خطة عملية للتنمية الثقافية للجماهير والخروج من نفق الظلام الفكري
الخميس 11/ديسمبر/2014 - 09:28 م
طباعة

اسم الكتاب – التحليل الثقافي للمجتمع
الكاتب – المفكر الكبير السيد يسين
الناشر – دار نهضة مصر 2014 – القاهرة
قرر المجلس الأعلى للثقافة برئاسة الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة تكليف الأستاذ "السيد يسين" بإعداد ورقة عن رؤية لسياسة ثقافية مقترحة. نحو تنمية ثقافية جماهيرية " وكانت هذه الورقة هي الدافع والمحور للكتاب الجديد الصادر للمفكر الكبير السيد يسين بعنوان ( التحليل الثقافي للمجتمع ..نحو سياسية ثقافية جماهيرية ) والذي يقع في 431 صفحة من الحجم المتوسط .وتعد الرؤية المقترحة للسياسية الثقافية المنشودة هي درة العقد في الكتاب الثري، حيث اعتمد المفكر يسين في ورقة العمل. على خبرات نظرية وعملية في مجال تقييم السياسات الثقافية، أبرزها المشروع البحثي الكبير الذى وضع خطته وأشرف على تنفيذه في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 1992 وما تلاه. وقد أنجز هذا المشروع ثلاثة كتب أساسية هي:
- رؤى العالم (1993) بإشراف الدكتور "أحمد أبوزيد".
- تخصيص الوقت (1998) بإشراف "السيد يسين" وإعداد "د. ليلى عبدالجواد" والدكتور "علاء مصطفى".
- المناخ الثقافي (2000) إشراف وتحرير "السيد يسين" ومشاركة "محمد هاشم" و"إبراهيم غانم" و"فؤاد السيد".
وقد تناولت الورقة ضمن محاورها التالي:
- مفهوم الثقافة
ينبغي منذ البداية التحديد الدقيق لمفهوم الثقافة كما هو معروف في العلم الاجتماعى المعاصر. نحن نتبنى التعريف الموسع للثقافة الذى يزاوج بين محاور ثلاثة رئيسية:
- الثقافة كمرادف لكل ما هو إنساني، بمعنى أن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذى يضم أنماط السلوك المشترك السائد في مجتمع ما بشقيها المادي والمعنوي مع التركيز على الجوانب اللامادية.
- الثقافة بالمعنى الإبداعي النخبوي الذى يركز على طبيعة الإنتاج الرفيع المقدم من نخبة من المبدعين.
- الثقافة بالمعنى الذى يربط بينها وبين القيمة التي يضفيها الإنسان على حياته فيكسبها معنى ودلالة، بمعنى التركيز على نوعية الحياة، فالثقافة بهذا المعنى تشير إلى رؤية الإنسان للعالم، ونوع الأساليب التي يتبعها لكى يكسب حياته معنى ويحقق آماله وتطلعاته.
- مفهوم السياسة الثقافية
السياسة الثقافية هي "توجهات الدولة الإيديولوجية، معبراً عنها في مجمل القرارات والتدابير والبرامج والأنشطة والأفعال - بما في ذلك الامتناع عن الفعل - التي توجه إلى الجوانب الثقافية اللامادية في المجتمع: المعتقدات، الفكر، الرأي، الفن، الأدب، القيم، العادات، التقاليد، الذوق العام، القدرات الإنسانية وبخاصة القدرة الإبداعية، القدرة على التذوق الفني، القدرة على التفكير العلمي بهدف تحقيق أهداف وغايات تتفق وتوجهات الدولة الأيديولوجية".
وتبني الورقة لهذا التعريف معناه أن السياسة الثقافية التي ستتم دراستها تمتد لتشمل السياسة الثقافية لوزارة الثقافة وغيرها من الوزارات والهيئات كوزارة التعليم ووزارة الشباب ووزارة الأوقاف.
تقويم السياسة الثقافية:
في تقويم السياسة الثقافية لابد لنا أن نعتمد على علي المعايير التي اتفق عليها جمهرة الباحثين في مجال تقويم السياسات العامة، وعلى تطويعها لتتفق مع خصوصية المجتمع المبحوث. والواقع أن موضوع تقويم السياسات العامة، ومعايير هذا التقويم، من الموضوعات الخلافية في العلم الاجتماعي، وهناك تصميمات منهجية متعددة تطبق في هذا المجال ولا يتسع المجال لعرضها.
- دوائر ثلاث
ويقول المفكر السيد يسين في تقديرنا إن التحرك بإيجابية لوضع سياسة ثقافية جديدة يقتضي التحرك في دوائر ثلاث:
الدائرة الأولى: تقييم السياسة الثقافية الراهنة في ضوء مؤشرات كمية وكيفية.
