقف القراءات تحت مشاغل الحياة ولقمة العيش المراوغة وسخونة الأحداث التي لحقت بمصر وبنا عقب اغتيال الرئيس أنور السادات في عام 1981، ثم تعود نشيطة بتركيز.
وكان السؤال الذي يقود مسيرتي كلها: هل الرسالة نزلت من الله إلى رسوله ومنه إلى البشرية كلها أم نزلت من الله إلى رسوله ومنه إلى الخاصة من شيوخ ودعاة وعلماء، ليتكفلوا هم بتوصيلها لعموم المسلمين الجاهلين بدينهم شرحا وتفسيرا؟
قطعا الإجابة بسيطة وسهلة للغاية، ومحددة بدقة في القرآن، فكل إنسان مسئول أمام الله مسئولية مباشرة، ولن يغنيه عن الحساب أي فتاوى إذا لم يقبل الله تصرفاته حسب تلك الفتاوي، فالمسلم مكلف تكليفا كاملا بمعرفة دينه بنفسه، والإسلام دين سهل وليس صعبا على الإطلاق كما يعمل كثرة من رجال دين على تصعيبه، أن تؤمن بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر وأن تصلي وتصوم وتزكي وتحج إلى البيت الحرام إذا كنت قادرا على ذلك، وأن تلتزم بما أمرك به الله من قيم ومكارم أخلاق في حياتك وعملك ومع الآخرين أيا كانوا، بمعنى ألا تضر نفسك ولا تضر الغير بأي شكل، وإذا تضاربت المصالح بين أصحاب حقوق اختار الحل الوسط الأقل ضررا لك وللآخرين، وإذا وقعت في حيرة من أمر لتشابهه بين كونه خيرا وشرا، فتجنبه تماما، وإذا كنت مضطرا إلى الاختيار، فاختار الأقرب إلى مكارم الأخلاق الذي لا يتأذى فيه طرف أضعف ولا ينتج عنه ظلم.
نعم..هو كذلك بكل بساطة، فالله سبحانه وتعالي مهد كل الدروب السهلة للوصول إليه، أما العراقيل والأزمات والبلاءات فهي اختبار لقدرة الإنسان على الاختيار بين الحق والباطل، الصح والخطأ، الحلال والحرام، الخير والشر، على أن يأخذ قيم الإسلام وتعاليمه التي تتفق وكل القيم النبيلة التي صاحبت الإنسان منذ وجوده على الأرض، دليلا هاديا لتصرفاته العامة والخاصة، التي تربطه بالجماعة التي يعيش فيها أو التي تخصه في دائرته الضيقة.
أين أذن التعقيد الذي ليس هو من الدين؟
المهم بعدت فكرة الكتابة وانشغلت بالقراءة وتدوين ملاحظات فحسب، خاصة أن الكتابة الأسبوعية وأحيانا اليومية في الصحف مرهقة للغاية وتستنزف أغلب الوقت المتاح، خاصة إذا كنت من المؤمنين بأن الكتابة مثل الفنار، الذي يضئ في الليل ليهدي السفين المبحر في عتمة الليل، أو مثل نجم الشمال يمكن أن يكون مصباحا لمعرفة الاتجاهات الجغرافية، والقارئ هو الذي يختار الاتجاه الذي يمضى فيه دون وصاية.
لكن بعد الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001، تأجلت فكرة الكتاب تماما، واتجهت إلى دراسة الحملة الشرسة التي شنها الغرب على الإسلام ومازال، مع أن هجمات سبتمبر نفذها إرهابيون هو الذي صنعهم في معامله لسنوات وتحت إشراف أجهزة مخابراته، والأدلة متوفرة وبالوثائق في عشرات الكتب التي ألفها كتاب غربيون.. صحيح أن هؤلاء الإرهابيين رفعوا شعارات إسلامية ومقولات منسوبة للإسلام، وأعلنوا مسئوليتهم عن العمليات التي ارتكبوها، لكن من الكذب والسفه أن نتهم الدين بالإرهاب، فالإسلام يؤمن به أكثر من مليار ونصف مليار إنسان، حتى لو كانت درجات إيمانهم تتفاوت،  بينما لا يتجاوز عدد الإرهابيين المنظمين في تنظيمات مسلحة على كوكب الأرض مئة ألف نسمة على أكثر تقدير، صحيح هو رقم كبير مقلق يوجع العالم، لكن نسبتهم إلى عدد المسلمين واحد إلى خمسة عشر ألف، فكيف نصف دين مليار ونصف مليار مسلم بالإرهاب؟
والأهم أن شكوكا كثيرة تطول هجمات 11 سبتمبر بشهادات أمريكية غير رسمية، ومنها جهات علمية مثل معهد الأبحاث والفلزات الأمريكي الذي درس وحلل رماد البرجين المنهارين في نيويورك، وعثر على آثار متفجرات فيها، وقال خبراء عالميون إنه يصعب إن لم يكن مستحيلا أن يرتكب تلك الهجمات بطائرات مدنية المتهمون الذين حددتهم السلطات الأمريكية، فتفاصيل العملية ودقائقها تتجاوز قدرات الأفراد مهما كانت تدريباتهم، بدليل أنها عملية غير مسبوقة ولم تتكرر بعدها ولو على نطاق أصغر، وأن المساعدات والتسهيلات والتفجيرات التي جرت على الأرض في نفس التوقيت أكثر فاعلية وتأثيرا مما شاهده العالم في الجو من طائرات تقتحم أبراجا وترصدها كاميرات تليفزيون تترقبها في مسرح العملية قبل الاقتحام.
