حلم الإخوان الضائع.. وهم "الخلافة"

الثلاثاء 28/يناير/2014 - 12:06 م
طباعة حلم الإخوان الضائع.. د.رفعت السعيد
 

تكاثر الحديث في الآونة الأخيرة، وتصاعد أكثر فأكثر مع استيلاء جماعة الإخوان على الحكم. وتولى د.محمد مرسي مقعد الرئاسة. ثم إصرار عدد من الجماعات السلفية على إثارة مسألة الخلافة باعتبارها فريضة واجبة النفاذ ولا يكتمل إسلام المسلمين إلا بقيامها.

الأمر الذي دفعنا إلى الحديث عنها وفحص موضوعها. وكعادتنا نبدأ بالتعريف اللغوي في القاموس الوسيط نقرأ تعريف الكلمة والخلافة هي الإمامة والخليفة هو المستخلف والسلطان الأعظم "أما التعريف المصطلح عليه فهو إن الخلافة "رئاسة عامة للمسلمين في كل الدنيا".

وعند وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم ثارت هذه المسألة وتطلع البعض من آل بينه لخلافته لكن عمر بن الخطاب كان واعيًا بأن ذلك قد يتحول إلى تقليد مستمر فقال لابن عباس "إن قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فتذهبوا في السماء شمخًا بذخًا"(1). لكن أبا بكر كان يعرف حدوده كحاكم مدني، وكان يدرك أنه لا يمتلك سلطان أن بسوس النار كما كان يسوسهم الرسول الذي يوحى إليه والذي كان له فضل النبوة. فوقف في الناس يوم توليه الخلافة قائلاً "أنا والله ما أنا بخيركم، ولقد كنت لمقامي هذا كارهًا، ولوددت أن فيكم من يكفيني" ثم سأل الجالسين حوله "أتظنون أني أعمل فيكم بسنة رسول الله؟ إذن لا أقوم بها، إن رسول الله كان يعصم بالوحي وكان معه ملك، وإن لي شيطانًا يعتريني، إلا فراعوني، وإن زغت فقوموني".(2)

لكن الأمر لم يستقر. فقد ظل أتباع سيدنا علي ولم يزالوا يعتقدون بأحقيته في خلافة الرسول بل هم يضيفون أحيانًا إلى خطبة الرسول في حجة الوداع ما يوحي بذلك "علي مني وأنا من علي، من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والي من والاه، وعاد من عاداه، إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي" ثم نقرأ تعليقًا على هذه الإضافات "إن الوصية مدقوقة كالوشم على جبين علي، لا التاريخ عمي، ولا أي رجل كريم من رجالات ذلك العصر كان يعمى عن قراءة الحقيقة. ولكن سياسات الزعماء المتشربين روح القبلية هي التي عميت"، ثم يكون الهجوم على عمر بن الخطاب شديدًا وقاسيًا ونقرأ "لم يكن عمر بن الخطاب ضعيف السجية، إنه كريم عفيف بين الرجال، ولكن عنجهية قبلية نائمة في بطانة نفسه ما سمحت له، ولا قبلت أن يتقدم عليه وعلى أمثاله من وجهاء الجزيرة فتى لايزال أمرد، لقد كان حسن ابن الخطاب بمركز الزعامة أرجح من حسه بقيمة الرسالة، إن هناك خبيئة من الماضي الوخيم تعشش في ضلوعه، إنها الأموية فيه ضد الطالبية الهاشمية" (أي ضد بني طالب وبني هاشم) (3). بل إن صاحب الكتاب يقول إن عمر بن الخطاب قد "وظف اجتماع سقيفة بني ساعدة ليبعد عليًا عن حقيقته وحقوقيته في الإمارة وإحلال أبي بكر فيها كأنما الرضوخ لمشيئة النبي هو الخطأ، والواقع في المعصية هو الصواب".(4)

وهكذا فتح باب الصراع حول الحق في الحكم على مداه، وتمادى حتى الآن.

ومنذ اليوم الأول لوفاة الرسول تحول أمر الحكم إلى مسألة إنسانية، فالوحي انقطع، وحكم الحكام بالرأي أو بما يعتقدون هم أنه متطابق مع الشرع، لكن هذا الاعتقاد يبقى هو أيضًا إنسانيًا يحتمل الصواب والخطأ.

وفي نهاية أيام ابن الخطاب اختار مجموعة من كبار الصحابة لتختار خليفته قائلاً: "والله ما أردت أن أحمل وزرها حيًا وميتًا". وبعد مقتل عمر أتى ممثل هذه المجموعة إلى علي بن أبي طالب قائلاً: "يا علي ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين (يقصد أبا بكر وعمر)، لكن عليًا أبى قائلاً: كتاب الله وسنة رسوله نعم، أما الشيخان فلهما رأي ولي رأي"، وها هو يؤكد مرة أخر أن الحاكم في الإسلام يحكم برأي إنساني نسبي الصحة كما أنه نسبي الخطأ.

ويختلف الحكام في أحكامهم وفي أسلوب تعاملهم مع الناس. فعثمان كان هادئًا وديعًا وغير عنيف في أحكامه فأسموه بالضعيف وعاملوه على أساس ضعفه فوقف صارخًا ذات يوم على المنبر قائلاً وفقًا لرواية الرواة "كان ابن الخطاب يغلظ عليكم، ويؤذيكم بلسانه ويده، ويطأكم بقدمه ففخمتموه وعظمتموه، إلا أن حلمي هو الذي جرأكم علي".

وهكذا تنوع الحكام وتنوعت أحكامهم. ويروي الإمام السيوطي أن الخليفة عبد الملك بن مروان (حكم 73-86 هجرية) خطب يوم ولايته قائلاً: أيها الناس: لست بالخليفة المستضعف (عثمان) ولا بالخليفة المداهن (معاوية) ولا بالخليفة المأفون (يزيد) إلا إني لا أداوي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم، والله لا يفعلن أحد فعله إلا وجعلتها في عنقه، والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضرب عنقه".(5)

وهكذا كانت الأمور على الدوام، فالشريعة والقول بالحكم بها كان يتحولان دومًا إلى أفعال إنسانية، والبشر يتشكلون بحسب انتماءاتهم ومصالحهم وأخلاقياتهم. وما كانت هذه الأحكام جميعًا إلا مسائل إنسانية لا علاقة لها بما ترتديه من ثياب دينية. ذلك أن الإسلام ما كان ولن يكون كذلك الذي فعلوا، وهو لا يقبل بذلك.