الدائرة الثانية: القيام بمجموعة من البحوث الاجتماعية الثقافية الأساسية وخصوصاً ما تعلق منها بمسوح اجتماعية في دوائر الأميين والفئات الفقيرة والمهمشة وفى العشوائيات لاكتشاف المواهب الدفينة لمن يصلحون موجهين ثقافيين شعبيين.
الدائرة الثالثة: التخطيط لسياسة ثقافية جديدة محورها "التنمية الثقافية القاعدية" وفقاً لتحليل الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية التي سادت المجتمع بعد ثورة 25 يناير المجيدة، ووفقاً لموجهات أساسية في ضوئها يتم وضع البرامج الثقافية المختلفة.
وفى ورقة العمل المقترحة نعرض الملامح الأساسية للمجتمع المصري بعد ثورة 25 يناير، ثم نقدم عرضاً موجزاً للأوضاع الاجتماعية والثقافية الراهنة، وبعد ذلك ندخل في صميم الموضوع بالتركيز على التنمية الثقافية الجماهيرية باعتبارها الفلسفة التي تقوم عليها السياسة الثقافية المقترحة، وبعد ذلك نركز على الأهداف الأساسية للسياسة الثقافية، وأخيراً نقدم مقترحات محددة بمجموعة برامج ثقافية أساسية يدرس فيما بعد طرق تنفيذها.
- أولاً: قراءة تحليلية لخريطة المجتمع المصري بعد ثورة 25 يناير
ليس هناك شك في أن ثورة 25 يناير قد غيرت بشكل جذري المجتمع السياسي السلطوي الذى ساد طوال عهد الرئيس الأسبق "مبارك"، وحولته إلى مجتمع ثوري بكل ما في الكلمة من معانٍ ودلالات.
والمجتمع السلطوي قام على أساس احتكار السلطة عن طريق انفراد الحزب الوطني الديمقراطي بالهيمنة على مجمل الفضاء السياسي، عن طريق شبكات الفساد وممارسة التزوير المنهجي لكل الانتخابات برلمانية كانت أو رئاسية.
ولا نقول إن ثورة 25 يناير قد محت بجرة قلم كل ملامح المجتمع السلطوي، لأن السلطوية ليست مجرد نظام سياسي استبدادي، ولكنها أيضاً ثقافة تغلغلت في نسيج المجتمع، وتسببت في الخوف الشديد من السلطة والخنوع الجمعي، وأسست للوعى الزائف الذى مؤداه أن الجماهير تعجز عن مقاومة الاستبداد، وأنها لا تستطيع اتخاذ المبادرة في المعارضة الجذرية لتغيير سياسات النظام المنحرفة، أو في الانتفاضة الثورية لقلب النظام.
جاءت الثورة فغيرت عديداً من هذه الملامح، لأنها أسقطت النظام بالفعل في فترة قياسية، وأجبرت الرئيس الأسبق على التنحي، وأبرزت الطاقة الثورية الهائلة الكامنة لدى جموع الشعب، وأكثر من ذلك أثبتت أن الجماهير في ميدان التحرير وغيره من الساحات الثورية، يمكن أن تمارس الضغط الثوري على السلطة الممثلة في المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو في الوزارة، لكى تدفعها دفعاً لاتخاذ قرارات معينة أو لتعديل قرارات اتخذت وثبت خطؤها.
والسؤال الذى تنبغي إثارته الآن، ما الملامح الأساسية لهذا المجتمع الثوري المصري الجديد الذى خلقته ثورة 25 يناير؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال المحوري لابد لي أن أشير إلى أننا نعيش في عصر ما بعد الحداثة، وأهم سماته سقوط السرديات الكبرى أو الأنساق الفكرية المغلقة التي كانت تأخذ عادة شكل الإيديولوجيات المصمتة كالماركسية المتطرفة أو الرأسمالية الجامحة، كما سقطت أيضاً أوهام الحقائق المطلقة، أو المواقف الفكرية الثابتة التي لا تتغير حتى لو انقلبت الأحوال، وبرزت ظواهر جديدة غير مسبوقة تحتاج إلى إطار نظري جديد يحاول الغوص إلى أعماق المشكلات في عصر لابد فيه من الاعتماد على الأنساق الفكرية المفتوحة، التي تستطيع أن تؤلف تأليفاً خلاقاً بين متغيرات متعارضة، كان يظن أنه لا يمكن الجمع بينها في مؤلف فكرى أو سياسي واحد، كالتأليف بين العلمانية والدين، أو بين الاشتراكية والرأسمالية، أو بين الحرية والعدالة الاجتماعية.