ونتج عن التفجيرات الأرضية انهيار مبنى ثالث يبعد عن برجي الطائرتين بمئات الأمتار.
فانشغلت فترة ليست قصيرة في الكتابة عن أصل حكاية الغرب والإرهاب.
وقطعا ثمة أفكار عنيفة ومغلوطة وخطيرة منتشرة إلى حد ما بين ملايين المسلمين، من جراء سيطرة الجماعات الدينية على الشارع تحت أنظار السلطات منذ منتصف السبعينيات، فاقتنع الناس بأن أعضاء هذه الجماعات سنيون "بتوع ربنا".
وكان طبيعيا أن تنتشر بيننا هذه الأفكار مع انهيار التعليم وتراجع المستوى المعرفي للطلاب إلى حد خطير، واعتماد الطلاب بدعم من أولياء أمورهم على الحفظ والتلقين، فنمت ملايين العقول الناشئة غير القادرة على التفكير العلمي المنظم، والعاجزة عن النقد والتحليل، كأننا كنا نجهز هذه العقول لتسليم نفسها تسليم مفتاح لأي أشخاص يتحدثون في الدين ويبدو من كلامهم  تبحرا فيه، وهم يستشهدون في شروحهم وتفسيراتهم بـ"قال الله وقال الرسول"..
وخرجت أجيال، قليل منها أعضاء عاملين في التنظيمات، والأعداد الأكبر متعاطفة معهم أو منحازة لهذه الأفكار أو غير رافضة لها.
ولا ننكر ولا يمكن أن ننكر انتنساب هؤلاء إلى الدين سواء الذين يعيشون بيننا ويسودون علينا عيشتنا بالجنازير والاشتباكات والعمليات المسلحة أو يعيشون مهاجرين في الدول الغربية، كالشاب الذي ذبح أستاذ تاريخ في باريس نشر صورا مسيئة للرسول، وغيره مئات نفذوا جرائم، لكنهم جميعا ليسوا الدين، وهم يشبهون جماعات دينية غير إسلامية ارتكبت عنفا في الولايات المتحدة واليابان أو جماعات سياسية قتلت وفجرت مدنيين في بريطانيا وأسبانيا وغيرهما.
وقطعا لا ندافع عنهم ولا يستحقون أي ذرة تسامح، لكننا نوضح الصورة فقط.
***
قابلت في حياتي كثيرا من هؤلاء الذين يفهمون الدين على غير حقيقته..
ذات مرة كنت جالسا في مقهي نصف شعبي، منغمسا في دور شطرنج، وبالمناسبة ثم شيوخ يحرمون لعب الشطرنج، بدعوى أنه ملهاة عن ذكر الله، وهي من الرياضات العقلية التي تحافظ على توقد الذهن، فإذا بواحد من الجالسين المتابعين اللعب يسألني: ألا يعد الأخ خالد مسعود من المجاهدين الشهداء؟
سقط السؤال على عقلي مثل  نيزك من الفضاء، تركت اللعب ونظرت إليه بتمعن، رأيت السائل كثيرا بالمكان من قبل، هو من شلة أخرى تلعب النرد بجوارنا تتابع الشطرنج أحيانا، تبادلنا أحاديث عادية سريعة، يهزر ويسخر ويشرب الشيشة، ويخرج إلى المسجد القريب حين يؤذن لصلاة العشاء.
قلت له : تصنيف البشر دينيا وتقدير أعمالهم الإيمانية من حق الله فقط، ولا يحق لبشري أن يحكم على"درجة" إيمان غيره..هذا النوع من الأحكام هو اغتصاب لسلطة الله، وكيف لنا أن نصف قاتلا لأبرياء بأنه مجاهد وشهيد ولم يقتل الأعداء فيساحة الحرب ولم يمت دفاعا عن مبدأ أو وطن أو شرف أو مال أو نفس أو عدوان عليه؟
وخالد مسعود، رجل في الثانية والخمسين من عمره، قاد سيارة دفع رباعي على جسر ويستمينيستر في لندن، دهس بها عددا من الناس مات منهم ثلاثة واصيب أكثر من أربعين شخصا، وحين توقفت السيارة نزل منها ثم طعن شرطيا بسكين حاد طوله عشرة سنتمترات حتى الموت، ثم تبادل طلقات الرصاص مع الشرطة التي أردته قتيلا.