والحكام المتجبرون أجبروا الناس على الخضوع لما يريدون وتعالت أصوات المنافقين لتخترق كل حواجز النظر الإسلامي لهذا الحكم. ونستمع إلى شعر يقول:

إن الخليفة قد أبى

                                     وإذا أبى شيئًا أبيته

وشاعر آخر يصل إلى حدود غير مقبولة مخاطبًا الخليفة:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

                                فاحكم فأنت الواحد القهار

فكأنما أنت النبي محمد

                                وكأنما أنصارك الأنصار

ويتضاحك أحد الشعراء على هؤلاء المنافقين فيقول:

ما قال لا إلا في تشهده

                             ولا الشهادة كانت ولاؤه نعم

وما كان ذلك إلا لأن بعض فقهاء السلطان قد وصفوا هذا النوع من الحكام بأنهم خلفاء الله في الأرض، أو حتى خلفاء رسول الله. ثم كان الأمر كذلك الأمر في العصر الحديث فأبو الأعلى المودودي يقول: "إن المطلوب للمسلمين الآن هو "حاكم يقوم بوظيفة خليفة الله، فليس لأحد أن يأمر وينهي من غير أن تكون له سلطة من الله" (6)، وقبله قال أبو الحسن المواردي في كتابه الأحكام السلطانية "إن أهل الرأي متى عقدوا البيعة للإمام لا يجوز لمخلوق نقضها، لأن الرعية عليها بموجب هذه البيعة الطاعة والنصر للإمام ما وسعتهم الطاعة، ولا يحل لهم القيام عليه بحال من الأحوال. "أما القانون الأساسي العثماني فينص "ذات الحضرة السلطانية مقدسة وغير مسئولة أمام أحد".. وفي مصر نسمع ذات الشيء من الأستاذ حسن البنا إذ يقول إن الخافة تقوم لوراثة النبوة (7) ومثله يقول الشيخ عمر عبد الرحمن "الإمامة في الإسلام موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا".(8)

وينسى هؤلاء جميعًا أن المسلمين كانوا أكثر فطنة فأسموا الأمور بمسماها الحقيقي، فكل خلافة وكل دولة نسبت إلى اسم بشري: الدولة الأموية – العباسية – السلجوقية – العثمانية.. إلخ ولو كانوا يعتقدون بغير ذلك لما تواتر استخدامهم للأسماء البشرية على مدى كل العصور.

ويبقى للتساؤل ما هو الموقف الفقهي من فكرة الخلافة ذاتها؟

- يقول الشهرستاني في كتابه نهاية الأقدام "إن الإمامة ليست من أصول الاعتقاد".

- ويقول الجرجاني "إن الخلافة ليست من أصول الديانات والعقائدبل هي من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين" (الجرجاني شرح المواقف). أما الإمام الغزالي فيقول في كتابه "الاقتصاد في الاعتقاد" إن الإمامة ليست من المعتقدات". أما أبو حفص عمر بن جميع فيقول "إن الإمامة مستخرجة من الرأي وليست مستخرجة من الكتاب والسنة (عقيدة التوحيد). أما الإمام نجم الدين النسفي فيقول في كتابه العقائد النسفية " يشترط في الإمام أن يكون من قريش ولا يجوز من غيرهم". ويكمل القاضي عضد الدين في كتاب "المواقف" فإن لم يوجد شخص مستجمع شروط الإمامة لا يشترط قيامها".

أما الآمدي فيقول "واعلم أن الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات، بل لعمري فإن المعرض عنها لأرجى حالاً من الواغل فيها، فإنها لا تنفك عن التعصب والأهواء، وإثارة الفتن والشحناء".(9)

ونأتي بعد ذلك إلى القرآن الكريم فالكثيرون من دعاة الخلافة يستندون إلى آيات من القرآن مثل "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"(النساء: 105) لكن البيضاوي في تفسيره والقرطبي في كتابه "الجامع لأحكام القرآن" يؤكد أن كلمة "تحكم" هنا كانت تعني أن تكون قضايا بينهم. ويؤكد أغلب الفقهاء أن كلمة "الحكم" تعني في القرآن "الحكمة" أو "الرأي السديد" ويستدلون على ذلك بآيات عدة "يا يحيى خذ الكتاب بقوة، وآتيناه الحكم صبيا" (مريم 12) ولم يكن النبي يحيى حاكمًا بل منحه الله الحكمة وهو صبي. وآية أخرى عن عيسى بن مريم تقول: "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادًا لي" (آل عمران 79)، ولم يكن السيد المسيح حاكمًا. وكذلك لوط  "ولوطًا آتيناه حكمًا وعلما" (الأنبياء 74) وموسى "ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكمًا وعلمًا" (القصص 14)

وعديد آخر من الآيات الكريمة، تؤكد كلها في معناها وفي حقيقة ما تتحدث عنه أن فكرة الحاكم المتحدث باسم السماء والحاكم بأمرها ليست واردة في القرآن الكريم.

وفي مصر جرى حديث كثير يرفض "مصر" الوطن ويواجهها بفكرة الخلافة، ويتحدث أصحاب هذا الرأي بشغف ووله عن الخلافة العثمانية، وفي مواجهتهم يكون هتاف الشعب المصري الذي استمر يردده لأمد طويل "يارب يا متجلي أهلك العثماللي" فكيف كان ذلك؟ ولماذا؟

كيف بدأت علاقة مصر بالعثمانيين وخلافتهم؟ لنعد إلى صفحات التاريخ.

