الهُويَات القاتلة

الخميس 11/يوليو/2019 - 12:30 م
طباعة الهُويَات القاتلة
 
اسم الكتاب - الهُويَّات القاتلة
الكاتب – أمين معلوف 
الناشر – دار النهار – بيروت

الهُويَات القاتلة
منذ أن غادر الكاتب أمين معلوف لبنان للاستقرار في فرنسا، وهو يتعرض دائما للتساؤل حول هُويته من هنا جاءته فكرة هذا الكتاب، حيث يقول كم من مرة سألني البعض عن طيب نية إن كنت أشعر بنفسي "فرنسياً" أم "لبنانياً"، وكنت أجيب سائلي على الدوام: "هذا وذاك"، لا حرصاً مني على التوازن والعدل بل لأنني سأكون كاذباً لو قلت غير ذلك، فما يحدد كياني وليس كيان شخص آخر هو أنني أقف على مفترق بين بلدين، ولغتين أو ثلاث لغات، ومجموعة من التقاليد الثقافية. وهذا بالضبط ما يحدد هُويتي..." 
يتساءل أمين معلوف، انطلاقاً من سؤال عادي غالباً ما طرحه عليه البعض، عن الهوية، والأهواء التي تثيرها، وانحرافاتها القاتلة، لماذا يبدو من الصعب جداً على المرء الاضطلاع بجميع انتماءاته وبحرية تامة؟ لماذا يجب أن يترافق تأكيد الذات، في أواخر هذا القرن، مع إلغاء الآخرين في أغلب الأحيان، هل تكون مجتمعاتنا عرضة إلى الأبد للتوتر وتصاعد العنف، فقط لأن البشر الذين يعيشون فيها لا يعتنقون الديانة نفسها، ولا يملكون لون البشرة عينه، ولا ينتمون إلى الثقافة الأصلية ذاتها، هل هو قانون الطبيعة أم قانون التاريخ الذي يحكم على البشر بالتناحر باسم هويتهم؟ 
لقد قرّر المؤلف كتابة "الهويات القاتلة" لأنه يرفض هذا القدر المحتوم، وهذا الكتاب يزخر بالحكمة والتبصر والقلق، وكذلك بالأمل، ولعل من الطروحات الجريئة التي كتبها الكاتب المسيحي وأصر عليها فكرة التعايش التي يتيحها الإسلام مع المختلف الديني، والتي كانت واضحةً في القرن التاسع عشر، فيقول أمين معلوف: "في التاريخ الإسلامي ومنذ بدايته، امكانية ملحوظة للتعايش مع الآخرين، في أواخر القرن الماضى، كان في عداد سكان اسطنبول عاصمة اكبر قوة اسلامية، غالبية من غير المسلمين، وبنوع خاص من اليونانيين والارمن واليهود. فهل يمكن ان نتصور في الحقبة نفسها نصف السكان من غير المسيحيين، أي من المسلمين او اليهود، في باريس ولندن وفيينا او في برلين؟ فحتى يومنا هذا ما يزال الكثير من الاوروبيين يصدمون لدى سماعهم صوت المؤذن في مدنهم.
لا أطلق الأحكام، وإنما أستنتج فقط أنه على مر التاريخ الإسلامي، قد سادت ممارسة التعايش والتسامح، وهنا أسارع إلى القول إن فكرة التسامح لا ترضينى، فلا يهمنى أن أعامل بتسامح بقدر ما يهمنى فرض اعتبارى كمواطن كامل الحقوق مهما كانت معتقداتى، سواء اكنت مسيحيا او يهوديا في بلد ذى غالبية اسلامية، ام مسلما في وسط مسيحى ام يهودى، ام حتى اذا اعلنت عدم انتمائى الى اية ديانة. اما الفكرة القائلة بان اهل "الكتاب" اى التوراة، يجب ان يوضعوا في ذمة المسلمين، فلم تعد مقبولة اليوم لما توحى به من الدونية التى لم تخل ابدا من الاذلال.