وخالد لم يكن اسمه الذي ولد به، فهو بريطاني الجنسية وكان اسمه أدريان راسل آجارو ثم أسلم، من أسرة وحيدة الجناح، أم بلا أب، هي التي ربته، له تاريخ في عالم الجريمة، جريمتان مسجلتان باسمه تحديدا، الأولى اعتداء وإتلاف وهو في العشرين من عمره، والثانية حمل سكين خطر، وهو في الثامنة والثلاثين، متزوج وله ثلاثة أولاد، واشتغل مدرسا لفترة قبل أن يستقيل دون أن يعرف ماذا اشتغل بعدها، لا الشرطة عرفت عمله ولا الصحافة ولا الفضائيات، وكلها راحت تضرب أخماسا في أسداس.
واحتارت السلطات البريطانية في تفسير الجريمة، إلا أنه مسلم، عمل أربع سنوات في السعودية، وانهالت وسائل الإعلام حديثا عن الإرهاب الإسلامي، وتوسعت في تذكير المجتمع الدولي بالحوادث المشابهة، تفجيرات الأخوين تسارنايف في بوسطن، جرائم فيي باريس، تفجير خالد البكراوي المكني نفسه "أبو وليد" في مطار بروكسل وغيرهم.
 ولم تتوقف لحظة لتراجع أوراقها، فلا يوجد في سجل خالد مسعود ما يربطه بالإسلام متطرفا ومتشددا، أو يربطه  بتنظيم داعش غير بيان أصدره التنظيم بعد مقتله بساعات، يعلن فيه تبنيه للجريمة الإرهابية، كما لو أنهم يقولون للغربيين: نحن وصلنا إلى داخل بيوتكم، وجندنا منكم من نريد وجعلناهم ينقلبون عليكم.
والله وحده يعلم سر هذه الجريمة، فالقاتل لم يترك ورقة واحدة تشير إلى أسبابه.
فكيف يصفه مسلم  آخر على بعد ثلاثة آلاف وخمسائة كيلومتر بأنه مجاهد وشهيد؟، أي أن هذا المسلم ربط الإسلام والإرهاب معا كما يفعل الغربيون تماما، واسماه جهادا وشهادة.
في المقابل تظاهرت أعداد كبيرة من المسلين بميدان الطرف الأغر في لندن، ونددت بالجريمة ونثرت الزهور على النصب التذكارية للضحايا، وكتب واحد منهم بجانبها: القاتل ليس مسلما ولكنه وحش.
والسؤال: ماهي الثقافة الدينية التي جعلت مسلما في القاهرة يصف قاتلا في لندن أنه مجاهد وشهيد؟
وقطعا ليس هو حالة فردية.
****
 نعم هي محيرة فعلا، تلك الجرائم التي يرتكبها مسلمون مهاجرون في الغرب ضد مجتمعاتهم، طبعا ثمة تربص واستنفار ضد المهاجرين وخاصة المسلمين، وفيه إعتداءات باللفظ والرسم على مقدسات إسلامية، مثل الرسوم المسيئة للرسول والفيلم الأمريكي القبيح السافل ضد الرسول صلي الله عليه وسلم، لكن كما أن قلة من المسلمين هم الذين يتطرفون ويرتكبون العنف والإرهاب، قلة أيضا من الغربيين  هم الذين يسيئون للإسلام عمدا ويستفزون مشاعر المسلمين وإلا كانت حياة المسلمين جميعا في تلك البلاد جحيما طول الوقت.
والسؤال المهم: كيف عاش مسلمون في الغرب وتعلموا فيه ولم يستطعوا أن يتجاوزوا "ثقافتهم الأولي" وبداوة تفكيرهم؟، ولماذا يتحولون إلى قنابل بشرية تنفجر في الأبرياء وتفتتهم أشلاء كما لو أن "تدينهم" هو الفتيل أو أداة التفجير؟
أتصور أنها أزمة عقل وتخلف ثقافي.
والتخلف ليس فقط نقص في المعرفة والقيم والعقل  السليم، التخلف نوع من القبح، والقبح هو أصل العنف، قبح النفوس يهبطبها إلى قاع الغريزة ويسلب منها قدرة العقل على التفكير والاستنباط، وحين يتراجع العقل تتحكم الغريزة، والكائنات بغريزتها تميل  للعنف لإثبات الذات والدفاع عن حياتها.