والكاتب المنهجي وهو يخوض في غمار العواصف السياسية والاجتماعية والسلوكية التي أحدثتها ثورة 25 يناير يحاول أن يستخدم في استراتيجية الكتابة تكتيكات مختلفة، كالتقدم والتراجع، والدفاع عن موقف محدد ثم العدول عنه، أو تبنى رأى ما وتغييره في فترة قصيرة، لأنه ثبت من خلال الممارسة خطؤه. وبالتالي الحكم على الكاتب أنه متناقض نتيجة قراءة سطحية غير متتبعة لمقالاته في مجموعها يعد إدانة لا محل لها، وليست لها أي قيمة معرفية.
ولذلك أدركت أنه من الضروري أن أرسم الملامح الأساسية للخريطة المعرفية للمجتمع الثوري المصري كما قرأتها، نتيجة مشاركة فعالة في المراقبة المنهجية لأحداث ثورة 25 يناير وتحولاتها.
بين المثقف والناشط السياسي
وأول ملامح هذا المجتمع الثوري المصري الوليد، أن دور المثقف التقليدي الذى ساد طوال القرن العشرين والذى كان يقوم على أساس تبنى رؤية نقدية لأحوال المجتمع والاهتمام بالشأن العام من خلال تبنى إيديولوجيات متعددة، قد سقط لحساب دور جديد ناشئ لمن يطلق عليه "الناشط السياسي".
وهذا الناشط السياسي نجده ممثلاً في كل الأعمار، وليس من الضروري أن يصدر عن إيديولوجية محددة. ولكن ما يميزه حقاً قدرته الفائقة على تحريك الشارع في اتجاه معارضة السلطة، سواء في ذلك السلطة السلطوية السابقة أو السلطة الحالية في مرحلة الانتقال. ومما يميزه أن تحريك الشارع يتخذ - بحكم الثورة الاتصالية الكبرى - أشكالاً مستحدثة غير مسبوقة، مثل الاستخدام الفعال لشبكة الانترنت بما فيها من أدوات "الفيس بوك" و"التويتر"، بالإضافة إلى الأشكال التقليدية مثل رفع وعى الجماهير من خلال رفع شعارات ثورية صارخة، تدفعهم دفعاً إلى الخروج إلى الشوارع في مظاهرات كبرى، أو اعتصامات مفتوحة، أو وقفات احتجاجية.
والملمح الثاني من ملامح المجتمع الثوري هو ظهور فئة "الحشود الجماهيرية الهائلة" التي حلت محل فئة الجماهير التقليدية التي كان يمكن أن تخرج إلى الشارع للمعارضة في صورة مظاهرة لا يتعدى عدد أعضائها المئات، مما يسهل مهمة قوات الأمن في تفريقها. غير أن الحشود الجماهيرية حين يصل أعداد المشاركين فيها إلى مئات الآلاف أو إلى الملايين في بعض الأحيان، فمعنى ذلك عجز أي قوة أمنية عن تفريقها أو وقف انتشارها.
سيكولوجية الحشد
غير أن أخطر ما في ظهور الحشود الجماهيرية كفاعل أساسي ليس في كثرة الأعداد فقط، ولكن في أن سيكولوجية الحشد تتسم بسمات أساسية، أبرزها الاندفاع الذى لا حدود له، وتجاوز كل الحدود، والتطرف في رفع الشعارات التي يصوغها عدد من المحترفين الثوريين، والارتفاع بسقف المطالب أحياناً لدرجة تجعل من المستحيل تحقيقها في وقت قصير، أو التناقض الشديد في المطالب، كل ذلك مع تشرذم الآراء السياسية، وبروز الانقسامات الخطيرة مثل تحول المجتمع إلى معسكرين معسكر الليبراليين واليساريين ومعسكر الإسلاميين، سواء كانوا من الإخوان المسلمين أو السلفيين.
والملمح الثالث من ملامح الخريطة المعرفية للمجتمع المصري بعد الثورة هو بروز التناقض بين الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية.
الشرعية الثورية ظاهرة معروفة في كل الثورات، وتعنى أن من قاموا بالثورة من حقهم أن يسقطوا الشرعية القانونية القديمة التي تأسست في عصر السلطوية المستبدة، ويتخذوا من الإجراءات الجذرية ما يدفع للتغيير الثوري حتى لو كان ذلك مضاداً للقانون السائد.
أما الشرعية الديمقراطية فهي التي تقوم على أساس إجراء انتخابات نزيهة وشفافة تعكس القوى السياسية الناجحة التي ستكون في تعاونها مع قوات سياسية أخرى معارضة المعبرة حقاً عن الإرادة الشعبية.