لكن لابد من اجراء المقارنة حيث يجوز ذلك، فقد طبق الإسلام "بروتوكولا متسامحا" في عصر لم تكن فيه المجتمعات المسيحية تتسامح في أي مجال. وقد ظل هذا "البروتوكول" على مر قرون الشكل الاكثر تطورا للتعايش في العالم اجمع، فيما لم يبزغ الوضع الجديد، القريب من مفهومنا الحالي لحرية المعتقد الا في منتصف القرن السابع عشر، وذلك في امستردام، او بعد ذلك بقليل في إنكلترا، ولم يستطع رجل مثل كوندورسه أن ينادى بتحرير اليهود في فرنسا إلا في نهاية القرن الثامن عشر، ولم يتحسن وضع الاقليات الطائفية ضمن اوروبا المسيحية، بعد الفظائع المشهورة، إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، وهذا ما نامل ان يكون نهائيا.
ان "بروتوكول التسامح" الذى كان سائدا في الدول الإسلامية لم يعد يناسب المعايير الحديثة. فهل تم تحديثه ام تجديده ام تكييفه؟ جوهريا لا، حتى انه يمكن القول انه بدل ان يعاد الاعتبار الى مبادئ التسامح بما يتلاءم وتطلعات معاصرينا فقد اهملت اعادة النظر فيها لدرجة ان العالم الإسلامي وبعد ان كان على مدى عصور في طليعة  المتسامحين، وجد نفسه في المؤخرة. لكن انقلاب" الموازين المعنوية" هذا بين شمال وجنوب المتوسط هو حديث، وحديث جدا وليس انقلابا كليا كما يظن البعض.
وهنا أيضا يجب تفنيد رأيين سائدين، الرأي الذى يعتبر ان اعمال العنف الحالية ليست الا حالات طارئة عابرة، وذلك بالنظر الى المحصلة الايجابية اجمالا في الحساب التاريخي للتسامح الإسلامي، والرأي المعاكس الذى يستند الى انعدام التسامح الحالي ليجعل من الموقف القديم ذكرى لا فائدة منها. فانا ارى في الموقفين نوعا من العبثية. فبالنسبة الى يبرهن التاريخ بكل وضوح ان الإسلام يحمل في ذاته طاقات هائلة على التعايش والتفاعل المثمر مع الثقافات الاخرى، لكن التاريخ الاكثر قربا يشير ايضا الى ان حركة الارتداد ممكنة، وان هذه الطاقات يمكنها ايضا، ان تبقى حقا في حالة الكمون لفترة طويلة.
وسأذهب ابعد قليلا لأوضح فكرتي، ولو بصعوبة. فاذا ما اقمنا مقارنة بين تاريخ العالم المسيحي وتاريخ العالم الإسلامي لاكتشفنا، من جهة ديانة ظلت لفترة طويلة غير متسامحة وتحمل في ذاتها نزعة تشدد واضحة، ولكنها تحولت شيئا فشيئا الى ديانة منفتحة، ومن جهة اخرى ديانة تحمل في ذاتها دعوة الى الانفتاح ولكنها انحرفت شيئا فشيئا الى مواقف متشددة.
الهُويَات القاتلة
والامثلة على ذلك كثيرة، ويكفي ان نذكر بمصير المانويين أو مصير بروتستانتى فرنسا او اليهود، ونبين كيف عومل اولئك الذين اعتبروا مهرطقين او منشقين او كفرة في كل من الوسطين الموحدين...لكن ليس هذا الكتاب بحثا في التاريخ، كما انه ليس دليلا في المفارقات. فانا عندما اقارن بين المسارين انما يشغلنى سؤال واحد: لماذا كان التطور ايجابيا في الغرب ومخيبا للآمال في العالم الإسلامي؟ نعم، لا بل احدد واصر على التساؤل: لماذا استطاع الغرب المسيحي الذى عرف مسيرة طويلة من التشدد، والذى لم يكن دائما قادرا على التعايش مع "الاخر"، ان ينتج مجتمعات تحترم حرية التعبير فيما العالم الإسلامي، الذى طالما مارس التعايش بات اليوم يعتبر معقلا للتعصب؟ انه المجتمع  
  ففي العالم الإسلامي، أنتج المجتمع باستمرار ديانة على صورته، ديانة هي بالتالي لم تكن نفسها من عصر إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، فيوم كان العرب يحققون الانتصارات، ويوم كانوا يشعرون أن العالم ملك لهم كانوا يترحمون ايمانهم بروحية التسامح والانفتاح. فهم مثلا انطلقوا في مشروع ضخم لترجمة التراث اليوناني كما الفارسي والهندي، وهذا ما ادى الى نهضة العلم والفلسفة، وقد اكتفوا بادئ الامر بالتقليد ثم بالنقل حتى كانت لهم الشجاعة على التجديد في مجالات علم الفلك والزراعة والكيمياء والطب والعلوم الرياضية، وحتى في الحياة اليومية في فنون الطبخ واللباس والتسريحات او الغناء كما ظهر"شيوخ" للموضة في ذلك العصر ويبقى زرياب اشهرهم على الاطلاق.