كان سلطان مصر في هذا الزمان قنصوة الغوري، وكان يقوم كل عام بالواجب المصري القديم برعاية الأماكن المقدسة سواء في مكة أو المدينة او القدس. وكان حاكم مصر يشرف بنفسه على صناعة كسوة الكعبة وتسفيرها مع ركب المحمل. وأتى البريد إلى قنصوة بأن الخليفة العثماني يحشد حشوده لغزو مصر فوجه رسالة إلى السلطان سليم الأول جاء فيها "علمنا أنك همعت عساكرك وأنك عزمت على تسييرهم علينا فتعجبت نفسنا غاية التعجب لأن كلنا والحمد من سلاطين أهل الإسلام، وتحت حكمنا مسلمون موحدون". فرد السلطان سليم في كذب سافر "يعلم الله وكفى به شهيدًا أنه لم يخطر ببالنا طمع في أحد سلاطين المسلمين أو في مملكته، أو رغبة في إلحاق الضرر به فالشرع الشريف ينهى عن ذلك".(10)

لكن سليم الأول كان رغم ذلك مصممًا على غزو مصر ولم يكن ينتظر سوى فتوى تبيح له ذلك فكيف يغزو بلدًا يسمي سلطانه نفسه "خادم الحرمين الشريفين" ويوم بكسوة الكعبة ويحتضن الأزهر الشريف. وأخيرًا جاءت الفتوى على يد قاضي عسكر الأناضول كمال باشا زاده. واستند فيها إلى الآية الكريمة "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" وتمضي الفتوى لتقول أن الأرض هي مصر لأنها وردت في آية قرآنية مشيرة إلى مصر. أما عبادي الصالحون فهم طبعًا العثمانيون.

وقد كان فقد سارع مفتي الأستانة هو أيضًا ليؤيد فتوى قاضي العسكر، فأصدر "مفتي الأنام شيخ الإسلام فتوى بوجوب غزو مصر "لأن أهلها قطاع طريق والحرب والقتال ضدهم غزو وجهاد، والمقتول من جيوش السلطان في هذه الغزو شهيد ومجاهد".. وتقترب الجيوش العثمانية من مصر فيرسل سليم الأول إلى حاكمها آنذاك طومان باي رسالة يقول فيها "إن الله قد أوحى إلي بأن أملك الأرض والبلاد من الشرق إلى الغرب كما ملكها الإسكندر ذو القرنين، وأنا خليفة الله في أرضه وأنا أولى منك بخدمة الحرمين الشريفين". وبدأ سليم الأول جرائمه في مصر بشنق طومان باي على باب زويلة. ولم يغفرها له المصريون ويظلون حتى الآن يطلقون على هذه البوابة "بوابة المتولي" وهو أحد أسماء طومان باي ولم يزالوا يقرأون الفاتحة كلما مروا بالبوابة.

ويروي ابن إياس في بدائع الزهور الكثير والمخيف من جرائم العثمانيين فيقول "واتجهوا إلى الطحانين فأخذوا البغال والخيول، وأخذوا جمال السقايين، ونهبوا كل ما في شون القمع من غلال، ثم صاروا يأخذون مواشي الفلاحين ودجاجهم وأزهم وأغنامهم وحتى أبواب بيوتهم وخشب السقوف أخذوه". وأرسل سليم واحدًا من أكثر رجاله توحشًا هو جان بردي الغزالي إلى الشرقية "فوصل إلى نواحي التل والزمرونين والزنكلون ونهب ما فيها من أبقار وأغنام وأوز ودجاج وقام بأسر الصبيان وسبي الفتيات باعتبار أنهم أبناء كفار وراح يبيعهم في المحروسة بأبخس الأثمان، وسارع المصريون بشرائهم من سوق العبيد والجواري ثم يهبونهم لأهاليهم، فاشترى أحدهم بنتًا بأربعة أشرقية (جنيهات) ووهبها لأمها، وراح الصالح بالطالع وصارت جثث المصريين مرمية من باب زويلة إلى الرميلة إلى الصليبة فوق العشرة آلاف إنسان ثم إنهم أحرقوا جامع شيخو فاحترق الإيون والقبة" وترك سليم الأول في مصر واليًا تركيًا يقول عنه ابن إياس "كان يصبح كل صباح وهو مخمور فيحكم في الناس بالعسف والظلم وهو سكران".

ثم يلخص ابن إياس الأيام الأولى للغزو العثماني قائلاً "وأشعلوا في مصر جمرة نار" ولعل تلك الأيام هي التي لقنت المصريين الشعار الذي ظلوا يهتفون به أمدًا طويلاً "يارب يا متجلي أهلك العثمالي.

ولم تكن هذه الشراسة والغطرسة مقصورة على تعامل العثمانيين مع شعب مصر بل شملت كل شعوب المناطق التي احتلتها وشملت أيضًا الهيئة التركية الحاكمة ذاتها "فالدولة العثمانية كانت دولة طبقية بمعنى الكلمة.. فالهيئة العثمانية الحاكمة بأكملها من أصغر موظف وحتى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) كانت بكل أعضائها عبيدًا للسلطان ويطلق عليهم المصطلح التركي "قولار" أي العبيد ومفردها "قول" أي العبد ويقصد به عبد السلطان، وكانت هذه هي تسميتهم جميعًا في الأوراق الرسمية".(11)

وتظل العلاقة المصرية العثمانية علاقة خصومة، وإن كان الجمهور الذي يهتف من أعماقه بهلاك العثماللي يواصل خضوعه للخليفة العثماني باعتباره خليفة المسلمين، إنه ذات التناقض الذي وجد يه المصريون أنقسهم وهم يخوضون غمار الثورة العرابية. فمنذ البداية حاول عرابي ألا يستثير السلطان العثماني لكنه في ذات الوقت حاول أن يحافظ لمصر على سيادته.. ويروي ولفريد بلنت أكد لي عرابي "نحن جميعًا أبناء السلطان نعيش كأفراد أسرة واحدة في بيت واحد، كل منا له إقليم من الإمبراطورية، له حجرة مستقلة في المنزل، وهي حجرة خاصة بنا نتصرف فيها وفقًا لإرادتنا ويجب ألا نسمح لأحد بأن يعبث بسيادتنا وعلى وضعنا المستقل"(12) ويكتب صابونجي إلى بلنت رسالة أكثر وضوحًا "أن العرابيين يتملقون السلطان ويعلنون ولاءهم له كخليفة للمسلمين لكن الحقيقة هي أن السلطان لا يعنيهم في شيء وحين يحسون بقوتهم سيعلنون إقامة حكومة جمهورية".(13)