وأبلغ مثال لهذه الشرعية الديمقراطية هي انتخابات المجالس النيابية والانتخابات الرئاسية التي أقبلت عليها جماهير الشعب بالملايين، مما يدل على انتصارها للشرعية الديمقراطية على حساب الشرعية الثورية التي يزعم بعض شباب الثوار أن ميدان التحرير ومظاهراته هي المعبرة عنها، حتى لو خالفت الشرعية الديمقراطية!.
والملمح الرابع من ملامح المجتمع الثوري هو إصرار الجماهير على المشاركة الفعالة في اتخاذ القرار، من أول المستوى المركزي حتى أدنى مستويات المستوى المحلى، ليس ذلك فقط ولكن الرقابة الفعالة على تنفيذ القرار.
يبقى هذا الملمح مطمحاً من مطامح ثوار 25 يناير ولكن لم يتح له أن يتمأسس في شكل مؤسسات سياسية جديدة مستحدثة حتى الآن.
هذه هي الملامح الأساسية للخريطة المعرفية للمجتمع الثوري المصري
- ثانياً: الأوضاع الاجتماعية والثقافية السائدة
- الأوضاع الاجتماعية
1 ـ نحتاج لرصد هذه الأوضاع الاعتماد على المؤشرات الكمية المتنوعة التي صاغها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وفقاً للبيانات المتنوعة التي يجمعها. وأهمها على الإطلاق عدد السكان وتوزيعهم على مختلف المحافظات من الحضر والريف وميزانية الأسرة وتطوراتها إلى غير ذلك من البيانات الاجتماعية الأساسية.
ودراسة وتحليل هذه المؤشرات بالغة الأهمية لأنها في تقديري تكون البنية التحتية لأى سياسة ثقافية رشيدة.
يكفي للتدليل على ذلك تأمل المؤشرات الكمية التالية: 40% معدل الأمية بين السكان، 26 مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر، 16 مليون مواطن يقطنون في العشوائيات. وغنى عن البيان أن هذه المؤشرات تشير بوضوح إلى الأسباب العميقة لتدنى الوعى الاجتماعي والثقافي مما سمح للتيارات الدينية المتطرفة - سواء في ذلك تيار الإخوان المسلمين أو التيارات السلفية - أن تغزو عقول هؤلاء المواطنين والتي تؤدى إلى نشأة ظواهر التعصب الديني والتطرف والتي تعد هي الأسباب الكامنة وراء الإرهاب.
2 ـ وإذا كانت "المؤشرات الكمية" بالغة الأهمية في دراسة الأوضاع الاجتماعية فليست "المؤشرات الكيفية" بأقل أهمية، وفى مقدمتها مقاييس جودة الحياة quality of life التي أصبحت في العلم الاجتماعي المعاصر المقاييس الموضوعية لقياس مدى نجاح برامج التنمية المختلفة.
3 ـ ومما لا شك فيه أنه ينبغي الالتفات - في مجال دراسة وتحليل الأوضاع الاجتماعية - إلى الفجوة الطبقية الكبرى بين سكان "المنتجعات" الذين يمارسون أساليب للحياة تقوم على الاستهلاك التفاخري وسكان "العشوائيات" الذى يعيشون حياة لا تليق بالآدميين، وانعكاس ذلك كله على السلوك الاجتماعي بأنماطه المختلفة.
4 ـ ولابد من دراسة ظاهرة الاستهلاك وتطوراتها في المجتمع، وذلك لأن الطبقات الاجتماعية العليا تمارس أسلوباً تفاخرياً في الاستهلاك، سرعان ما انتقل - كما تنقل العدوى - إلى الطبقة المتوسطة والطبقات الفقيرة مما أثر على الميزانيات المحددة لهذه الطبقات وأثقلتها بمطالب استهلاكية على حساب إشباع الحاجات الضرورية ومن بينها الحاجات الثقافية.
ويكفى أن نشير إلى أنه منذ سنوات قدر إجمالي ما ينفق على التليفون المحمول في السنة الواحدة بستة عشر مليار جنيه.
ومن المؤكد أن هذا الرقم قد زاد في عام 2014. وقد لاحظ علماء الاجتماع أن أسرا متعددة متوسطة أو فقيرة يمتلك أعضاؤها أربعة أو خمسة تليفونات محمولة، مما يشير إلى خطورة ظاهرة التقليد الاجتماعي
وقد قامت عالمة الاجتماع الدكتورة "منى أباظة" بتأليف كتاب بالغ الأهمية عن أنماط الاستهلاك في المجتمع المصري وقارنت بين الستينيات والتسعينيات مقارنة ملفتة للنظر.
