السياسية في حياة أبي حنيفة
عاش أبو حنيفة 52 سنة من حياته في العصر الأموي، و18 سنة في العصر العباسي، فهو قد أدرك دولتين من دول الإسلام، ويُروى أنه لما خرج زيد بن علي زين العابدين على هشام بن عبد الملك سنة 121هـ كان أبو حنيفة من المؤيدين للإمام زيد، وقال أبو حنيفة: «ضاهى خروجه خروج رسول الله يوم بدر».
ويُروى أنه قال في الاعتذار عن عدم الخروج معه: «لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه لأنه إمام حق، ولكن أعينه بمالي، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم».
وانتهت ثورة الإمام زيد بقتله سنة 132هـ، كما قتل ابنه يحيى في خراسان، وابنه عبد الله بن يحيى في اليمن، ولقد كان لزيد بن علي منزلة في نفس أبي حنيفة، وكان يُقدِّره في علمه وخلقه ودينه، وعدَّه الإمام بحق، وأمده بالمال، ثم رآه يُقتل بسيف الأمويين، ثم يُقتل من بعده ابنه، ثم من بعده حفيده، فأحنقه كل ذلك.
كان يزيد بن عمر بن هبيرة والي الكوفة آنذاك، فأرسل إلى أبي حنيفة يريد أن يجعل الخاتم في يده، ولا ينفذ كتاب إلا من تحت يد أبي حنيفة، فامتنع أبو حنيفة عن ذلك، فحلف الوالي أن يضربه إن لم يقبل، فنصح الناسُ أبا حنيفة أن يقبل ذلك المنصب، فقال أبو حنيفة: «لو أرادني أن أعد له أبواب مسجد واسط لم أدخل في ذلك، فكيف وهو يريد مني أن يُكتب دمُ رجل يُضرب عنقُه وأختم أنا على ذلك الكتاب، فوالله لا أدخل في ذلك أبداً»، فحبسه صاحب الشرطة، وضربه أياماً متتالية، فجاء الضارب إلى الوالي وقال له: «إن الرجل ميت»، فقال الوالي: «قل له: تخرجنا من يميننا؟»، فسأله فقال أبو حنيفة: «لو سألني أن أعد له أبواب المسجد ما فعلت»، ثم أمر الوالي بتخلية سبيله، فركب دوابه وهرب إلى وكان هذا في سنة 130هـ.
ولقد وجد في الحرم المكي أمناً، فعكف على الحديث والفقه يطلبهما بمكة التي ورثت علم ابن عباس، والتقى أبو حنيفة بتلاميذه فيها، وظل مقيماً بمكة حتى صارت الخلافة للعباسيين، فقدم الكوفة في زمن أبي جعفر المنصور.
واستقبل أبو حنيفة عهد العباسيين بارتياح، فقد رأى اضطهاد الأمويين لبني علي بن أبي طالب وأهل بيت النبي محمد، واستمر على ولائه للدولة العباسية لمحبته لآل البيت جميعاً، ولقد كان الخليفة أبو جعفر المنصور يدنيه ويعليه ويرفع قدره ويعطيه العطايا الجزيلة، ولكنه كان يردها ولا يقبل العطاء، ولم يُعرف عن أبي حنيفة أنه تكلم في حكم العباسيين حتى نقم عليهم أبناء علي بن أبي طالب، واشتدت الخصومة بينهم، وقد كان ولاء أبي حنيفة لبني علي، فكان طبيعياً أن يغضب لغضبهم، وخصوصاً أن من ثارا على حكومة أبي جعفر هما محمد النفس الزكية بن عبد الله بن الحسن، وأخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، وكان أبوهما عبد الله ممن اتصل به أبو حنيفة اتصالاً علمياً، وقد كان عبد الله وقت خروج ولديه في سجن أبي جعفر، ومات فيه بعد مقتل ولديه.