يا للغرابة..
 كيف لبشر دينهم جوهره "أقرأ والتدبر والتعقل في الكون وصولا إلى الله"، وأيضا يعيشون ويتحركون في بيئة تتوافر فيها كل عناصر التحضر والمعارف والثقافة والوهج أن تظل غرائزهم هي التي لها الغلبة حين يغضبون ويكرهون؟
هذه أزمة بعض التجمعات الإسلامية في الغرب سواء في أوروبا أو في الولايات   المتحدة..
إنه "جيتو" المسلمين بديلا عن الجيتو اليهودي التقليدي الشائع في تاريخ البشرية، العزلة التامة عن البيئة التي يعيشونها فيها، واستدعاء البيئة التي هاجروا منها، ليتشرنقوا فيها، أي يتواجدون على أرض بريطانيا أو فرنسا أو بلجيكا أو أسبانيا أو ألمانيا، لكنهم يعيشون بعقول مستمدة من صحراوات الشرق الأوسط وتقاليدها وقيمها، يلبسون من الخارج ثيابا عصرية، لكنهم غارقون حتى الثمالة في أفكارهم القديمة ومفاهيمهم القديمة، مجرد كائنات مستوردة معزولة بإراداتها عن طبيعة البيئة الجديدة.
وقطعا لا ندعوهم أن يخلعوا ثقافتهم وتراثهم الإنساني الخاص بهم، وأن يلبسوا بدلا منها ثقافة المجتمعات الغربية وأخلاقها، فمن المؤكد أن للشرقيين تقاليد في غاية النبل والسمو، كما فيهم تقاليد ومفاهيم في غاية السوء، وأيضا في الغرب من الأخلاق الاجتماعية ما لا تتفق والدين الإسلامي، لكن عندهم قيم عظيمة جدا في الحياة والعمل ناتجة من تطورهم الاقتصادي والعلمي لأكثر من أربعة، ويمكن أن يلتزم بها المهاجرون المسلمون، خاصة أن جوهرها يتطابق وتعاليم الإسلام، مثل قيم العمل الجاد والاتقان والمثابرة والحفاظ على النظام والنظافة العامة واحترام الوقت والتعاون المخلص مع الآخر أيا كان لونه أو ديانته..الخ.
لكن كثرة من المهاجرين المسلمين لم ينجحوا في صناعة هذا المزيج، وأتصور أن رجال الدين لم يساعدوهم على هذا المزج الحضاري، وعملوا دائما على الفصل بين الثقافتين فزعا من أن تهزمهم الثقافة الغربية، وتزيح ثقافتهم الاصلية إزاحة تامة.
كما أنهم يتحركون بأفكار من كتب التراث والتفسيرات القديمة، سواء كان فهمهم متعنتا أو مرتبكا أو منحرفا، لأن هذا الفهم ينتهي بفعل ولا يتوقف عند حدود صاحبه.
فصنع المسلمون "الجيتو الجديد"..
نعم ..لم يعد اليهود يعيشون في "جيتو" منذ سطوهم المسلح على أرض فلسطين،   وحل محلهم مسلمون في كل بقاع الدنيا.
وياليتهم صنعوا "جيتو" على غرار الجيتو اليهودي، فاليهود تاجروا وتعلموا وتداخلوا وتسللوا إلى مراكز المعرفة والثقافة والفنون، ومراكزصناعة القرار، يدرسون ويفهمون ويستوعبون، ثم استخدموا هذه المعارف والتجارب في التوغل ومد النفوذ، وأن عادوا في نهاية النهار إلى الجيتو يحصون المكاسب ويكنزون الفوائد ويضعون الخطط، عاشوا مثلما يعيش أهل البيئة التي هم فيها، وأيضا حافظوا على تقاليدهم وقيمهم سواء نتفق معها أو نختلف عليها.
لكن كثرة من المسلمين نفوا أنفسهم داخل هذه المجتمعات، لأنهم قرروا أن يبنوا جدارا عازلا بينهم وبين البيئة الجديدة التي هاجروا إليها، نفي عام وشامل حتى لو تعلموا في مدارسها وجامعاتها، فهو تعليم تحصيلي، يتحول فيه العقل إلى مخزن بيانات، مثل مخزن الكراكيب، والبيانات هي المادة الخام للمعلومات، والمعلومات تنضج بالتراكم إلى معرفة، ولا قيمة لها إلا باستخدامها في الحياة كلها، وليس في مجرد العمل أو الوظيفة.