ـ الأوضاع الثقافية
1 ـ أبرز هذه الأوضاع التي استفحلت في الفترة الأخيرة هي شيوع الاتجاهات الدينية المتخلفة والمتطرفة ابتداء بإيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية - بالرغم من خوائها الفكري وقصورها السياسي المخزي - وانتهاء بالتيارات السلفية المعادية للحداثة بكل صورها السياسية والاجتماعية والفنية.
ويمكن القول إن شيوع الآراء الدينية المتطرفة إعلان جهير عن فشل المجتمع بسياساته المختلفة بما فيها السياسة الثقافية فى مواجهة مشكلة رسوخ "العقل التقليدي" في تربة الثقافة المصرية، والذى أدى إلى صياغة "عقول مغلقة" لا تصلح للتعامل الفعال مع المجتمع المعاصر ولا في أجواء العولمة العالمية".
ولذلك لابد من الحفر المعرفي لتحديد جذور تكوين هذا "العقل التقليدي"، والتي تتمثل في ازدواجية التعليم بين تعليم ديني يقوم على النقل ولا يقوم على العقل، وتعليم مدنى ينهض على أساس قشور من المعرفة العلمية، تصاغ من خلال عملية "تلقين" ميكانيكية مما يؤدي إلى خلق "عقل اتباعي" لا يتسم بالإبداع.
وقد ثبت علمياً أن "العقل التقليدي" هو المقدمة الضرورية لنشأة "العقل الإرهابي" الذى يمكن أن يؤدى بصاحبه إلى الهلاك، وخصوصاً في صورة تفجير الإرهابي لنفسه ومصرعه الحتمي، مما يكشف عن خطورة تغلغل الأفكار المتطرفة والتكفيرية في عقول الناس.
2 - وإذا تركنا جانباً أخطر الأوضاع الثقافية السائدة فنحن نواجه بظاهرة تحتاج إلى الدراسة وهى انصراف أجيال الشباب عن القراءة التقليدية، ونعنى قراءة الكتب.
وهم يظنون - من خلال مناقشتي مع عديد منهم - أنهم يقرأون ما يشاءون على شبكة الإنترنت. غير أن ذلك فهم سطحي لعملية التكوين الفكري الأساسية للعقل النقدي، والذى لا يمكن أن يتكون إلا بالقراءة التقليدية المتعمقة. وهؤلاء الشباب يظنون وهما أنهم يستطيعون الحصول من الشبكة على أي معلومة. غير أنهم لا يعرفون قانوناً معرفياً أساسياً وهو "أن المعلومات لا تكون بذاتها معرفة"!.
لأن المعرفة تتطلب عقلاً تحليلياً ونقدياً قادراً على تقييم المعلومات والمفاضلة بين الآراء المتنوعة.
- ثالثاً: التنمية الثقافية الجماهيرية باعتبارها أساس السياسة الثقافية المقترحة
استقر الرأي بين علماء الاجتماع المعاصرين بعد دراسة وتحليل عديد من تجارب التنمية في العالم على القصور الشديد لصيغة التنمية من فوق Development From above والتي تعتمد على الخطط التي يضعها السياسيون والاقتصاديون على مكاتبهم، بغير أن يولوا أدنى اهتمام للمطالب الجماهيرية.
ومن هنا اقترحوا صيغة جديدة هي "التنمية من أسفل" Development from below التي أطلقنا عليها "التنمية الجماهيرية".
وقد شاركت في تطبيق هذا المفهوم عملياً في إطار بحث سوسيولوجي تم في إطار جهاز تنظيم الأسرة في عهد الدكتور "عزيز البنداري" لتنمية مجموعة من القرى أبرزها "برج نور الحمص"، وتشكل فريق بحث علمي شارك فيه الدكتور "نادر فرجاني" والمرحوم الدكتور "عبدالباسط عبدالمعطي" والفنان التشكيلي "عز الدين نجيب" .
نزلنا إلى القرى التي اختيرت للدراسة وأجرينا مقابلات متعددة ومتعمقة مع الفلاحين وتعرفنا على مطالبهم الأساسية، وحددنا احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وتبين لنا أن أول مهمة ينبغي أن نبدأ بها هي محو الأمية وفق أسلوب جديد غير ما تقوم به الهيئات البيروقراطية الحكومية في هذا المجال. وكلفنا "عز الدين نجيب" بتأليف كتاب لمحو الأمية في ضوء نظرية عالم الاجتماع الكبير "پاولو فريرى" الذى أبدع نظرية تعليمية شهيرة عمادها أن التعليم جوهره رفع الوعى الاجتماعي والسياسي للمتعلم.
ونظمنا فصولا ناجحة لمحو الأمية أقبل عليها الفلاحون والفلاحات، إلا أن "مباحث أمن الدولة" أدركت أن هذه - في نظرها - محاولة يسارية لرفع وعى الفلاحين، ومن ثم قامت بجمع نسخ الكتاب وأعدمتها وصدر قرار بإيقاف البحث.