وكان موقف أبي حنيفة من خروج محمد النفس الزكية على المنصور شديداً، فقد كان يجهر بمناصرته في درسه، بل وصل الأمر إلى أن ثبط بعض قواد المنصور عن الخروج لحربه.
وكان هذا العمل في نظر المنصور من أخطر الأعمال على دولته، لأن أبا حنيفة تجاوز فيه حد النقد المجرد والولاء القلبي إلى العمل الإيجابي، فأراد المنصور أن يختبر طاعة أبي حنيفة وولاءه له، وقد كان يبني بغداد آنذاك، فأراد أن يجعله قاضياً، فامتنع أبو حنيفة، فأصر المنصور على أن يتولى له عملاً أياً كان، فقبل أبو حنيفة أن يقوم ببعض أعمال البناء من إعداد اللِّبن وما شابه ذلك، فاستطاع بذلك أن يغمض عنه عين المنصور.
كان أبو حنيفة بعد مناوأة بني علي للمنصور وإيذائه لهم وقتله لرؤوسهم لا يرتاح إلى حكومته، وقد استطاع أن يدرأ عنه أذاه، وانصرف إلى العلم، ولكن كان من وقت لآخر يقول بعض الأقوال، أو تكون منه أمور تكشف عن رأيه فيه وفي حكومته، ومن ذلك أن أهل الموصل كانوا قد انتفضوا على المنصور، وقد اشترط المنصور عليهم أنهم إذا انتفضوا تحل دماؤهم له، فجمع المنصور الفقهاء وفيهم أبو حنيفة، فقال: «أليس صح أنه عليه السلام قال: «المؤمنون عند شروطهم»، وأهل الموصل قد شرطوا ألا يخرجوا علي، وقد خرجوا على عاملي، وقد حلت لي دماؤهم»، فقال رجل: «يدك مبسوطة عليهم، وقولك مقبول فيهم، فإن عفوت فأنت أهل العفو، وإن عاقبت فبما يستحقون»، فقال لأبي حنيفة: «ما تقول أنت يا شيخ؟ ألسنا في خلافة نبوة وبيت أمان؟»، قال: «إنهم شرطوا لك ما لا يملكونه، وشرطت عليهم ما ليس لك، لأن دم المسلم لا يحل إلا بأحد معان ثلاثة، فإن أخذتهم أخذت بما لا يحل، وشرط الله أحق أن توفي به»، فأمرهم المنصور بالقيام فتفرقوا ثم دعاه وقال: «يا شيخ، القول ما قلت، انصرف إلى بلادك ولا تُفتِ الناس بما هو شين على إمامك فتبسط أيدي الخوارج».
وعندما دعا أبو جعفر المنصور أبا حنيفة ليتولى القضاء امتنع، فطلب منه أن يَرجع إليه القضاة فيما يشكل عليهم ليفتيهم فامتنع، فأنزل به العذاب بالضرب والحبس، أو الحبس وحده على اختلاف الروايات، ويروى أن أبا جعفر حبس أبا حنيفة على أن يتولى القضاء ويصير قاضي القضاة، فأبى حتى ضُرب مئة وعشرة أسواط، وأخرج من السجن على أن يلزم الباب، وطلب منه أن يفتي فيما يرفع إليه من الأحكام، وكان يرسل إليه المسائل، وكان لا يفتي، فأمر أن يعاد إلى السجن، فأُعيد وغُلظ عليه وضُيق تضييقاً شديداً.
وقد اتفق الرواة على أنه حُبس، وأنه لم يجلس للإفتاء والتدريس بعد ذلك، إذ إنه مات بعد هذه المحنة أو معها، ولكن اختلفت الرواية: أمات محبوساً بعد الضرب الذي تكاد الروايات تتفق عليه أيضاً؟ أم مات محبوساً بالسم فلم يُكتف بضربه بل سقي السم ليعجل موته؟ أم أُطلق من حبسه قبل موته فمات في منزله بعد المحنة ومُنع من التدريس والاتصال بالناس؟