وكان السلطان هو أيضًا يكره عرابي ويسعى لإفشال ثورته لكنه يحاول خداعه وتملقه فقد أصبح عرابي زعيمًا ذا نفوذ كبير في أرجاء أقاليم عديدة. وأخيرًا أرسل السلطان حملة إلى مصر لتأديب عرابي وانهالت الاعتراضات من مختلف المسلمين في الشام والهند وسيلان والسودان وغيرها. وتصل الحملة إلى اللاذقية ويصف مراسل "التيمس اللندنية" موقف السكان منها قائلاً "لقد حدث هيجان شديد وأعلن السوريون مقاطعتهم للحملة وامتنعوا عن التعامل معها وأظهروا الجفاء والامتهان لها ناعين عليها خروجها لحرب المسلمين. وخرج عن المقاطعة أحد كبار التجار فباع الجنود العثمانيين طعامًا ولحومًا فلم ينته اليوم حتى أحرقت كل متاجره في المدينة وكان الرجل يطلب النجدة كالمجنون من الأهالي فيبصقون في وجهه ولا يتحركون لمساعدته بل يتهكمون عليه قائلين أطلب النجدة من سادتك الأتراك".(14)

وفي الوقت الحرج تمامًا وصلت من الأستانة إلى الجيوش المصرية وهي تحارب الغزاة الإنجليز كميات هائلة من "الجوائب" وهي الجريدة الرسمية للخلافة المكتوبة بالعربية. وقد تم توزيعها على الجنود وعلى السكان في مختلف أنحاء القطر وفي صدرها كلمة "بيانامة" ثم بين طويل جاء في مقدمته "بإرادة سيدنا ومولانا السلطان أمير المؤمنين خليفتنا الأعظم إشعارًا لجميع المسلمين بأن الأفعال التي أجراها عرابي وأعوانه ورفقاؤه في مصر مخالفة لإرادة الدولة العليا السلطانية، ومغايرة لصالح المسلمين، وبناء على ذلك تقرر أن عرابي وأعوانه عصاة بغاة وبهذه الصفة تجري معاملتهم".(15)

ولا يبقى أمام المصريين سوى أن يواصلوا شعارهم القديم "يارب يا متجلي اهزم العثماللي" وأن يضيفوا إليه شعارًا موحيًا "الولس هزم لكن العلاقة المصرية بموضوع الخلافة تظل ملتمسة. ففي مطلع القرن العشرين وعندما تأس الحزب الوطني شهد وبعد فترة من تأسيسه صراعًا حادًا بين تيارين الشيخ جاويس ينتمي للخلافة ويؤكد "إن إضاعة الخافة إضاعة للذات" ومحمد فريد يؤكد على مصرية مصر ويشكو في مذكراته من أن الشيخ جاويش كان يعترض على أعضاء الحزب الذين "يضعون على صدرهم دبوسًا كتبت عليه عبارة مصر للمصريين" ويقف إلى جانب الدعوة المصرية كثير من الكتاب ومنهم مثلاً عبدالقادر أفندي حمزة ومنصور فهمي وغيرهما.

أما قاسم أمين فيهاجم الخلافة بشدة قائلاً إنها نظام يقوم على أساس "خليفة أو سلطان غير مقيد، يحكم موظفين غير مقيدين، وربما يقال إن هذا الخليفة يستمد سلطته من الشعب الذي بايعه، لكن هذه السلطة التي لا يتمتع بها الشعب إلا بضع دقائق هي سلطة لفظية أما في الحقيقة فالخليفة هو وحده صاحب الأمر والنهي. أن من أسباب نكبتنا أننا نسند حياتنا على التقاليد التي لم نعد نفهمها ونحافظ عليها فقط لأنها أتت من الماضي".

أما الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فقد رفض من الأساس فكرة وجود خليفة يحكم باسم السماء وقال "إن السيادة قسمان: سيادة عليا يختص بها الله تعالى، وسيادة أقل درجة يختص بها الشعب وعليه ممارستها. ومن هذه السيادة تكتسب الأمة شرعية دورها كمصدر للسلطة: أما الحاكم فيكتسب سلطته من الشعب"(16) ثم يقول جازمًا "ومن الضلال القول بتوحيد الإسلام للسلطتين المدنية والدينية، فهذه الفكرة خطأ محض ودخيلة على الإسلام، ومن الخطأ القول إن السلطان هو مقرر الدين وواضع أحكامه ومنفذها" ثم يعلو صوته مؤكدًا "ليس من الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية أو المؤسسة الدينية بوجه من الوجوه، ولم يعرف المسلمون في عصر من العصور تلك السلطة الدينية".(17)

وتمضي المعركة سجالاً لتأتي ثورة 1919 فتحسم الأمر لصالح الدولة المدنية ولصالح شعار جديد "الدين لله والوطن للجميع".

وكما أتت الخلافة العثمانية من تركيا، فإن نهايتها أتت هي أيضًا من هناك. ولعل هذا يفسر لنا عمق المعركة الحالية بين العلمانيين الأتراك وبين حكم أردوغان.

لكن قيام أتاتورك بإنهاء "الخلافة" ترك بصمات بالغة الأهمية في مصر، وعلى مفكريها وسياسييها.

فبد أربعة أيام فقط من قرار أتاتورك بإلغاء الخلافة اجتمع بعض علماء الأزهر وأصدروا بيانًا أعلنوا فيه "بطلان ما قام به الكماليون لأن الخليفة قد بويع من المسلمين ولا يمكن خلعه".(18)

لكن موقع الخليفة الشاغر أسال لعاب الكثير من الحكام المسلمين كل منهم ينشد المنصب لنفسه، الملك أمان الله ملك الأفغان، والملك حسين بن علي ملك الحجاز، وكان هنا أيضًا الملك فؤاد الذي تحصن بالثقل الحضاري والثقافي لمصر وبأزهرها الشريف وسارع للمطالبة بالموقع. وهنا تغير موقف بعض شيوخ الأزهر فنسوا بيعة الخليفة المخلوع واهتموا بطموحات الملك فؤاد وقرروا دعوة ممثلي جميع الأمم الإسلامية إلى مؤتمر يعقد في القاهرة برئاسة شيخ الأزهر للبحث فيمن يجب أن تسند إليه الخلافة وكان وجوده، وحددوا شهر شعبان من العام التالي لانعقاده".(19)