تعمدت أن أذكر هذه الخبرة لأبين أن علاقتي بالتنمية الجماهيرية تقوم على البحث الميداني وليس على القراءة النظرية فقط.
كيف نطبق ما أسميه "التنمية الثقافية الجماهيرية"؟ لابد أن نجرى مسوحاً اجتماعية وثقافية تخترق الكتل المليونية من الأميين والفقراء وسكان العشوائيات، لاكتشاف المواهب الكامنة لمن يصلحون - بعد تدريبهم فى وزارة الثقافة - موجهين ثقافيين شعبيين بحكم صلتهم العضوية بالجماهير.
وأتصور أن هذه المسوح الاجتماعية والثقافية عليها أن تعتمد على "قصور الثقافة" كمحور للبحث والتقصي والمفروض أن قصور الثقافة المنتشرة في البلاد تقوم بأنشطة متعددة تستطيع من خلالها - وفق خطة منهجية محكمة وبعد تحديد المواصفات الضرورية - أن تكتشف هذه المواهب لتخضع من بعد لبرامج تدريبية مدروسة.
غير أن التنمية الثقافية الجماهيرية - أهم من ذلك - عليها أن تهتم باكتشاف كيف يبدع المجتمع المصري ثقافته في الريف والحضر؟
لأن هناك وهمًا مؤداه أن وزارة الثقافة هي التي تبدع الثقافة! وليس هذا صحيحاً على الإطلاق، لابد أن نفهم كيف يشبع المصريون حاجاتهم الروحية، ولماذا ينضمون إلى الطرق الصوفية وكيف يبدعون فنونهم الشعبية. هذه معرفة ضرورية حتى يتاح لنا أن نصوغ سياسة ثقافية رشيدة.
موضوع التنمية الثقافية الجماهيرية يحتاج إلى دراسات وتحليلات أعمق ولذلك اكتفينا بهذه الإشارات الموجزة.
- رابعاً: الأهداف الأساسية للسياسة الثقافية
- لابد من أن نحدد تحديداً واضحاً للأهداف الأساسية التي تهدف إلى تحقيقها السياسة الثقافية الجديدة.
- وفى تقديرنا أنه في مقدمة هذه الأهداف:
1 ـ تكوين العقل النقدي
ويتطلب ذلك في الواقع ثورة تعليمية شاملة تحاول إلغاء عملية التعليم التلقينية السائدة والتي تصوغ عقولاً اتباعية عاجزة عن الإبداع، ولا تستطيع أن تحل المشكلات بحلول مبتكرة.
غير أنه بالإضافة إلى الثورة التعليمية المرجوة ينبغي على وزارة الثقافة - في سلاسل الكتب المختلفة التي تنشرها - التركيز الشديد في مجال الكتب المؤلفة والمترجمة على فئات الكتب التي تحض على التفكير والمساءلة في مختلف فروع المعرفة، وسواء ذلك في العلوم الطبيعية أو الاجتماعية أو الإنسانيات.
- وفى هذا المجال لابد من الاهتمام بالمراجع الأساسية في حقول ثلاثة:
- تاريخ العلم
- فلسفة العلم
- سوسيولوجيا العلم.
وقد سبق للمركز القومي للترجمة أن ترجم كتبا هامة في هذه الحقول، غير أنه مطلوب إعداد خطة شاملة.
2 ـ نشر ثقافة التجدد المعرفي الدائم
وذلك في ضوء المسلّمة السائدة الآن في العالم وهى أهمية "التعليم مدى الحياة"، بعبارة أخرى التقاليد البالية التي تقضى بنهاية التعليم مع الحصول على الشهادة - أياً كان نوعها - انتهت في العالم المتقدم.
وأصبحت هناك مسئولية ثقافية على عاتق الرواد في المجتمع من الأكاديميين والساسة والمثقفين والمفكرين وهى التجدد المعرفي الدائم.
وذلك لأن عصر العولمة بما انطوى عليه من استحداث شبكات التواصل الاجتماعي وفى مقدمتها شبكة الإنترنت، قد أدت إلى انفجار المعرفة في كل الميادين، وأهم من ذلك سهولة الحصول على المعرفة الجديدة لحظة تبلورها.
وذلك يفرض مسئولية كبرى على المجتمع المعاصر لكى يساعد أفراده من مختلف الطبقات على أن يتفاعلوا مع المعرفة المتجددة.
3 - تجسير الفجوة بين التعليم الديني والتعليم المدني
لأن التعليم الديني في مصر يقوم على النقل ولا يقوم على العقل، والتعليم المدني يقوم على التلقين وحفظ قشور المعرفة العلمية.