باختصار لا ترتفع قيمة المعلومات الفنية إلا بتحولها إلى معرفة، منظومات من المعرفة، في العلاقات الاجتماعية والوظيفية والحياتية والحرفية والثقافية..وكل شئ
جيتو اليهود مجرد معسكر معزول لكنه جزء من مجتمعه..
جيتو المسلمين معسكر نفى بالإرادة عن مجتمعه..
وفي معسكرات النفي يسهل صناعة القتلة والقنابل البشرية.
***
لو فتحنا الصفحات عن أسباب تدفعنا إلى إعادة النظر في ترثنا الديني لن تنتهى،  والأسباب ليس بنية خبيثة لإعلان الحرب علي هذا التراث وإخراجه من حياتنا كليا، وإنما بنية البحث والفهم والتنقية والتفرقة بين الصالح من الطالح، الأصل من الفرع، الجوهر من الهوامش، النفيس من الرخيص..
والمدهش أن الكلام عن تحديث الخطاب الديني، انخرط فيه المجتمع كله تقريبا، بما فيه من رجال دين،  رجال دين تسبب عدد غير قليل منهم في الحالة التي تمسك بتلابيب المسلمين وتشعل فيها الحرائق والأزمات والتراجع الحضاري الرهيب، نعم هؤلاء يتكلمون في تحديث الخطاب الديني لكن بشرط أن يبتعد المثقفون والمفكرون عن الدين، ويتركون المهمة للشيوخ والدعاة سوا كانوا من الأزهر وخريجيه أو من مشارب أخرى.
لكن الغريب أن أغلب من تكلم عن هذا التحديث، لم يشخص المرض تشخيصا صحيحا ويحصر الأزمة في جماعات متشددة أو متطرفة، تكفرالأخرين أو تقتل باسم الشرع أو تطالب الجزية من غير المسلمين أو تمنع السلام أو تهنئة الأقباط بأعيادهم أو تنتظم في تشكيل مسلح  جهادا لتأسيس دولة الخلافة..
واعترف بصحة ما قاله بعض أساتذة الأزهر، بأن تلك الجماعات تستغل الأمية الدينية في نشر تطرفها ومفاهيمها المغلوطة.
لكن هذا التشخيص يتجاهل عمدا نمو الافكار المتشددة عند كثير من المسلمين العاديين..وهم الأهم.
وبالرغم من تشخيصهم الخاطئ اختلف معهم في تعريف الأمية الدينية، فمن المؤكد أن كل المسلمين على علم تام بأركان الإسلام الخمسة، وإلا كانوا بعادا عن الإسلام بنفس المسافة التي لا يؤمن به غير المسلمين، ومؤكد أن العالمين بأركانه يعرفون كيف يتلون الشهادتين ويصلون ويصومون ويزكون ويحجون، لكنهم يتفاوتون في أداء الفرائض، مع تسليمنا أن هناك فارقا بين العلم بالدِّين والالتزام بفروضه وتعاليمه التزاما متكاملا في كل جوانب الحياة.
أذن كيف نحدد معنى الأمية الدينية؟، هل هي تتعلق بتعاليم الدين ومقاصده أو في فهم علاقة الدين بتسييس أمور الحياة اليومية؟
وهذا مهم جدا، لكي ندرك طبيعة تحديث الخطاب الديني، هل هو يمس تعاليم الدين ومقاصده أم في فهم العلاقة بين الدين والحياة؟
وهنا مربط الفرس أو أصل الاضطرابات والأزمات التي تحيط بالمسلمين في كل الدنيا ونحن منهم، وربما نحن الذين صدرنا هذه الأفكار الأزمة إلى الهند والصين وأمريكا والسلفادور وكل دولة فيها مسلمون.
شيوخنا يقولون لنا منذ الصغر إن الإسلام يحوى كل شئ، ولم يدع شيئا للبشر إلا ونظمه، سياسة واقتصاد واجتماع وثقافة ورياضة وفنون وإدارة وطب وعلوم ..الخ، وإننا بمجرد أن نؤسس دولة على هذه القواعد الواردة في القرآن والسنة، ستسود العالم حتما ونحقق مشيئة الله، ويضربون لنا الأمثال، بعصر الخلفاء الراشدين والدولتين الأموية والعباسية، وربما بالدولة العثمانية التي سقطت خلافتها في 1924.
والسؤال الذي يجب أن نبحث له عن إجابة، لتكون مدخلا إلى أحداث ثورة فكرية دينية وليس مجرد تحديث الخطاب: هل ما قيل صحيح أم غير صحيح؟، هل ما ورد في كتب التراث عن علاقة الدين بتسييس أمور الحياة صحيحا وله أصول فعلية أم هو تعسف في الاستدلال والاستنتاج، تعسف جر وبالا على الأمة؟
وقطعا لا نريد ولا نجرؤ على إبعاد الدين عن الحياة وحبسه في الشعائر والعبادات بعيدا عن أمور حياتية، لكن نريد أن نفهم هذه العلاقة فهمًا صحيحا يتيح لنا أن نتصالح مع الحياة لا أن نعاديها، وأن نحرم الذين يرتكبون جرائم باسم الدين من إضفاء قداسة على أفعالهم التي وصلت إلى حد إقران الإرهاب بالإسلام وهو دين رحمة ومساواة وحرية وتعاون وحض على الفضيلة ومكارم الأخلاق.