وتدور عجلة الإعداد لهذا المؤتمر مستمدة حماسها من حماس الملك فؤاد وشغفه بأن يكون خليفة للمسلمين، وفي ربيع أول 1343 (أكتوبر 1924) صدرت نشرة أسميت "المؤتمر" وأعلن أصحابها أن الهدف منها هو الدعوة لحضور المؤتمر وإنجاحه وتحديد أهدافه وفي صدر العدد الأول نشر مقال للشيخ رشيد رضا يؤكد ضرورة عقد المؤتمر لأنه "الأول مؤتمر إسلامي عام يشترك فيه علماء الدين والدنيا من كل الأمم الإسلامية، خاصة أن مهمته هي وضع قواعد للحكومة الإسلامية المدنية التي يظهر فيها علو التشريع الإسلامي واختيار خليفة وإمام للمسلمين".(20)

لكن قوى عديدة تكاتفت لإفشال هذا المؤتمر، فالملوك تنافسوا على موقع الخليفة، والدول التي كنت تحكمها الخلافة تسارعت إلى إعلان قيام كيانات وطنية، والقوى الاستعمارية سيطرت على عديد منها. وكان هناك في مصر رئيس وزراء شديد العداء للفكرة هو سعد زغلول، أما حلفاء الملك فؤاد في حزب الأحرار الدستوريين فقد كانوا بسبب موقفهم الليبرالي خصومًا للفكرة، وكتبت جريدتهم "السياسة" إن الدستور ينص على أنه لا يجوز لملك أن يتولى مع ملك مصر امور دولة أخرى بغير رضاء البرلمان ومن ثم يتعين ترك بحص هذه المسألة للسياسيين، وأن يعدل علماء الأزهر عن دعوتهم لهذا المؤتمر"(21) وفي "السياسة" كتب الشيخ علي عبدالرازق (وكان من الأحرار الدستورين) مقالاً كشف فيه كل أوراق اللعبة، مؤكدًا أن الحماس للخلافة ليس حماسًا للإسلام وإنما مساندة لمطامع الملك فؤاد فقال: "كانت مسألة الخلافة أولاً دفاعًا عن مقام معن يراد الاحتفاظ به كأثر يحتاج إلى العناية. كمريض يحتاج إلى الحماية". ويمضي المقال قائلاً "والان انتقلت المسألة إلى وضع آخر، واتجه الرأي إلى العمل على إيجاد مقام جديد يحمل حمل ذلك الأمر الذاهب، لأن أناسًا يريدون أن يبقى في الوجود ذلك الشيء ليكونوا له حماة" كذلك شنت الصحف الوفدية حملات ضارية على المؤتمر وعلى فكرة الخلافة ذاتها. وكان انعقاد المؤتمر في 13 مايو 1926 إشهارًا لوفاته، ومن هزال الحضور إلى هزال النتائج، فشل المؤتمر وفشل الملك فؤاد في تحقيق طموحه، وبقي من المسألة صراع فكري وسياسي محتدم.

ولكن الشيخ علي عبدالرازق هو صاحب الضجة الأكثر صخبًا، ربما لأنه كان صاحب الفكرة الأكثر عمقًا فهو أزهري متعمق في دراسة الفقه الإسلامي وحائز على شهادة العالمية ودرس فوق ذلك بالجامعة المصرية وتخصص في الأدب العربي والفلسفة ثم سافر إلى انجلترا ليدرس في اكسفورد مستهدفًا التخصص في الاقتصاد والعلوم السياسية. وفوق هذا وذاك انتسب – وهو لم يزل طالبًا – غلى مجموعة ليبرالية تضم د.محمد حسين هيكل ومحمود عزمي وعزيز ميرهم ود.منصور فهمي.. وهكذا ندرك أن الشيخ علي عبدالرازق لم يهبط فجأة على ساحة الفكر المصري بل تكون ونضج فيها عبر سنوات من الكتابة والعمل الفكري والسياسي ومن النضال السياسي سواء في صفوف "الحزب الديمقراطي أو مع مؤسسي حزب الأحرار الدستوريين.

وكان كتاب "الإسلام وأصول الحكم" ثمرة لذلك كله، فلنحاول مطالعة بعض مما جاء فيه "الحكم والحكومة والقضاء والإدارة ومراكز الدولة هي جميعًا خطط دنيوية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهي عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة".(22)

ويقول حول موضوع الخلاف "إذا كان في الحياة الدنيا شيء يدفع المرء إلى الاستبداد والظلم ويسهل عليه العدوان والبغي فذلك هو مقام الخليفة.. ومعه لا شيء إلا العسف ولا حكم إلا السيف".(23)

ويمضي قائلاً "إن شعائر الله تعالى ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذ يسميه الفقها خلافة وأولئك الذين يسميهم الناس خلفاء، فليس من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد".(24)

ويسأل الشيخ هل كان الرسول رسولاً لملكًا أم رسولاً فقط؟ ويجيب "أن القرآن صريح في أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لم يكن إلا رسولاً خلت من قبله الرسل"، ثم هو يؤكد بعد ذلك أن الرسول لم يعين من بعده خليفة، وإن كل الذين تزعموا المسلمين من بعده ومن بينهم الخلفاء الراشدون كانت زعامتهم مدنية أو سياسية وليست دينية، وأن أبا بكر هو الذي أطلق على نفسه لقب خليفة، وأن بيعته كانت ثمرة اتفاق سياسي، ومن ثم فإن حكمه كان حكمًا مدنيًا وكان اجتهاده اجتهادًا دنيويًا.

المهم، صدر الكتاب وقامت الدنيا ولم تقعد، فقد حرك الكتاب المياه الليبرالية الراكدة في المجتمع فتكتب مجلة الهلال "إن كل أمة إسلامية حرة في انتخاب من تريده حاكمًا عليها، وسواء كان الأستاذ علي عبدالرازق وقد وفق إلى أن يسند نظريته إلى الدين أم لم يوفق فإن هذه النظرية تتفق وأصول الحكم في القرن العشرين الذي يجعل السيادة للأمة دون سواها" (الهلال – يوليو 1925)

وكتبت جريدة المقتطف "أننا نعتقد أن كل ما قاله حضرة القاضي علي عبدالرازق وأمثاله قرين الصواب وخال من الخطأ".(25)

ثم تأتي مساندة ذات قيمة كبيرة من أحمد شوقي:

مضت الخلافة والإمام فهل مضى

                                                  ما كان بين الله والعباد

والله ما نسي الشهادة حاضر

                                             في المسلمين ولا تردد شادي

والصوم باق والصلاة مقامة

                                           والحد ينشط في عناق الحادي

وعلى الضفة الأخرى كان غضب الملك وغضب عديد من رجال الأزهر وغضب غيرهم. وكتب رشيد رضا محرضًا من لا يحتاج إلى تحريض "لا يجوز لمشيخة الأزهر أن تسكت على هذا الكتاب، لئلا يقول صاحبه وأنصاره أن سكوتهم عنه إجازة له، أو عجز عن الرد عليه"(26). وسريعًا أصدر الشيخ محمد بخيت المطيعي كتابًا يتهم فيه علي عبدالرازق بالوقوف ضد الدين. أما الشيخ الخضر حسين فقد أصدر كتابًا بعنوان "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" واللافت للنظر أنه أهدى الكتاب إلى "حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر الأعظم" طالبًا منه "حراسة الشريعة بالحجة والحسام". وجاء الحسام عبر هيئة كبار العلماء بالأزهر التي اجتمعت بالمؤلف وحاكمته وأصدرت حكمها في 12 أغسطس وقررت "نزع شهادة العالمية منه ومحو اسمه من سجلات الجامع الأزهر وطرده من كل وظيفة لعدم أهليته للقيام بأية وظيفة دينية أو غير دينية". وأسرع شيخ الأزهر ليبرق للملك بالحكم "شاكرًا له غيرته على الدين من عبث العابثين وإلحاد الملحدين وحفظ كرامة العلم والعلماء".

وتجري مياه كثيرة في نهر هذه المعركة لكن نهايتها تبقى مثيرة للدهشة حتى الآن. ففي عام 1947 كان حزب الأحرار الدستوريين شريكًا قويًا في الحكومة ورغب في تعيين علي عبدالرازق وزيرًا. وبناء عل رغبة سامية اجتمعت هيئة كبار العلماء ومعها أعضاء المجلس الأعلى للأزهر في 25 فبراير 1947 لتوجه رسالة للملك فاروق جاء فيها "أن المجتمعين يلتمسون من جلالة الملك وفضله غزير على الأزهر أن يتفضل فيعفو عن الأثر المترتب على الحكم الذي أصدرته هيئة كبار العلماء منذ 22 عامًا" وقبل الملك الالتماس ثم أصدر مرسومًا ملكيًا في 3 مارس 1947 بتعيين الشيخ علي عبدالرازق وزيرًا للأوقاف.

وهكذا ثأر الشيخ لنفسه ولكتابه.

لكن مسألة الخلافة تبقى، تخبو ثم تعود وتحتاج إلى مزيد من المواجهة.

وبرغم كل شيء يبقى البعض متمسكًا بهذا الوهم ليس عن عشق وإنما عن مصلحة. فهذا الوهم يمنحهم وهمًا أكبر.. هو إمكانية وصولهم للسلطة، وأن يصبح أميرهم أو مرشدهم ليس مجرد مرشد لجماعة كبرت أو صغرت وإنما أميرًا للمؤمنين جميعًا وفي شتى أقطار الأرض. وفي كتابه "الكامل في التاريخ" أورد ابن الأثير ما قال إنه حوار دار بين عمر بن الخطاب في أول أيام خلافته وبين المغيرة بن شعبة.. فقال:

ناداه المغير "يا خليفة الله" فرد عمر: ذاك نبي الله داود. فقال المغيرة: يا خليفة رسول الله فأجاب عمر "ذاك صاحبكم المفقود (يقصد أبا بكر)، فقال المغيرة إذن أناديك: يا خليفة خليفة رسول الله، فقال عمر: ذاك أمر يطول، فما كان من المغيرة إلا أن ناداه: يا عمر. فقال عمر: لا تبخس مكاني شرفه. أنتم المؤمنون وأنا أميركم". ومن ساعتها ناداه المسلمون "يا أمير المؤمنين".

ولنا على ذلك الحوار ملاحظتان الأولى هي أن هذه التسمية صناعة إنسانية أتت عبر حوارن وأخذ ورد وربما كان للحوار أن يتواصل إلى تسمية أخرى. أما الملاحظة الثانية فهي أن هذا المنصب ما لبث أن تحول وبعد رحيل ابن الخطاب إلى موقع سياسي تصارعت له قوى سياسية وقبلية كل أراده لنفسه أو لجماعته. ولأن الخلافة على الخلافة كان تعبيرًا عن مصالح بشرية فقد نسي أصحابه أي طابع ديني له وتباروا في صراعات مريرة خلت من أي وازع ديني وأن ظلت تستخدم الدين طلاء لذات الأفعال المنافية للدين.

وكانت الثمار مريرة فالخلفاء الأمويون كانوا 114 والعباسيون 22 أي أن مجموعهم تقريبًا 36 سبعة عشر منهم قتلوا غيلة، لكن الأكثر مرارة هو أن غالبيتهم كانوا من الأقارب والأبناء والأخوة.. سعيًا وراء المنصب بل إن أما قتلت انبها في هذا الصراع المرير والدائم على السلطة. الأمر الذي دفع بالصحابي الزاهد أبو ذر الغفاري إلى القول "والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي من كتاب الله ولا سنة نبيه، والله إني لأرى حقًا يطفأ، وباطلاً يحيا، وصدقًا مكذبًا وأثره يغير تقي".

وفي خضم هذه الصراعات التي تذكرنا بصراعات القصر في كل مكان وجدت فيه سلطة مطلقة في العالم ظل اسم "أمير المؤمنين: مستخدمًا بالحق والباطل. وتمسك به أو بالدقة تمسح به حكام لولايات صغيرة كل منهم وأيًا كان اقترافه من الدين أو ابتعاده عنه أسمى نفسه "أمير المؤمنين". في إمارات الشام والعراق حتى الأندلس ظلت هذه التسمية مستخدمة.

ولم تزل حتى عصرنا الحديث تستخدم، برغم إصرار كبار الفقهاء على رفض فكرة الخلافة وعلى رأسهم في العصر الحديث الأستاذ الإمام الشيح محمد عبده الذي قال "إن الإيمان بالله يرفع الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية، وهي دعوى القداسة والوساطة عند الله، دعوى التشريع والقول على الله بدون إذن الله، فالمؤمن لا يرضى أن يكون عبدًا لبشر مثله".(27)

ومع ذلك وحتى بعد أن اختفت دولة الخلافة العثمانية ظل موضوع الخلافة محل جدل بل وحاول البعض إقامتها تبعًا لذات الفكرة التي أوحت لحاكم مدينة صغيرة أن يسمي نفسه أميرًا للمؤمنين.. كل المؤمنين في كل العالم.