ولم يكن هذا كله امرا عارضا. فمن القرن السابع حتى القرن الخامس عشر عرفت بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وتونس علماء كبارا ومفكرين كبارا وفنانين كفوئين، وحتى القرن السابع عشر، وما بعده احيانا تحققت اعمال عظيمة ورائعة في كل من اصفهان وسمرقند واسطنبول. ولم يكن العرب وحدهم مساهمين في هذه الحركة. فمنذ عهوده الاولى انفتح الإسلام دون اية حواجز على الفرس والاتراك والهنود والبربر، وهو بحسب البعض لم يكن حذرا في ذلك اذ سيجد العرب انفسهم مغمورين، وسرعان ما سيخسرون السلطة داخل الامبراطورية التى انشأوها وكان ذلك ثمن العالمية التى نادى بها الإسلام. وكان يحدث احيانا ان تنزل جماعات من المحاربين التركمان سهوب اسيا الوسطى، وما ان يصلوا الى ابواب بغداد حتى يتلو هؤلاء اية الايمان "لا اله الا الله محمد رسول الله" فلا يحق بعدها لاحد ان يعترض على انتمائهم الى الإسلام ولا يلبث هؤلاء، غداة ذلك، ان يطالبوا بحصتهم في السلطة مبدين حتى حماسا زائدا كما يفعل عادة المنضمون الى دين جديد. فمن ناحية الاستقرار السياسى، كان الوضع يبدو احيانا سيئا للغاية، اما من الناحية الثقافية فيا للغنى العجيب! فمن حدود بلاد الهندوس الى المحيط الاطلسى استطاعت الادمغة الاكثر علما من التفتح في حضن الحضارة العربية. ولم يكن ذلك في اوساط معتنقى الديانة الجديدة فقط ففي مجال الترجمة تمت الاستعانة كثيرا بالمسيحيين الذين كانوا على المام اعمق باللغة اليونية، والامر الذى يبدو ذا دلالة واضحة في هذا المجال ان يكتب ابن ميمون بالعربية مؤلفة "دليل الحائرين" وهو احد ايات الفكر اليهودى.
ولا اسعى هنا الى القول ان هذه الصورة التى رسمتها عن الإسلام هى الصورة الوحيدة عنه، ولا انها اكثر تمثيلا للعقيدة من حركة" طالبان" مثلا،( او داعش الان )  وعلى كل لم تكن غايتي الحديث عن حركة اسلامية بعينها، فبهذه السطور القليلة قمت بجولة افق عبر عصور وبلدان تجلى فيها الف شكل وشكل للإسلام فبغداد مثلا تضج بالحياة، فيما هي نفسها اضحت في القرن العاشر متذمرة متزمتة مضجرة. وعلى العكس كانت قرطبة في القرن العاشر في اوج ازدهارها لتتحول في القرن الثالث عشر معقلا للتعصب، ذاك ان القوات الكاثوليكية كانت تتقدم نحوها قبل ان تسيطر عليها في ما بعد، ولذلك كان اخر المدافعين عنها يرفضون سماع اى صوت مختلف.