وإجابة السؤال الصعب عن تاريخ المسلمين بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم  هو مفتاح المتاهة وكلمة السر للسلام مع النفس والعالم.
****
يبدو أن كل رجل دين يتحسس جبته، ويستعيذ بالله ويقرأ سورة ياسين، كلما سمع عبارة "تجديد الخطاب الديني"، أو نقدا لأفكار وتفسيرات في كتب تراث متوارثة، اكسبناها قداسة مع مرور الزمن، ومع أن تعبير " تجديد الخطاب الديني" ليس صحيحا أو على الأقل ليس هدفا، ومقصود هو تجديد " الفكر" الديني، وليس مجرد الخطاب، بتحسين مفرداته وإضافة قدر من التسامح مع الأخر المختلف معنا في الدين أو التركيز على الرحمة والتعاون والعدالة والسلام وكل القيم السامية في "الكلام" العام..
قطعا ليس هذا المطلوب، وإنما هو إعادة القراءة والفحص والدراسة، لأقوال كثيرة منسوبة للرسول صلي الله عليه وسلم، وتفسيرات لآيات قرآنية مال إليها مفسرون وآئمة وشيوخ ودعاه، أي عملية تمحيص وتنقية وفق منهج علمي كالمناهج المعمول بها في الدراسات الإنسانية والاجتماعية، وداخل مقاصد الدين دون الانحراف عنها قيد أنملة، وهي مقاصد لا يختلف عليها الناس: عاديين وعلماء.
وقطعا هذه عملية أشمل وأهم، ويستحيل أن ينفرد بها رجال دين سواء كانوا من الأزهر أو من أي معاهد مماثلة، لأن معظم علماء الدين الدارسين يركزون بالدرجة الأولي على العلوم المتعلقة بالدِّين: قرأن وتفسير وسنة وسيرة نبوية وفقه ومذاهب، وهي علوم تأخذ من بعضها البعض نقلا وحفظا، فظلت الأفكار تدور حول نفسها، أو في دوائر متشابهة دون أحداث نقلة فكرية كبيرة في فهم النصوص ومراجعة التراث بعقلية ناقدة محللة، يحكمها السؤال الصحيح وليس الإجابات الموجودة فعلا، والسؤال الصحيح هو أصل المعرفة، ولنا مثال في سيرة "أبو الأنبياء" إبراهيم، فحين سأل نفسه سؤالا صحيحا، عرف الطريق إلى الله..
لكن هناك رجال دين في تجديد الفكر لا يسألون الأسئلة الصحيحة، وإنما يسألون الأسئلة التي تحافظ على القديم وتحتفظ به وتقويه، مع قليل من المحسنات اللفظية التي لا تشق طريقها إلى الواقع وتنير عقول المتشددين والمتعصبين وجماعات العنف، فظلت هذه الأفكار ممتدة في الزمن والعقول إلي يومنا هذا.
ودعوني اضرب لكم مثالين، بمقالين، كتبهما رجلا دين عن تجديد الخطاب الدين وكيف رأياه..
الأول رجل دين شعبي، والأخر عالم متخرج من جامعة الأزهر، وقد اتفقا  على شئ واحد وهو "أن تجديد الخطاب الديني مقصود به ضرب السنة النبوية وهدم القرأن، ثم سار كل منهما في درب مختلف حسب دراسته وثقافته العامة والخاصة.
الداعية الأول قال إن أعداء الإسلام من أبنائه، باعتبار أن الداعين إلى تجديد الخطاب الديني هم من المسلمين، ثم حدد ثلاثة من هؤلاء الأعداء: القرآنيين والعلمانيين وشيوخ السراديب، وبالطبع لم أعثر على تعريف أو تحديد لـ"شيوخ السراديب"، ولكنه وصف شيق مثير شعبي للغاية..
وحدد السبب في علاقة الرجل والمرأة، العلاقة التي تمثل دملا في عقل " الشرق" عامة، ووجعا في أعصاب أغلب رجاله..كما لو أن الدين كان منزلا خصيصا لهذه العلاقة، ثم تحدث عن بقية  الجوانب بالتبعية..