لابد للقضاء على ظاهرة الانفصام الثقافي الخطيرة أن نجدد في برامج التعليم الديني من ناحية، وأن نعيد النظر كلية في مناهج التعليم المدني بما يتفق مع تطورات العالم المعاصر.
4 ـ تتردد كثيراً هذه الأيام الدعوة لإنتاج "خطاب إسلامى وسطى"
حيث يقوم الأزهر بمكانته الحالية في الدور الأكبر في هذه العملية الضرورية والهامة.
غير أننا ننطلق من رؤية ثقافية مغايرة لهذا المطلب البالغ الأهمية.
وجوهر هذه الرؤية أن ترك المجال للمتخصصين في الدين للقيام بعملية التجديد قد لا تكون مجدية بحكم تطبيقهم بالضرورة لقواعد معرفية موروثة في مجال التفسير والتأويل قد تعوقهم عن تخطي الحدود الجامدة للمعرفة الدينية السائدة.
وينبغي أن نلتفت إلى حقيقة هامة هي أنه لا كهانة في الإسلام. وتقتضى هذه القاعدة ألا تترك عملية التفسير والتأويل لمن يتخصصون في الدين فقط، بل ينبغي أن تفتح لكافة المفكرين المؤهلين للدخول في عملية تجديد الفكر الإسلامي بما يلائم حاجات العصر، وخصوصاً إذا كانوا قد درسوا بعمق "أصول الفقه" والتي يمكن اعتبارها هي مناهج البحث الإسلامية.
ومن الحقائق المعروفة أن علم "أصول" الفقه يدرس في كل كليات الحقوق في مصر، وقد ألف فيه أساتذة فضلاء في مقدمتهم أستاذنا الشيخ "أبو زهرة" والشيخ "عمر عبدالله" والشيخ "خلاف" وأخيراً الشيخ "على جمعة".
ومن هنا يمكن اقول إن لدينا قاعدة عريضة من الحقوقيين الدارسين لأصول الفقه مما يسمح لهم بالاجتهاد الفكري- وفق خطة مدروسة - فى مجال تجديد الفكر الدينيوربما كانت كتب المستشار "سيد العشماوي" نماذج ساطعة على أهمية الاجتهادات القادمة من خارج المؤسسات الدينية التعليمية.
5 ـ تغيير الاتجاهات المتطرفة:
هناك في علم النفس الاجتماعي مبحث خاص عن مناهج وطرق تغيير الاتجاهات السلبية، ويندرج تحت هذا الموضوع تغيير اتجاهات التعصب والتطرف والنزوع إلى الإرهاب.
ونحتاج في هذا المجال إلى نشر سلسلة كاملة من الكتب في هذا المجال، بالإضافة إلى ابتداع وسائل متعددة في مجال الندوات الفكرية والبرامج التليفزيونية سعياً وراء تحقيق هذا التغيير.
6 ـ تجديد القيم المصرية
من الملاحظات المهمة فيما يتعلق بالتغيرات الكبرى التي حدثت في مصر للمجتمع بعد ثورة 25 يناير ظهور أزمة حادة في مجال القيم، وهذه الأزمة سبق لعلم الاجتماع العالمي أن درسها وأطلق عليها ظاهرة الـ"anomie" أو "اختلال" القيم، بمعنى عجز أفراد المجتمع عن التمييز بين السلوك المشروع والسلوك غير المشروع.
وهذه الأزمة لها مؤشرات متعددة، لعل أهمها الخلط بين الثورة والفوضى، وهو ما أدى إلى صدامات دامية بين فئات من النشطاء السياسيين مع قوات الأمن، سقط فيها عشرات الشهداء ومئات المصابين.
ولعل جذر هذا الموضوع هو ما أشرنا إليه من قبل في القراءة التحليلية لخريطة المجتمع المصري بعد ثورة 25 يناير من الخلط بين الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية، أو بين شرعية الميدان وشرعية البرلمان!
وتبدو الأزمة في أن ائتلافات شبابية متعددة تريد أن تواصل المظاهرات في أي وقت احتجاجاً على أي وضع لا ترضاه، بزعم أن "شرعية الميدان" ينبغي أن تبقى قائمة إلى الأبد مهما كانت الأوضاع الدستورية قد استقرت.
ومن مظاهر أزمة القيم أيضاً نسف التراتبية الاجتماعية Social Stratification بمعنى عدم الاعتراف بالمديرين والرؤساء وشرعية الانقلاب عليهم ومحاصرتهم في مكاتبهم والدعوة إلى فصلهم أو تغييرهم. بعبارة مختصرة عدم الاعتراف بالمكانات الإدارية والاجتماعية بزعم أن هذه من أخلاقيات الماضي.