هذا الموقف يمكن أن نتبينه في عصور أخرى، منها عصرنا هذا، فقد عرف المجتمع الإسلامي كيف يمارس سياسة الانفتاح كلما شعر بالأمان، اما صورة الإسلام كما يظهر في تلك العصور فهي لا تشبه بشيء صوره المشوهة المعاصرة، ولا اسعى هنا القول ان الصورة القديمة تعكس الموحيات الأساسية للإسلام، بل بكل بساطة ان هذه الديانة كغيرها من الديانات والعقائد تتسم في كل عصر بطوابع الزمان والمكان. فالمجتمعات الواثقة من نفسها تنعكس في ديانة واثقة هادئة منفتحة، اما المجتمعات غير الامنة فهى تنعكس في ديانات منكمشة متزمتة متعجرفة. والمجتمعات الحيوية تنعكس في اسلام حيوى مجدد خلاق، اما المجتمعات المتحجرة فهى تنعكس في اسلام متحجر عاص على اقل تغيير
لكن لندع جانبا هذه المقابلات التبسيطية في النهاية بين الديانة "الجيدة والرديئة"، لننتقل الى تحديدات أكثر دقة، فعندما أثير موضوع تأثير المجتمعات على الديانات، فذلك لأنى ارى مثلا انه عندما تصدى مسلمو العالم الثالث بعنف للغرب، فليس ذلك لانهم مسمون ولأن الغرب مسيحى، ولكن ايضا لانهم فقراء ومحكومون ومذلولون فيما الغرب قوى وغني، استعملت كلمة "ايضا" وكان الاحرى ان اقول " في الغالب" لأننى عندما انظر في الحركات الإسلامية المناضلة في عصرنا اميز بسهولة تأثير فكر العالم الثالث الذى كان سائدا في الستينات، سواء في الخطاب ام في الوسائل لا بل إني وبعد بحث مستفيض في تاريخ الإسلام، لم اجد لهذه الحركات أي جذور مقنعة، فليست هذه الحركات نتاجا كليا للتاريخ الإسلامي بقدر ما هى نتاج عصرنا بتوتراته وانحرافاته وممارساته وخيباته.
كما أنني لا أناقش هنا عقائد هذه الحركات، ولا اتساءل ان كانت مطابقة ام لا للإسلام، قد سبق لي ان بينت رايى في هذا النوع من التساؤلات وما اقوله فقط هو اننى ارى بوضوح لماذا هذه الحركات هى نتاج عصرنا المضطرب، فيما لا ارى لماذا تكون نتاج التاريخ الإسلامي. فعندما كنت ارى اية الله "الخمينى" محاطا بـ"حراس الثورة" يطلب الى شعبه ان يتكل على قواه الذاتية ويهاجم "الشيطان الاكبر" واعدا بمحو أي اثر للثقافة الغربية كان لا بد لى ان اتذكر ماوتسى تونغ العجوز، صاحب الثورة الثقافية، محاطا بـ" حرسه الحمر" يهاجم "نمر الورق الكبير" واعدا بمحو كل تاثير للثقافة الرأسمالية، لن اقول إنهما متشابهان، لكننى أجد بينهما الكثير من القواسم المشتركة فيما انا لا اجد بأي شكل من الاشكال في التاريخ الإسلامي ما يذكرنى بالخمينى، ومن جهة اخرى قمت بأبحاث كثيرة ولم اجد ايضا في تاريخ العالم الإسلامي اية اشارة الى اقامة "الدولة الإسلامية" او الى نجاح "الثورة الإسلامية".
ان ما اعترض عليه هو ما درجت عليه العادة، في الشمال كما في الجنوب، عند المراقبين او عند المؤمنين الغيورين، من تصنيف كل حدث يقع في بلد إسلامى في خانة "الإسلام"، بينما هناك عوامل اخرى عديدة ومتداخلة توضح ما يحدث بشكل افضل، فبامكانك ان تقرا عشرة مجلدات ضخمة حول تاريخ الإسلام منذ نشأته دون ان تفهم ما يحدث في الجزائر. لكنك ستفهم افضل بكثير لو انك قرات ثلاثين صفحة حول الاستعمار وازالة الاستعمار.

شارك