ولعلنا نذكر محاولة صالح سرية للاستيلاء على السلطة في مصر ببضعه طلاب من الكلية الفنية العسكرية. فهو قد لقن هؤلاء الطلاب في كتابه المسمى "رسالة الإيمان" ان التآمر "القومي" و"الوطني" مع "الاستعمار الغربي والماسونية قد حطم الخلافة العثمانية.

ومن ثم فقد هاجم كتابه كل رموز الوطن والوطنية وأسماها طقوس الشرك الجديدة ويقول "في كل الحكومات اليوم طقوس تعيد غلى الأذهان طقوس عبادة الأصنام ومنها "تحية العلم حيث يقوم أفراد الجيش والشرطة والطلاب بأداء التحية لقطعة قماش تسمى علم الدولة ويصبح العلم في هذه الحالة كأنه صنم تجري عبادته". وبذات المنطق قام صالح سرية بتكفير السلام الجمهوري أو الملكي أو الأميري وتحية قبر الجندي المجهول. وبهذا المنطق أيضًا أدان بالكفر كل من وقف في مواجهة دولة الخلافة فالقومية العربية وأية قومية أخرى كفر. والديمقراطية كفر. ثم يقول: "وكل من اشترك في حزب عقائدي فهو كافر لاشك في كفره فالأحزاب الاشتراكية والشيوعية والبعثية والقومية والاتحاد الاشتراكي كلها كافرة وكل من انضم إليها كافر، وكل من دعا للاشتراكية أو الرأسمالية كافر. وعلى أنقاض هؤلاء جميعًا أوطانًا وأحزابًا وحكامًا ستقوم دولة الخلافة أما سلاح دولة الخلافة فقد كان ثمانية عشر طالبًا من طلاب الفنية العسكرية، ورسم لهم خطة ساذجة للاستيلاء على السلطة ليتوج نفسه بهم أمير للمؤمنين، والمثير للدهشة أنه صدق نفسه، صدقها إلى درجة أنه ضبط معه عند القبض عليه بعد فشل المحاولة بيان يقول فيه "أيها الشعب الحبيب" أيتها الأمة المجاهدة الصابرة: لقد نجحنا والحمد الله صباح اليوم في السيطرة على الحكم واعتقال جميع المسئولين عن النظام السابق".

ومثله أيضًا شكري مصطفى، وكان مسجونًا من جماعة الإخوان وتتلمذ على أفكار الأستاذ سيد قطب وأسس تنظيمًا أسماه الجماعة المسلمة (التكفير والهجرة) وهو لم يكتف فقط بالدعوة إلى دولة الخلافة بل نصب نفسه أميرًا للمؤمنين واسمى نفسه "أمير آخر الزمان" وأنه أمير "الفرقة الناجية" وهو يؤكد في كتابه "التوسمات" الذي تركه مخطوطًا ضمن مخطوطات أخرى (لأن المطبعة عتاد كافر) أن الإسلام احتفى من الأرض إلا من أعضاء جماعته وأن الإسلام سيعود إلى الأرض مرة ثانية، سيعود كما بدأ وبنفس الطريقة التي بدأ بها. ويتمادى شكري مصطفى في توسماته فيرفض مبدأ التعلم من أجل إعمار الدنيا" وأي علم ليس من أجل الآخرة هو عبث وشرك" وحتى في القتال من أجل إقامة "دولة الخلافة" التي أسماها "دولة آخر الزمان" فإن القتال يكون كما فعل الرسول: بالسيف، والخيل، وسوف يحارب برجاله صفًا فالقتال في الصف متعلق بمحبة رسول الله. أما الطائرات والدبابات والقنابل الذرية والمناورات الحربية "فكلها أصول جاهلية أتت نتاجًا لمعصية الله، واعدت بأموال كافرة وأصول كافرة، وقد صنعتها الجاهلية بجاهليتها وليست بإيمانها وتقواها". لكن المثير للدهشة أنه عندما أختطف الشيخ الذهبي قتله بعتاد كافر وهو المسدس.

وينسج شكري مصطفى قصصًا خرافية عن اقتراب موعد خلافته على العالم أجمع، فعلامات القيامة تتحقق. ثم يكون المسيح الدجال وهو أعور وله علامات حددتها كتب السنة.. وبعدها يكون ظهور "جماعة الحق" .. "جماعة آخر الزمان" وأميرها أمير آخر الزمان هو السيد شكري مصطفى.. لكن أمير آخر الزمان يقبض عليه، ويعدم.

لكن وهم الخلافة يبقى، بل ويتحقق لأمير آخر في أفغانستان هو الملا عمر والملا هو طالب الدين الذي لم يتم تعليمه أما المولوي فهو الطالب الذي أتم تعليمه وتخرج عالمًا في الشريعة. نحن إذن إزاء مجرد طالب في مدرسة دينية ومع ذلك أسمى نفسه رسميًا "المجاهد الأكبر، خادم الإسلام، أمير المؤمنين ملا محمد عمر المجاهد". وقد أسس ملا عمر إمارته على أنقاض المتصارعين على السلطة في أفغانستان من "المجاهدين" بعد انسحاب الجيوش السوفيتية، وكان صراعهم وحشيًا. وقد بدأ حركته في قرية "كشك نخود" حيث أهذ قطعة من قماش أبيض كتب عليها "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ورفعها على أحد مباني القرية معلنًا قيام حركته التي تجمع حولها خمسون طالبًا. وبهم أسس دولة الخلافة التي تزايد عدد جنودها ليصل إلى 313.    