ومن المظاهر الحادة للأزمة محاولة نفى الأجيال القديمة باعتبار أن أوانها قد انقضى، ولعل شعار "تسقط دولة العواجيز" تعبر عن هذا الاتجاه خير تعبير.
ومعنى ذلك أن النشطاء السياسيين - ربما بغير وعى منهم - يدعون إلى صراع مفتوح بين الأجيال بدلاً من أن يقيموا حواراً فعالاً بين الأجيال"، تنقل فيه الخبرة بهدوء وسلاسة من الأجيال القديمة إلى الأجيال الشابة.
وأزمة القيم تدعو إلى أن يكون "تجديد القيم المصرية" هدفاً أساسياً من أهداف السياسة الثقافية.
وفى هذا المجال لابد من التركيز على "مدنية الدولة" في ضوء برنامج متكامل يهدف إلى تأصيل الثقافة السياسية Political culture، وفى هذا المجال المهم ينبغي التركيز على ترسيخ قواعد الحوار الديمقراطي واحترام الاختلاف في ضوء احترام مبدأ التعددية.
وذلك بالإضافة إلى إعلاء قيمة النقد الذاتي ونشر الكتب المهمة في هذا المجال وسواء في ذلك النقد الذاتي الذى قام به مفكرون أو النقد الذاتي للمؤسسات (الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني
والاهتمام بترسيخ قاعدة الانفتاح النقدي على العالم بتياراته السياسية والاقتصادية والثقافية والمعرفية.
ونحتاج إلى تجسير الفجوة بين النظر والعمل كقيمة عليا، بمعنى ضرورة التفاعل مع الشارع والنزول إلى مستوى القواعد الجماهيرية.
ومن ناحية أخرى لابد من التركيز على نشر ثقافة التطوع وتشجيع مؤسسات المجتمع المدني ودعمها، وخصوصاً تلك التي تقوم بأدوار تنموية وثقافية.
7 ـ السياسة الثقافية في عصر العولمة
أهمية نشر ثقافة المعلوماتية وفهم قوانين ووسائل التفاعل الاجتماعي والثقافي في شبكة الإنترنت، والاهتمام بتحليل تراث المدونات، والتحليل النقدي لوسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة اتجاهات الشباب ورؤاهم للعالم (الفيس بوك والتويتر).
وفى هذا المجال - ولأننا نعيش في عصر "الصورة" - لابد من استخدامها كوسيلة أساسية للتثقيف والتنوير (أفلام وثائقية وتسجيلية وحية) ويمكن القول إن "المواقع الإلكترونية" الإخبارية والثقافية أصبحت وسيلة ذائعة للتواصل، ويقبل عليها الشباب، ومن هنا أهمية أن تكون لهيئات وزارة الثقافة المختلفة "مواقع الكترونية متعددة، واستخدامها فى نشر الثقافة ومتابعة تطوراتها وأخبارها.
- خامساً: برامج ثقافية أساسية
1 ـ إحياء الذاكرة التاريخية المصرية (الحقبة الفرعونية والحقبة القبطية والحقبة الإسلامية). وذلك من خلال سلاسل مدروسة من الكتب والأفلام.
2 ـ إحياء الذاكرة الثقافية العربية.
وذلك من خلال سلاسل خاصة تعيد نشر إبداعات النهضة العربية الأولى والنهضة المصرية الليبرالية ابتداء من "رفاعة الطهطاوي" و"محمد عبده" وصولاً إلى أهم رموز الفكر الليبرالي الحديث مثل "أحمد لطفى" السيد "طه حسين" و"سلامة موسى" وغيرهم.
3 ـ رسم خريطة معرفية متكاملة للفكر العربي الحديث والمعاصر يرصد بصورة نقدية التيارات الإسلامية التجديدية، والتيارات الليبرالية، والتيارات اليسارية، على مستوى الدراسات النقدية الكلية وعلى مستوى الشخصيات البارزة.
وفى هذا المجال نقترح أن تتبنى وزارة الثقافة إعادة طبع كتاب الدكتور "حسن حنفي" وعنوانه "حوار الأجيال" لأنه أهم كتاب نقدى صدر عن تاريخ الفكر المصري.
- ويختتم المفكر الكبير السيد يسين ورقته قائلا
لقد عالجنا في هذه الورقة البحثية المعالم الرئيسية لسياسة ثقافية جديدة تقوم على أساس التنمية الثقافية القاعدية، وقنعنا برسم الملامح البارزة دون الدخول في التفصيلات.
والورقة مطروحة للنقاش، وأتوقع أن تكون الملاحظات النقدية التي ستوجه لها أساسية في إعادة صياغتها، لتكون أساساً للمناقشة في المجلس الأعلى للثقافة.