قال رجلنا الشعبي: من مصلحة المرأة المسلمة أن تتحجب لأن الرجل لما يخرج من بيته ويشوف ست غير محجبة سوف يمعن النظر إليها، ويعقد مقارنة بينها وبين امرأته في البيت، الست في الشارع ما شاء الله برفان ومكياج، والست في البيت طبيخ ورائحة بصل وثوم، فالمقارنة ظالمة، وهنا يتدخل الشيطان، لكن لو الرجل خرج ولقى كل الستات في الشارع محجبات لن تكون هناك مشكلة على الإطلاق، وعموما تعليق صور الزواج في الصالون حرام والتماثيل محرمة،  القرآن يقول "وأضربوهن والضرب تعبير عن الإحتجاج والصحابي زمان كان يضرب زوجته بعود سواك".
يا الله.. تخيلوا أن الحجاب الذين ينادون به نازل من أجل حماية الرجل من وسوسة الشيطان، كما لو أن الرجل كلب يحمل غريزته المستعرة على كاهله ويمشي بها في الطرقات، ولا يملك من أمرها شيئا، فينغمس في الخطيئة مع أول فرصة متاحة.. ياله من مسلم عظيم، علينا أن نجبره على محاسن الأخلاق بإغلاق كل سبل الوسوسة أمامه، حرصا على إدخاله الجنة دون أي جهد منه.
ويبدو أن هذا الداعية لم يقرأ القرآن جيدا، ولم يعرف أن الغواية يمكن أن تكون رجلا كما في قصة سيدنا يوسف الذي قطعن النساء أيديهن حين رأين جماله، فلماذا لا نحجب الرجال "الفتنة" أيضا؟
هذا عقل مناقشته نوع من العبث ومضيعة للوقت..
الأخر دارس وباحث لا ينزلق إلى هذا المنحدر، وقد لا تختلف رؤيته للمرأة باعتبارها أصل الغواية، والرجل باعتباره سيدا يجب حمايته، لكن يقفز مباشرة إلى قلب النهر، إلى مصطلح تجديد الخطاب الديني المستخدم من وسائل الإعلام ويجري على ألسنة وأقلام أدعياء التنوير والتقدم من الليبراليين والعلمانيين والتغريبيين ومن لف لفهم من عبيد الفكر الغربي، ويحدد هدفهم: ”تغيير ثوابت الدين الإسلامي وأصوله"، ويهدفون إلى هدم قيمه ومبادئه الإسلامية، واستبدالها بأخرى محرفةٍ ومبدلةٍ، وهم في الحقيقة يقصدون جعل دين الإسلام متوافقاً مع النظرة الغربية للدين، بحجة جعل الإسلام متلائماً مع ظروف العصر".
كلام مدهش كله اتهامات مرسلة لم يقدم دليلا واحدا عليه، هل من دعاة تجديد الخطاب الديني مثلا من أنكر أو طالب بتعديل ثوابت الإسلام من الشهادة والصلاة والصوم والزكاة وزيارة بيت الله الحرام لمن يستطع إليه سبيلا، هل منهم من أحل الزنا والقمار والسرقة والقتل وسوء الأدب والخيانة والكذب..الخ؟
قطعا لم يحدث ولن يحدث.. ولكنها محاولة لقتل فكرة التجديد قتلا شرسا في مهدها..
ثم يطرح الشيخ الدارس بديلا شرعيا للتجديد وهو: ”تحديث وسائل الدعوة إلى الإسلام، والتجديد فيها، أو بيان حكم الإسلام في النوازل المستجدة، أو تنـزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاش، أو مراجعة التراث الفقهي مراجعة استفادةٍ وتمحيصٍ، وتقريبٍ الفقه للناس وتيسيره، ونحو ذلك من المعاني الشرعية.
ثم يستعن بعشرات الأقوال الواردة في كتب التراث، التي نريد إعادة قراءتها بمنهج جديد، للدلالة على المقصود بالتجديد الشرعي.
باختصار يدعونا الرجل إلى إعادة الدوران في نفس الأفكار القديمة لكن بألفاظ عصرية، كما لو أن الأزمة في الألفاظ وليس في التفسيرات والأحكام، وهي تفسيرات وأحكام بشرية، صاردة من "بشر مثلنا" حسب زمنهم وثقافتهم وسعة أفقهم والعلوم التي كانت متاحة لهم وقتها، ومناهج البحث التي ألفوها ولم يعرفوا غيرها..
ويقول عالم الدين الباحث: المجددون لدين الإسلام بالمفهوم الشرعي للتجديد هم أهل العلم خاصةً، ومَنْ ينصرون الإسلام عامةً من القادة والخلفاء.