ونطاع بعض معلومات عن هذه الإمارة وردت في كتاب "طالبان العمائم والمدافع والأفيون" لمؤلف مصري هو الأستاذ عبدالحليم غزالي وربما كان هذا الصحفي أحد القلائل الذين تلقوا "بشارة" اللقاء مع الملا عمر وأجرى معه حوارًا، ويعتقد الطلبانيون أن من يقابل الملاء ولو مرة واحدة لن يدخل النار مهما فعل. والمعلومات والمواقف كل منها مثيرة للدهشة، وفي هذا الكتاب نقرأ "عارف الله العارف نائب وزير الاقتصاد لم يدرس الاقتصاد وليس لديه أية إحصائيات أو أرقام. وعندما سأله الصحفي عن رأيه في "العولمة" قال أنها أول مرة يسمع فيها هذه الكلمة. وملا محبوب الل رئيس فرع البنك الوطني في قندهار لم يدرس الاقتصاد ويقول ببساطة: ذهبت إلى كابول وتعلمت كيف تحفظ الأموال، وهو لا يعرف معنى كلمة تضخم، أما مبادئ الإمارة فهي ترفض الانتخابات فهي بدعة نصرانية، وكذلك الديمقراطية والأمير يستمع لأهل الشورى لكنه في نهاية الأمر يعمل برأيه و إعمالاً لقوله تعالى: "فإذا عزمت فتوكل"- لا يجوز تصوير ما فيه روح- الغناء والموسيقى ممنوعان- وقد سمح الأمير بزراعة الأفيون والاتجار فيه، وتحصل الإمارة على ذكاة الزروع من منتجيه وهي العشر ويقدر تقرير الأمم المتحدة أن إنتاج الأفيون قد زاد بنسبة 84% في ظل حكومة طالبان وبلغت قيمته 100 مليون دولار (28)، أما عن دور أسامة بن لادن في هذه الإمارة فهو معلوم بما يحتاج إلى مزيد من الإيضاح.. وكذلك مصير دولة الخلافة ومصير أميرها المجاهد الأكبر خادم الإسلام أمير المؤمنين.

وتمثل جماعة الإخوان أحد أهم القوى المعاصرة التي تنادي بفكرة الخلافة وضرورة بعثها وقد امتازت بأنها أقامت تنظيمًا دوليًا على نمط الخلافة المنشود. وتقول الوثيقة المعنونة "النظام العام للإخوان المسلمين" الإخوان المسلمون في كل مكان جماعة واحدة تؤلف بينها الدعوة ويجمعهم النظام الأساسي"

أما المادة الثانية فتقول "الإخوان المسلمين هيئة إسلامية جامعة تعمل لإقامة دين الله في الأرض" ونواصل القراءة في أهداف الجماعة منها "تحرير الوطن الإسلامي بكل أجزاءه.. والسعي إلى تجميع المسلمين جميعًا حتى يسيروا أمة واحدة" (ونلاحظ وطن إسلامي واحد وأمة واحدة على نطاق العالم). وتهدف الجماعة إلى "إعداد الأمة إعدادًا جهاديًا لتقف جبهة واحدة.. تمهيدًا لإقامة الدولة الإسلامية الراشدة" م3 توضح الوثيقة الهيكل التنظيمي الذي يقف على رأسه المرشد العام ومراقب عام في كل قطر والمراقبون أعضاء في مجلس الشورى العام" م11 ويتشكل مكتب الإرشاد العام من 13 عضوًا ثمانية أعضاء من مصر وخمسة يراعي في اختيارهم التمثيل الإقليمي. والجميع في كل الأقطار ملزمون باتباع تعليمات مكتب الإرشاد العام حول الأهداف والسياسات العامة وموقف الجماعة من مختلف الاتجاهات والتجمعات والقضايا المنوعة أما التفاصيل فمتروكة لإخوان الأقطار فأهل مكة أدرى بشعابها.

وهكذا أقامت الجماعة خلافتها الخاصة بها على امتداد وجودها في مختلف الأقطار سعيًا وراء إقامة دولة الخلافة. ويبقى أن هذا التنظيم الدولي الذي يمنح الجماعة نفوذًا وتمويلاً واتساعًا في مجالات الحركة، يمثل في ذات الوقت أعباء لعل أقلها أنه يقف بالجماعة في مواجهة القانون المصري الذي يحظر حزبًا يكون فرعًا أو مركز لتنظيم دولي. كما يضع الجماعة وحكمها في موقع الالتزام بما قد يؤثر على التزاماتها المصرية مثلما يجري الآن من مجاملات لحركة حماس متمثلاً في الأنفاق التي تعبث بالسيادة المصرية وتعبئ في أرض سيناء قوى إرهابية تهز أركان السيادة المصرية هناك وتهدر أمن مصر كلها.             


 

الهوامش

(1)             ابن أبي الحديد- شرح نهج البلاغة – جزء 2- ص 9.

(2)             أبو جعفر الطوسي- تلخيص الشافي – جزء 1-ص 9

(3)             سليمان كتاني- الإمام الحسين في حلة البرفير- إيران- ص 72

(4)             المرجع نفسه ص 38

(5)             السيوطي- الاتقان في علوم القرآن- ص48

(6)             نظرية الإسلام وهديه- ص 71

(7)             الرسائل – ص27

(8)             حتمية المواجهة ص 63

(9)             غاية المرام في علم الكلام- ص 363

(10)        ابن إياس- بدائع الزهور فيوقائع الدهور- الجزء 2- ص124

(11)        د.عبدالعزيز شادي- الدولة العثمانية – الجزء الأول- ص9

(12)        التاريخ السري للاحتلال البريطاني في مصر- الطبعة الإنجليزية –ص 70

(13)        بلنت- ص47

(14)        التايمز- 30-6-1882- نقلاً عن عبدالله النديم- تاريخ مصر في هذا العصر- مخطوط- حققه د.محمد خلف الله.

(15)        سليم خليل نقاش- مصر للمصريين- الجزء 5- ص 201.

(16)        الشيخ محمد عبده- الأعمال الكاملة- جزء 2- ص139

(17)        المرجع السابق- ص125

(18)        محمد محمد حسين- الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر- جزء 1- ص 47

(19)        المنار- مجلد 25-19 شعبان 1342- 25 مارس 1924

(20)        المؤتمر- ربيع الأول 1343

(21)        السياسة – مارس 1926

(22)        علي عبدالرازق- الإسلام وأصول الحكم- ص102

(23)        المرجع السابق- ص28

(24)        المرجع نفسه- ص36

(25)        المقتطف- اغسطس 1925

(26)        المنار- 21 يونيو 1925

(27)        الشيخ محمد عبده- الأعمال الكاملة- الجزء الثالث- ص 285

(28)        الأمم المتحدة- تقرير اللجنة الدولية لمكافحة المخدرات- عام 1995.

شارك