ثم ينتقل إلى الضوابط الشرعية الواجب توافرها في المجدد، ومنها الاعتصام بالأصول والثوابت الإسلامية، فأصولُ الدين وثوابتهُ وقواعدهُ لا تقبل التجديد بأي حالٍ من الأحوال، وأي دعوةٍ لتجديدها، مردودةٌ ومرفوضةٌ، كالتجديد الذي يبيح الربا، ويرفض الحجاب، ويرفض إقامة الحدود، ويساوي بين الرجل والمرأة مساواةً مطلقةً.
أي عدنا إلى المرأة، ولا أعرف كيف يكون الحجاب من ثوابت الإسلام، مع أن الثوابت هي التي تمس العقيدة وعليها نص صريح في القرآن لا يختلف عليها..ثم يتحدث عن الربا، وبالطبع لا يحاول تحديد معناه، فهل لو لو أملك مائة مليون جنيه وابني مشروعا بمائة وستين مليونا واستلفت من البنك ستين مليونا بفائدة لاستكمال مشروعي، فهل هذا ربا؟، ربا أغنياء ، أن الربا هو استغلال لفقير في لحظة احتياج شديدة غير قادر على مواجهتها..هل وضع الأموال الزائدة عن الحد في البنك مقابل عائد يعد استغلالا لحاجة البنك؟.
هذه معاني لا يقترب منها هؤلاء الشيوخ مطلقا..الذين يرسمون لنا خطوط التجديد وكيف نمشي عليها..
أنها معركة فكرية طويلة وصعبة، وإذا ظلت الأفكار القديمة مسيطرة فالمستقبل غامض والإرهاب باسم الدين سيظل سيفا مسلطا على رقاب حضارتنا دون هوادة.
***
من هنا جاء اسم الكتاب وفكرته..
فتجديد الفكر خارج رجال الدين هو عمل شيطاني يتربص بالدين ويريد هدمه.
وعدم تجديد الفكر يوسع المساحة التي يعمل فيها الشيطان معتمدا فيها على تفسيرات قديمة في كتب التراث، لتكفير الآخر وشت عمليات إرهابية وهجرة من دار الحرب وإعلان الجهاد عليها وكراهية المخالف في الدين وحبس المرأة في البيوت حماية للرجل من الفتنة.
يعني الشيطان في غاية النشاط، هو الذي يقف خلف دعوة تجديد الفكر الديني، لهدم الدين وإخراج أمة المسلمين عن الطريق القويم، وأيضا هو الذي يريد بقاء الوضع على ما هو عليه، فالتفسيرات القديمة تمنحه فرص لا نهائية للوسوسة باسم الدفاع عن ثوابت الدين.
وفي الحقيقة نحن نفهم بعضا من مقاومة تجيد الفكر في بنية تطور المجتمعات،
فالتاريخ الطويل للبشرية - بحكم طبيعة الأشياء وعلى رأسها التعود يأخذ صاحبه إلى حالة من "الاستقرار" على أفكار يؤمن بها ويحولها إلى مقدسات لا يجوز الاقتراب منها، خاصة إذا كان هذا التاريخ يرتبط بدين وعقيدة، لأن البشر عبر تاريخهم كله حين يرتكنون إلى مفاهيم دينية متوارثة، يبنون حولها أسوارا من الصلب محاطة بأسلاك مكهربة، كل من يلمسها يهدده موت معنوي، لأن التصور السائد عند بناة هذه الأسوار أن الاقتراب من المفاهيم يعني "تغيير ثواب الدين"، مع أن المفاهيم عمل إنساني والدين رسالة إلهية.
وحين يسأل المجتمع عن التجديد في الأفكار ، يقلب حراس الأسوار في الأفكار      القديمة ويدورون حول هوامشها، في تفسيرات وشروح دينية وأدبية ويعيدون ويزيدون فيها دون أن يضيفوا ولو نتفة جديدة، ثم يخرجون للناس هاتفين: نحن     جددنا الدعوة والخطاب، دون أن يعيدوا قراءة هذه الأفكار الصادرة عن بشر مثلهم بمنهج مختلف ورؤية تتوافق مع عصر تتدفق فيه المعلومات والمعارف الحديثة مثل شلال منحدر من قمة جبل شاهق الارتفاع، واتسعت بسببها مدارك العقل اتساعا لم يتح لهؤلاء الأقدمين الذين فكروا وانتجوا المفاهيم القديمة.
هذا حال كل إن لم يكن أغلب المعاهد الدينية..
لكن في أوقات لا يعملها إلا الله تبزغ مصابيح من داخل هذه المعاهد تنير للبشر  الطريق الذي تغيرت معالمه وأضيف إليه شواهد وحقائق جديدة، فيعملون على إنقاذ العقول مما رسخ فيها قرونا، وقد لا يكون سليما أو صحيحا بالدرجة التي يتصورها الناس.